كما هي الطبيعة، فالسياسة الدولية لا تعرف الفراغ، فمن يخرج أو يفقد موقعاً في اللعبة، يتم ملء الفراغ الذي نشأ بشكل سريع من قبل لاعب آخر. ومنذ ديسمبر 2010، عندما بدأ الربيع العربي في تونس، شهدت التحركات السريعة والمتلاحقة التي شهدتها المنطقة العربية في السنوات الخمس الأخيرة خروج أطراف ودخول أطراف جدد في المعادلة.
ومن بين اللاعبين الأكثر تأثراً بسبب هذه التطورات كانت بلا أدنى شك أحزاب الإسلام السياسي، التي شهد تأثيرها على الساحة الإقليمية تغييراً جذرياً.
أحد تلك الأحزاب حركة المقاومة الاسلامية حماس، التي ابتعدت عن المحور السوري والإيراني مع بدء الحرب في سوريا عام 2011، ورمت نفسها في أحضان محور قطر وتركيا وخاصة مصر أثناء فترة حكم حركة الإخوان المسلمين تحت ولاية محمد مرسي. ومع ذلك، لم يستمر تحالف حماس اكثر من سنة واحدة خلال فترة حكم مرسى للبلاد، حين اختلفت المعادلة كلياً بسيطرة الجيش على صناعة القرار للنظام المصري والإطاحة بمرسي في يوليو 2013.
وبسبب قرب حركة حماس من حركة الإخوان المسلمين، العدو اللدود للجيش المصري، تحوّل شهر العسل بين حماس ومصر مع تولي اللواء السيسي سدّة الحكم في مصر إلى عداوة.
ولفترة طويلة، كان النظام المصري، يلعب دور الوسيط سواء في المصالحة الفلسطينية الداخلية بين حركتي فتح وحماس، أو دور الوسيط بين حركة حماس وإسرائيل فيما يتعلق بإتفاقيات الهدوء أو مبادلة الاسرى. القطيعة بين النظام المصري وحركة حماس جعل هناك نوع من الفراغ. وفي هذا الإطار حاولت كل من تركيا وقطر ملئ الفراغ الناشئ ولكن الضغوط عليهما ومعادتهما من قبل مصر جعلت الطرفين ينأون بأنفسهم من الإجتهاد في ملئ هذا الفراغ، على الاقل بالعلن، لأسباب عدة منها رفض السلطة الفلسطينية ودول الخليج لهذا الدور. من ناحيةٍ أخرى، تتمتع حماس بعلاقات متميزة مع كل من قطر وتركيا. وفي ضوء ذلك، ينعكس توتر علاقة حماس والقاهرة على العلاقة بين مصر وكل من قطر وتركيا حيث عمد كلا البلدين على سحب سفرائهما وتخفيض التمثيل الدبلوماسي في القاهرة.
كما قامت الدولة الاتحادية السويسرية وعن طريق مكتبها التمثيلي في رام الله منذ عدة أشهر بتكثيف الاتصالات مع حركة حماس من أجل ملف واحد وهو إندماج الموظفين القدماء مع الموظفين الجدد في قطاع غزة.
ولم يتم بعد حل مشكلة الموظفين الذين تم تعينهم أثناء تولي حماس للحكم، ولم يتم إدراجهم أو الأعتراف بهم ضمن قائمة الموظفين التابعين للسطلة الوطنية. وفي حين تصر حماس على إدماجهم جميعاً في النظام الحكومي، تسعى حكومة رام الله الى إستبدالهم بالموظفين الذين كانوا يعملون قبل سيطرة حركة حماس على قطاع غزة والذين يتقاضون منذ ثماني سنوات رواتبهم على الرغم من استنكافهم عن العمل. نتجت عن هذه اللقاءات فيما بعد بما يُسمى “بالورقة السويسرية“، التي تقوم على مبدأ رئيسي ينص على: “من يعمل يجب أن يأخذ راتب شهري، ومن يأخذ راتب شهري يجب أن يعمل”.
منطقية هذا المبدأ جعلت الرئيس الفلسطيني يوافق على الورقة السويسرية أثناء زيارته للعاصمة بيرن بداية شهر مارس 2015، بالإضافة الى موافقة حركة حماس بسبب ضمان إندماج عدد كبير من الموظفين الذي تم تعينهم أثناء تولي الحركة للحكومة منذ منتصف عام 2007. وعلى الرغم من بعض التحفظات التي أبداها عدد من قادة حماس (على سبيل المثال، زياد ظاظا) في المؤتمرالصحفي الذي عُقد في 24 مارس حول عدة نقاط ومنها موضوع “السلامة الأمنية” الذي يخص الموظفين. سويسرا أوجدت لنفسها حيزاً في المكان الشاغر الذي تركته مصر من تلقاء نفسها عندما تم تصنيف حركة حماس من قبل محكمة الأمور المستعجلة في فبراير 2015 ضمن قائمة المنظمات الإرهابية. وبالتالي وجدت نفسها مصر في وضع صعب، إذ لا يجوز التحاور مع الحركة التي تم تصنيفها من قبل مصر بالإرهابية. هذا الخطوة السياسية الخاطئة تداركها متخذي القرار المصري بسرعة حين أوجدا طريقة بإعلان المدعي تنازله عن الحكم الصادر وبالتالي تم إعتبار الحكم الصادر من قبل المحكمة نهاية شهر فبراير كأن لم يكن.
ماذا تريد سويسرا؟
في حقيقة الامر لا يمكن بأي حال من الأحوال تضخيم الدور السويسري، وفي نفس الوقت لا يمكن التقليل من شأنه في المعادلة الفلسطينية الداخلية، سويسرا تريد لعب دور الوسيط الإيجابي في هذه المرحلة، خاصة بعد تفاقم الأمور في قطاع غزة بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة (يوليو- أغسطس 2014) وعدم البدء الفعلي في عملية الإعمار وزيادة نسبة البطالة إلى 55% وحدة الفقر في المجتمع الغزي إلى 65% وفقاً للمتحدث باسم غرفة تجارة غزة في لقاءٍ له مع موقع الوطنية الإخباري على شبكة الانترنت في 8 أبريل 2015.
السلطة الفلسطينية تحت قيادة محمود عباس تريد كسر شوكة حماس ولا تؤمن بالاندماج والشراكة السياسية مع من يختلف معها بالنهج السياسي، وهذا هو القاسم المشترك بين السلطة والنظام المصري الذي ينتهج سياسة السلطة الوطنية تجاه حماس بشكل خاص وتجاه قطاع غزة بشكل عام.
من ناحيتها تود إسرائيل المحافظة على الهدوء النسبي مع قطاع غزة، بغض النظر من يحكم القطاع. ما زاد الأمور تعقيداً بالنسبة للسلطة الوطنية وللنظام المصري على حد سواء، هو الدور القطري الذي يريد البدء في إعمار قطاع غزة بغض النظر عن المورد لمواد البناء، وهو صاحب النسبة الاكبر في المساهمة في عملية الإعمار التي تقدر بمليار دولار أمريكي. في حين وصل السفير القطري المسؤول عن ملف الاعمار، إلى قطاع غزة في 8 مارس 2015 عن طريق المعابر الاسرائيلية بعد رفض السلطات المصرية له الدخول لقطاع غزة عبر معبر رفح المغلق منذ فترة طويلة.
واستطاع السفير بالفعل أن يبرم عدة صفقات مع الجانب الاسرائيلي بشراء جميع الكميات اللازمة لعملية الإعمار من قبل اسرائيل. وكان من المفترض شراء نسبة كبيرة من مواد البناء من الجمهورية المصرية وفقاً لخطة اعادة الاعمار التي قدمت في مؤتمر القاهرة (12 أكتوبر 2014). وعلى ما يبدو، فقد فقدت قطر الأمل في أن تتجاوب مصر في هذا الإتجاه بسبب استمرار التوتر بين الحكومتين والتأخير الطويل الذي عمدت إليه مصر في تحديد ما إذا كانت ستسمح للسفير القطري بالعبور إلى غزة من معبر رفح.
لسان الحال الغزي يقول: كلٌ من السلطة الفلسطينية والنظام المصري “لا يريدون أن يرحموا غزة، ولا يريدون أن تنزل رحمة الله عليها”. هذا المشهد تم قراءته من قبل الجميع، أولهم الإدارة الأمريكية، والإتحاد الأوروبي وأيضاً إسرائيل. هذه الأطراف الثلاث المذكورة لا تريد أن تشهد إنفجاراً وشيكاً من قبل غزة في الوقت الحالي بالذات بل يفضلون حالة الهدوء الحالية بعد العملية العسكرية الأخيرة، ولهذا السبب يوجد هناك موافقة غير معلنة من قبل هذه الأطراف للدور السويسري في المعادلة الفلسطينية الداخلية.
ومع ذلك، تأتي زيارة رئيس الوزراء الفلسطيني، رامي الحمد لله، إلى قطاع غزة بتاريخ 25 مارس في هذا السياق أيضاً، وتهدف الى إرسال رسالة إلى بيرن والدوحة وللعالم أجمع، بأن السلطة الوطنية موجودة في غزة، وبالتالي يتم تجاوز كل من الدور السويسري و الدور القطري في هذا السياق، أي بمعنى آخر بأن باب غزة يمر عبر رام الله، وبالتالي وقف التفاهم القطري الإسرائيلي فيما يتعلق بعملية الإعمار للقطاع بطريقة غير مباشرة.
المعطيات على الأرض تشير بأن سويسرا التي لا تتبع الإتحاد الأوروبي لها هدف آخر من عملية الوساطة الفلسطينية – الفلسطينية، وهو تحيد حركة حماس لمواقفها السياسية فيما يخص السياسة الفلسطينية الإسرائيلية. حيث تدل نتائج الإنتخابات الإسرائيلية إلى عدم إمكانية المضي قدماً في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية طالما يستخدم نتنياهو شماعة حركة حماس وعدم وجود إجماع فلسطيني فيما يخص المستقبل الفلسطيني. فقط عند تحييد حركة حماس في موقفها السياسي، يمكن ممارسة ضغوطات من قبل الإتحاد الأوروبي والإدراة الأمريكية على متخذي القرار الإسرائيلي من إجل مواصلة المفاوضات لتحقيق رؤية حل الدولتين.