وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

التحديات البيئية في السودان

Specials- Pollution in Sudan
المصدر AFP

التحديات البيئية التي يواجهها السودان، ذلك القطر الأفريقي البالغ مساحته 1,88 مليون كم2 ؛ تحدياتٌ ليست بالهينة، فالبلد الذي يضم ثلاثة أقاليم مناخية ذاخرة بالتنوع الحيوي؛ تُنهكهُ الحروب التي تندلع في مساحاتٍ تقدر بـ32,7% من جملة مساحته، وتستهلك حوالي ثُلثي إجمالي ميزانيته المحدودة.

يواجه السودان تحدياتٍ كثيرة، يقف في صدارتها تزايد معدلات التصحر وتدهور التربة، بفعل تراجع معدل اﻷمطار وموجات الجفاف التي ضربت البلاد في العقود اﻷخيرة، والتي ترتب عليها هدرٌ متسارع في المساحات الرعوية والزراعية والغابية في مقابل احتياجات الغذاء والطاقة المتزايدة للسكان الذين يبلغ تعدادهم حوالي 39,5 مليون نسمة، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة عام 2017. يتركز ثلث هؤلاء السكان في المدن الحضرية والعاصمة الخرطوم. بل إن الحاجة المتزايدة للغذاء والطاقة هي نتيجة لعوامل الجفاف الطويل والحروب والتدهور التنموي.

السكان والبيئة

ساهم هذا التركز السكاني في التمدد الافقي للمدن على حساب المزيد من المساحات الزراعية والأحزمة الخضراء الواقية من خطر انجراف التربة والتصحر. كما ساهم في تدني الخدمات فيها وارتفاع معدلات التلوث البيئي والإصابة بالأمراض الناجمة عنها لدرجة اقرت فيها وزراة الصحة السودانية في يناير 2014 بارتفاع معدلات الوفيات الناتجة عن تردي أوضاع صحة البيئة. وعادت وأكدت في ديسمبر 2016 ان 19% من الاصابات بامراض السرطان، و80% من اصابات الامراض السارية سببها تردي صحة البيئة في البلاد.

وعلى صعيد المدن تبدو قضايا تلوث مياه الشرب والغذاء والهواء والتخلص من النفايات الصناعية والمنزلية هي القضايا المتشابكة الأبرز ضمن القضايا العامة.

يشكل تلوث مياه الشرب الهاجس الأول لسكان المدن حيث تصاحب الشكوك مدى كفاءة محطات مياه الشرب والتزامها بالضوابط الصحية العالمية، وتبرز التقارير اختلاط مياه الصرف الصحي بمياه الآبار الجوفية، وعدم مطابقتها ومياه المحطات للمواصفات العالمية لمياه الشرب من الناحية الأحيائية والكيميائية. وهو تلوث محل اعتراف وزارة الصحة السودانية التي عزت اليه العام الماضي إصابة نحو 16 ألف شخص بالإسهال المائي في عدد من الولايات (فقد وصل عدد الإصابات في ولاية واحدة، ولاية النيل الأبيض، إلى 5 آلاف إصابة) وبين أغسطس 2016 ويونيو 2017، توفي 317 شخصاً بسبب الإسهال المائي في السودان، وفقاً لتقريرٍ صادر عن منظمة الصحة العالمية. وتعود بعض نسب التلوث العالية لفضلات المصانع التي يوجد اغلبها بالقرب من ضفاف الأنهار، كالتصنيع الحربي ومدينة جياد ومصانع السكر والصابون والأغذية والبتروليات والشحوم ومدابغ الجلود والتي تصب مخلفاتها الصلبة والسائلة مباشرة في المجاري المائية للأنهار دون معالجة جزئية اوكلية، الأمر الذي يهدد الحياة المائية وإنتاجية الأرض الزراعية ايضاً (حادثة نفوق اسماك النيل الأبيض 2010). وعلاوة على ذلك، تعود بعض نسب التلوث لشبكات المياه المصنوعة من مادة الاسبستس المسرطنة.

التلوث والنفايات

يبدو التلوث الغذائي أيضاً واسع الانتشار لضعف الإشراف الحكومي والرقابة، بدءاً من تلوث الماء والتربة بالمخلفات المؤثرة على الإنبات، مروراً بالاستخدام غير المرشد للمخصبات والمعالجات الكيميائية ومبيدات الحشرات والأعشاب، والملوثات المرتبطة بالنظافة في عمليات الحصاد والتغليف والنقل ووسائل الحفظ، انتهاءاً بأسلوب العرض في الأسواق، حيث الباعة المتجولين الذين يعرضون المياه والأطعمة على أرصفة الطريق، ويفترشون الأرض بالقرب من مياه الصرف الصحي بحوامل معرضة للذباب والأتربة ودخان عوادم السيارات، وحيث المطاعم ضعيفة الشروط الصحية، إضافة لتجاوزات الضوابط التصنيعية والإستيرادية الخاصة بالصلاحية والجودة.

وبصرف النظر عن الغازات المنبعثة من عوادم السيارات، هناك أيضاً الغازات الناتجة عن عمليات الإحتراق بالمصانع مثل ثاني أكسيد الكربون والنيتروجين والكبـريت، التي تسبب أيضاً تلوث الهواء، وبخاصة أن وسائل معالجتها عالية التكلفة على المصانع الصغيرة والمتوسطة.

وهناك ايضاً الغازات السامة الناتجة عن حرق مرادم النفايات المخصصة، وحرق المخلفات المنزلية داخل الأحياء عشوائياً، وحرق الطوب والخزف، والأخرى الناجمة عن طفح مجاري الصرف الصحي.

المصادر: World Bank Data and Climate Change Knowledge Portal - The World Bank Group. إضغط للتكبير. @Fanack ©Fanack CC BY 4.0

كما يبدو جلياً أن تلوث مياه الشرب والغذاء والهواء يرجع في معظمه لآلية التجميع والتخلص من النفايات الصناعية والمنزلية القاصرة في جميع مدن السودان، حيث يبين العجز عن التخلص من النفايات بكافة أشكالها، إذ تعتمد معالجة جماعية دون فرز النفايات السائلة وتحليلها على اساس المكون، أو الصلبة على حسب نوعها، او فلترة الغازية الناجمة عن عملية التخلص، كما لا توجد صناعات لتدوير المخلفات والإستفادة منها.

تعتمد آلية تجميع النفايات الصلبة على ناقلات المصانع وشركات النظافة، حيث تنقل إلى مرادم مخصصة كمردم مدينة امدرمان الذي يعتبر ثالث اكبر مردم في أفريقيا (يستقبل يومياً 3,600 طن من نفايات ولاية الخرطوم). تواجه هذه الآلية مشكلات قلة آليات النقل وعمال النظافة والإهمال التجميعي المؤدي لتراكم النفايات في الأحياء والأسواق. إضافة إلى الإعتراضات البيئية للمواطنين الذين اقتربت بهم الخطط السكنية من المرادم، وبعض التجاوزات في ردم النفايات في اماكن غير مخصصة.

اما آلية تجميع النفايات السائلة فيعتمد على شبكات الصرف الصحي وناقلات المصانع، حيث تنقل لمصافي مخصصة كمصفاة الصحافة ومحطة الصرف الصناعي لمصنع سكر عسلاية. وتواجه هذه الآلية ضعف ربط المدن الصناعية والأحياء السكنية بشبكات صرف، وعمليات الإختناق الصرفي المتكررة لانخفاض جودة الشبكات أو تكدس الأوساخ، إضافة لقلة المصافي وقرب بعضها من الأحياء السكنية حيث تكثر إعتراضات المواطنين. وايضاً التجاوزات المتكررة لناقلات المصانع للتخلص من النفايات في اماكن غير مخصصة.

تهديدات بيئية اخرى

لا تشكل الزيادة في معدلات التصحر والنمو السكاني والهجرة الداخلية وحدها تحدٍ بيئي كبير، فمشاريع تنموية اخرى كإنشاء السدود وصناعتي النفط والتعدين لها ايضاً أثر كبيرعلى البيئة ومعدلات التلوث. فعلى صعيد مشاريع السدود الجاري انشاؤها أو المخطط لها تبرز قضايا استيفاء المعايير الدولية الحادة من الآثار السالبة، كمعدلات ترسّبات الطمي في بحيرات السدود وتآكل الضفاف، والتدهور الكبير في نظم الأراضي الرطبة كما حدث لميعات السنط على النيل الأزرق وغابات نخيل الدوم على ضفاف نهر عطبرة السفلي، أحد روافد نهر النيل المتدفقة من إثيوبيا إلى شرق السودان.

صناعة النفط بدورها افضت لآثار بيئية تشكل تحدياً كبيراً كآثار تصريف المياه المرافق لاستخراج خام النفط غير المطابق للشروط القياسية لعدم وجود مرافق لمعالجتها، وتسرب النفط في التربة في مناطق الإنتاج بما يهدد المياه السطحية والجوفية كما حدث في مناطق الإنتاج في هجليج في جنوب غرب السودان، ومنافذ التصدير البحرية على ساحل البحر الأحمر ومياهه بما يهدد الحياة البحرية لا سيما الشعب المرجانية.

وعلاوة على ذلك، تعدّ صناعة التعدين الأخطر من حيث الأثر البيئي لانتشارها في مناطق جغرافية واسعة، ولاعتمادها الكبير على التعدين المحلي بلا ضوابط فاعلة من حيث تحديد مواقع التعدين بعيداً عن مساقط المياه والآثار والقرى، ومن حيث طبيعة الآليات والمواد المستخدمة في التنقيب والإستخلاص، ومن حيث مؤهلات وكفاءة العاملين. وإلى جانب ذلك، تتضمن صناعة التعدين في السودان على مواد الإستخلاص الأكثر سمية في العالم كالسيانيد والزئبق، حيث يعد السودان من اكثر الدول النامية زيادة في معدلات انبعاثات الزئبق من خلال التعدين وانشطة حرق الفحم الاقتصادية.

يشهد واقع السودان البيئي تدهوراً كبيراً بالرغم من كونه سبّاقاً في مضمار التشريعات القانونية البيئية على مستويات حماية الموارد الطبيعية وتخصيص أولويات استثمارها الإقتصادي، حيث تذكر المصادر العدلية أن اولى التشريعات القانونية ذات الصلة بالبيئة كانت في العام 1901 (قانون امراض الحيوان)، تلته مواد تشريعية اخرى فاقت المائة وخمسون اداة تشريعية، تشمل مجالات الري والطاقة والشؤون الصحية والصناعية ومكافحة الآفات، وآخرها قانون صحة البيئة في عام 2009، ومشروع قانون حماية البيئة والموارد الطبيعية لسنة 2017 الأشمل. (كما صادَق السودان أيضاً على اتفاقية باريس للمناخ في عام 2017).

ومع ذلك، لا يزال تطبيق هذه القوانين محل ضعف، فالحروبات المتتالية، والتراجع الإقتصادي والمشكلات الإدارية، تؤثر بلا شك على عمل الأجهزة والمؤسسات الحكومية المختصة؛ كوزارة البيئة والموارد الطبيعية والتنمية العمرانية، والمجلس الأعلى للبيئة والترقية الحضرية والريفية، ومحكمة البيئة، وتحصر دورها في مساحة محدودة بإمكانات محدودة. بجانب أن العقوبات والجزاءات لا تكسب القوانين الفعالية المطلوبة دون نشاط توعية بيئية مضطرد عبر المناهج الدراسية الأساسية والإعلام.

ومع ذلك، تبذل منظمات المجتمع المدني النشطة في مجال البيئة جهداً ملحوظا لاتخاذ الإجراءات اللازمة ورفع مستوى الوعي العام بالقضايا البيئية. ومن بينها الجمعية السودانية لحماية البيئة (التي تأسست عام 1975)، ومنظمة المجتمع البيئي السوداني، ومنظمة شباب الزحف الأخضر، وبرلمان الشباب السوداني للمياه- إلا أنها جميعاً يعوقها الافتقار إلى التمويل الكافي والموقف العدائي للحكومة السودانية تجاه المنظمات غير الحكومية المستقلة.

أوضاع وتحديات كبيرة كهذه تستلزم أخذها على محمل الجد وتوفير الدعم المالي والتقني من قبل المؤسسات الحكومية والتطوعية والمنظمات الدولية، لإيجاد مخارج مثلى وحلول مستدامة، فواقع التصدى للقضايا البيئية في السودان لا يبشر خيراً إذا ما استمر على هذا المنوال.