كثيرين في دول المشرق العربي يشعرون بالحنين لمرحلة صعود فن الزجل، بالنظر إلى الدور الذي لعبه تاريخيًا في خلق ثقافة فنيّة محليّة مشتركة عابرة للطوائف.
علي نور الدين
يشهد فن الزجل تراجعًا لافتًا في مناطق المشرق العربي، إلى الحد الذي يدفع البعض إلى التحذير من اندثاره، بعدما مثّل جزءًا أساسيًا من هويّة المنطقة وتراثها وحضارتها لقرون طويلة من الزمن. وبعد أن استمرّ هذا الفن بالتطوّر من عصر إلى عصر، وبعدما أرّخت القصائد الزجليّة هواجس وأحداث المجتمعات المشرقيّة في أزمنة متباينة، لم يعد هذا الفن قادرًا اليوم على استقطاب الجيل الجديد، الذي بات يتجه أكثر فأكثر إلى أنواع أخرى من الموسيقى والأغاني السريعة الإيقاع.
وكانت منظّمة اليونيسكو قد أدرجت “الزجل اللّبناني”، وهو أحد ألوان الزجل المشرقي، على قائمة التراث البشري غير المادي منذ العام 2014، في دلالة على الأدوار المميّزة التي لعبها هذا الفن على المستوى الثقافي المحلّي. مع الإشارة إلى أنّ اليونيسكو دأبت ابتداءً من سنة 2001 على تصنيف هذا النوع من التقاليد المهددة بالتراجع أو الاختفاء، للتشجيع على الاحتفاء بها وإحيائها، كجزء لا يتجزأ من التراث المحلّي المشترك.
تاريخ الزجل ونشأته
يُعتبر الزجل أحد فنون الأدب الشّعبي، القائمة على تلحين الأشعار التي يتم نظمها باللّغة المحكيّة، بأوزان متعدّدة ومنتوّعة، دون التقيّد بقواعد الإعراب والنحو التي تحكم اللّغة العربيّة الفصحى ومن البديهي، يتم إلقاء الزجل بشكل ارتجالي، على شكل مناظرة بين عدد من الشعراء، وبمساعدة بعض الآلات الموسيقيّة البسيطة مثل الطبلة والدف، التي تؤمّن الإيقاع اللّحني. ومن المعلوم أن الزجل الشّعبي انتشر كفن بشكلٍ كبيرٍ في لبنان وشمال فلسطين وغرب سوريا وشمال الأردن، حيث تحوّل في الماضي إلى جزء أساسي من المناسبات الاجتماعيّة والاحتفاليّة المحليّة.
وبإعتبار حفلات الزجل تتسم بطابع المبارزة بين المشتركين، يفترض أن يحظى الزجّال بسرعة البديهة والقدرة التعبيريّة المميّزة لنيل إعجاب جمهور، فيما يأخد التحدّي المتبادل والمبالغ فيه بين الشعراء في كثير من الأحيان طابعًا فكاهيًا ومرحًا.
وخلال سهرات الزجل، تتنوّع المواضيع التي تتناولها القصائد المتبادلة دون أي قيد، حيث تشمل على سبيل المثال التفاخر بالأصل والنسب والوطن، وحب العائلة والطّبيعة والأرض، بالإضافة إلى التغزّل بالجمال والتغتي بأمجاد الماضي. وفي بعض الأحيان، يتم إقحام بعض المواضيع السياسيّة في تلك القصائد، وذلك بحسب طبيعة المناسبة الاجتماعيّة التي تتخلّلها حفلة الزجل.
ثمّة نقاش كبير في الأوساط الأكاديميّة حول أصل هذا الفن، وطريقة وصوله وانتشاره في منطقة المشرق العربي. إذ تشير بعض الدراسات التاريخيّة إلى أنّ فنّ المبارزة في ارتجال القصائد، وتقديمها بألحانٍ مبسّطة خلال الحفلات الشعبيّة، عُرف أولًا في العصر الجاهلي قبل انتشار الإسلام، في شبه الجزيرة العربيّة. وفي تلك المرحلة، عُرفت “الشاعرة الخنساء” بكونها أشهر”الزجّالين”، حيث اشتُقت هذه الصفة من كلمة “الزجل” التي تعني الصوت باللّغة العربيّة، في إشارة إلى دور الزجّال أو الزجّالة في تلحين قصيدته المرتجلة.
ويشير إبن خلدون في كتابه “المقدّمة” إلى أن هذا الفن انتقل في مرحلة لاحقة إلى الأندلس، بعد فتحها من قبل المسلمين، حيث شاع هناك “فنّ الموشحات وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه”.
وبهذا الشكل، استخدم الأندلسيون فن ارتجال القصائد وتلحينها، في نظم الموشّحات التي اشتهروا بها، والتي لايزال بعضها متداولًا حتّى اليوم. ثم يشير إبن خلدون إلى أنّ هذا الفن انتقل لاحقًا إلى سائر المناطق العربيّة، بفعل جاذبيّته وبساطة ألحانه وحُسن إيقاعها. ثم قامت كل منطقة بنظم الأشعار بلهجتها المحكيّة المحليّة، “من غير أن يلتزموا فيها إعرابًا، واستحدثوا فنًا سموّه الزجل”، تيمنًا بمصطلح الزجل الذي راج في حقبة الشعر الجاهلي.
بهذا المعنى، يربط إبن خلدون تاريخ هذا الفن بالزجل الجاهلي المُغنّى، الذي انتقل لاحقًا إلى الأندلس عبر ارتجال وإلقاء الموشّحات، قبل أن تأخذ سائر المناطق العربيّة هذا الفن وتستعمله لإلقاء قصائدها باللّهجة المحكية. ولهذا السبب، ظهر في بعض المراحل الزجل التونسي والمغربي والمصري والخليجي، بالإضافة إلى ألوان وألحان الزجل التي اشتهرت لاحقًا بقوّة في بلدان المشرق العربي، والتي مازالت معروفة هناك حتّى اليوم.
وعلى الرغم من كُل ذلك، لم تحظ القصائد الزجلية بالكثير من الدراسة والعناية في الأدب العربي المتوارث أكاديميًا، ربما بسبب خروجها عن قواعد النحو التقليديّة، وصعوبة انتشار الأبيات المكتوبة باللّغة المحكيّة في جميع أقطار المنطقة العربية. وهذا تحديدًا ما يفسّر الغموض الذي يكتنف طريقة تطوّر هذا الفن تاريخيًا، قبل أن ينتشر بشكلٍ واسعٍ في مناطق سوريا ولبنان وفلسطين والأردن.
ومن المهم الإشارة إلى أنّ بعض المؤرّخين يقدّمون نظريّات أخرى، لتفسير تطوّر فن الزجل في منطقة المشرق. فعلى سبيل المثال، يشير الكاتب أنطوان بطرس الخويري في كتابه “تاريخ الزجل اللّبناني” إلى أنّ الزجل اللّبناني لم يأتِ كنتيجة لتطوّر فن الموشحات الأندلسيّة كما هو شائع، بل انبثق من فنون إلقاء الشعر السرياني القديم. ويبرّر الخويري هذا الزعم بالإشارة إلى ألوان وألحان الزجل المنتشرة في المناطق اللّبنانيّة، والتي تتسق مع الفنون الشعبيّة التي كانت رائجة في منطقة المشرق العربي قبل الفتح الإسلامي.
أمام هذه السجالات الأكاديميّة حول أصل فن الزجل، يشير البعض إلى إمكانيّة صواب أكثر من نظريّة في الوقت عينيه، بمعنى أن يكون فن الزجل قد نتج عن تلاقح أنماط ارتجال الشعر العربي المستمدة من الأندلس، مع ألحان وفنون إلقاء الشعر السرياني القديم، الذي سبق الفتوحات الإسلاميّة. مع الإشارة إلى أنّ اللّهجات المحليّة في منطقة المشرق العربيّة نتجت أساسًا من اختلاط اللّغة العربيّة بتأثيرات اللّغات المحليّة التي كانت موجودة في المنطقة، ما يرجّح تأثّر الفنون الشّعبيّة المحليّة أيضًا بعوامل ثقافيّة متعددة في الوقت عينيه.
إرتقاء فن الزجل ثم تراجعه
كما أشرنا سابقًا، حافظ فن الزجل خلال القرون الماضية على موقعه المتقدّم في الحياة الثقافيّة في منطقة المشرق العربي، بخلاف بعض المناطق العربيّة الأخرى التي لم تحافظ على هذا النوع من الفنون، على الرغم من انتشاره لديها في مراحل تاريخية سابقة.
وخلال القرن الماضي بالتحديد، شهد فن الزجل رواجًا لافتًا في منطقة المشرق العربي، مع انتشار وسائل التواصل الإعلامي الأولى مثل الراديو والتلفزيون وأشرطة الكاسيت وغيرها. كما ازداد انتشار حفلات الزجل مع تطوّر وسائل المواصلات وانتشار السيّارات، التي سمحت لفرق الزجل المعروفة بالتنقّل وإحياء حفلات عديدة خلال يومٍ واحد.
من هذه الزاوية، يمكن فهم تسارع وتيرة تأسيس فرق الزجل خلال القرن الماضي، مثل جوقة شحرور الوادي التي تأسست عام 1928، والتي مثّلت النواة التي انطلقت منها فرق زجل أخرى.
كما تأسست جوقة بلبل الأرز عام 1928، وجوقة كروان الوادي عام 1931، والرابطة العامليّة في جنوب لبنان عام 1943، بالإضافة إلى جوقة الأرز عام 1944. وفي جبل لبنان، تأسست جوقة الجبل عام 1953، وجوقة خليل روكز عام 1962. وفي ذلك الوقت، ساهمت التلفزيونات المحليّة في إعادة نشر المباريات بين هذه الفرق الزجليّة، فيما بات هناك مشجّعون ومتحمّسون لكلّ من هذه الفرق.
فيما بعد، وخلال الربع الأخير من القرن الماضي، راح فن الزجل يشهد تراجعًا في جميع أنحاء منطقة المشرق العربي. إذ ساهمت الحرب الأهليّة اللّبنانيّة في قطع التواصل بين المناطق المختلفة، ما فرض انحلال عقد الفرق الزجليّة العابرة للمناطق. كما فرضت الأحداث العسكريّة التوقّف عن تنظيم حفلات الزجل الشّعبيّة، جرّاء الخشية من الانفجارات وأعمال القصف المدفعي، وهو ما خنق المساحة الأساسيّة التي استخدمها الزجّالون لإلقاء الشعر.
أمّا في دول منطقة المشرق الأخرى، فقد تراجع فن الزجل نتيجة لظاهرة الهجرة من الأرياف إلى المدن، التي أفقدت القرى جزءًا من القاعدة الشعبيّة التي اعتادت على تعلّم نظمِ القوافي الزجليّة وإلقائها في المناسبات الاجتماعيّة.
في المقابل، تجاهلت وسائل الإعلام وشركات الإنتاج الفني المعاصرة هذا الفن الشّعبي بشكلٍ تام، لكونه يعتمد على الارتجال في المناسبات الشّعبيّة. كما فضّلت هذه المؤسسات التركيز على الموسيقى الحديثة والأغاني المسجّلة والمعدّة سلفًا، لسهولة تسويقها ونشرها كمنتجات فنيّة جاهزة. وبهذا الشكل، ساهمت الديناميكيات التجاريّة الفنيّة في إقصاء فن الزجل بشكلٍ كبيرٍ عن المشهد.
من الواضح أن كثيرين في دول المشرق العربي يشعرون بالحنين لمرحلة صعود فن الزجل، بالنظر إلى الدور الذي لعبه تاريخيًا في خلق ثقافة فنيّة محليّة مشتركة عابرة للطوائف، بالإضافة إلى دوره الثقافي على مستوى إحياء الحفلات الشعبيّة والأهليّة. كما ثمة اعتقاد بأن إعادة إحياء هذا النوع من الفنون المحليّة سيمكّن المناطق الريفيّة من إنعاش النشاط السياحي، من خلال الحفلات التراثيّة التي اعتادت الأرياف على إحيائها في الماضي.
إلا أن النهوض بهذا الفن مجددًا يحتاج إلى بحث حثيث عن أدوات عصريّة للتواصل مع الجيل الجديد، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بدل الاكتفاء بالرهان على دور الحفلات والمناسبات الاجتماعيّة التقليديّة.