وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الطعام في إسرائيل يقسم ويوحد بقدر ما يشكل الهوية

 

الطعام في إسرائيل
صورة تم التقاطها يوم ١٦ يناير ٢٠٢٠ لطاهي يهودي متدين وهو يحمل بيده طبق هامين، وهو طبق يخنة يهودي تقليدي، وذلك في مطعم معدنيات شيف بمدينة بني براك المتشددة. المصدر: MENAHEM KAHANA / AFP.

نشر الصحفي البارز جيمس دورسي على مدونته الخاصة مقالة سلّط فيها الضوء على تحديات الهوية الإسرائيلية وارتباطاتها بالمطبخ الفلسطيني.

وبحسب دورسي، يخطئ من يظن أن الغذاء في العالم العربي أمرٌ يرتبط بالعلاقات الدبلوماسية فحسب، بل هو أعقد من ذلك بكثير. فقد يحوّل الغذاء إسرائيل من دولة مختلفة ودخيلة في المنطقة إلى دولة ذات جذور راسخة وإن كانت ستبقى رغم ذلك في عيون الفلسطينيين دولة مغتصبة.

وإن حدث هذا التحول، فسيكون بسبب ثورة داخلية إسرائيل. أما من منظور الفلسطينيين في المنفى أو أولئك الذي يعيشون تحت حكم الاحتلال في الضفة الغربية ويعانون الحصار في غزة، فهو محض نهب لثرواتهم الغذائية.

والحق يقال إن هذا الاندماج في المطابخ لا علاقة له بالاحتلال. إذ أن نحو 20% من سكان إسرائيل من أصول فلسطينية، ونحو 44% من يهود إسرائيل من المزراحيين؛ أي يهود الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ويرى الفلسطينيون، وفي رأيهم وجاهة، أن استلاب إسرائيل لطعامهم يندرج ضمن جهودها الحثيثة الرامية إلى تقليص وجودهم، بل محو الهوية الوطنية الفلسطينية. لكن هذه الحجة تتجاهل حقيقة أن الفلسطينيين والمزراحيين تجمعهم تقاليد طهو مشتركة.

وكذلك تتجاهل غموض فكرة المطبخ القومي نفسها. تقول مؤلفة كتب الطهو الفلسطينية الأمريكية ريم قسيس: “لكل أمة تقاليد في الطهو تًحدد إقليمياً، وتتأثر في الوقت نفسه بالتجارة والهجرة والغزو. لقد أدركت أن فكرة المطبخ القومي هي بناء اجتماعي، لكنها تبقى فكرة مفيد على أي حال”.

وترى قسيس أن فكرة المطبخ الفلسطيني هي وسيلة نافعة لتكوين حس وطني يربط بناتها، وهن بريطانيات أمريكيات، بوطنهن الأم. ومع ذلك، حين عملت قسيس في كتابها الأول على تحليل مطبخ أسلافها، أدركت استحالة تحديد الأصل الدقيق لكل طبق في حال تتبعنا تاريخ الطهو منذ بدايته.

وقد توصلت مؤرخة الطعام أليا ليكاشتش إلى استنتاج مماثل بعد بحث تقاليد المطبخ في البوسنة والهرسك. إذ نقلت عنها ريادا أسيموفيتش أكيول، الباحثة البوسنية في تاريخ الطعام: “خلاصة القول، لا يمكن الحديث عن بعض أطعمة قومية ذات أصل نقي، بل يكاد يستحيل تحديد الأطباق الأصلية التي تخص مناطق وشعوب معينة”.

ويمكن أن تنطبق تجربة قسيس وليكاشتش على حالة المزراحيين في إسرائيل الذين يشكلون مع الفلسطينيين الإسرائيليين أغلبية نسبية بين سكان في إسرائيل. وقد تركوا مجتمعين بصمتهم الثقافية على إسرائيل في الموسيقى والطعام.

وبذلك، قوضت ثقافتهم غلبة ثقافة اليهود الأشكناز الأوروبيين التي انتشرت في إسرائيل خلال السنوات الأولى، ومن ثمّ اختلف وضع ثقافة المزراحيين التي كانت محل ازدراء لفترة طويلة بسبب المشتركات التي تجمعها مع الثقافة العربية.

ويرى دانيال مونتيريسكو، عالم الأنثروبولوجيا الغذائية، ويائير يوسفي، المستثمر في الأغذية، أن هذا التحول أشبه بعملية “تشريق للطعام، بحيث تكون الهيمنة للمطبخ العربي وأطباق شمال إفريقيا بدلاً من المطبخ الأشكنازي”.

وفي محاولةٍ لتحليل دور التوابل الكبير في المطبخ الإسرائيلي، يرى مونتيريسكو ويوسفي أن التوابل الحارة في المطبخ الإسرائيلي أصبحت “عاملاً يرسم حدود المشترك الاجتماعي الكبير في إسرائيل. إذ أن المزراحيين يؤكدون أصالتهم بحبهم للطعام الحار، كما أن الأشكناز حين يحذون حذوهم يؤكدون انتماءهم لهذا البلد”.

وبكلماتٍ أخرى، تعيد عملية التشريق المذكورة التوازن إلى الهوية بين أطراف المجتمع اليهودي الإسرائيلي من جهة، وبين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين من جهة أخرى. ويؤدي ذلك بدوره إلى تجاوز فكرة الاستلاب والاستيلاء والتركيز على القواسم المشتركة بين الجميع.

يختلف ذلك كلياً عن السردية السائدة في التأريخ للطهو والتي انتشرت في أعقاب حرب عام 1967 واحتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة.

فقد عرَّفت كتب الطهو في تلك الحقبة المطبخ الإسرائيلي باعتباره “مطبخاً يستند إلى ممارسات وأفكار يهودية أو أمريكية أو أوروبية”. وبحسب رأي المؤرخة سونا شابتاي، كان الإسرائيليون “يشكلون هوية جديدة ويستغلون كل المراجع الممكنة لإثبات الطابع الإسرائيلي. وهكذا، يكون ذلك لهم حجة وسند لادعاء الحق في هذه الأرض”.

ومع ذلك، يؤكد مونتيريسكو ويوسفي أن سطو إسرائيل على المطبخ الفلسطيني عملية مستمرة وليست متطورة. ويرى كلاهما أن “الإسرائيليين يسطون على كل ما يمثل الشخصية العربية بقدر ما تسطو إسرائيل على الفضاء العربي. إذ أن التوابل الحارة هي محض خيال لأصل متوهم”.

ويعكس تركيز إسرائيل في الآونة الأخيرة على البهارات النادرة في المطبخ الفلسطيني والسوري واللبناني والمنتشرة في بعض مطابخ شمال إفريقيا في أذهانهم “مزيجاً من الذكورة والعسكرة وأصالة أهل البلد والعرقية”.

وينقل مونتيريسكو ويوسفي عن إيتان فعنونو، أحد الطهاة الإسرائيليين، قوله “يشيع بين الطهاة الإسرائيليين أن نجيب عن سؤال ما رأيك في الطعام بعبارة «يا له من طعام صارخ» وهو ما يُعدّ مديحاً. نفتقر إلى دعائم ثقافية. القوة هي كل ما نملك”.

الخلاصة هي أن وجهتي النظر المتعارضتين بشأن ثقافة الطعام الإسرائيلية، التي لا تهيمن على المطبخ اليهودي فحسب، بل لها تأثيرات خارج حدود إسرائيل أيضاً، ربما يمثلان وجهين لعملة واحدة. فالمطبخ الإسرائيلي يعتمد اعتماداً كبيراً على تقاليد مختلفة لمجمل الجماعات ذات الأصول اليهودية، وهو في الوقت نفسه يعتمد على استلاب المطبخ الفلسطيني الذي ترتبط به شرائح كبيرة من المجتمع الإسرائيلي.

وهكذا صارت هوية اليهود الإسرائيليين ترتبط على ارتباطاً بالقواسم المشتركة بين المزراحيين والفلسطينيين، لا القواسم الثقافية الأوروبية والأمريكية التي لا تستطيع خلق مساحة مشتركة بالقدر الكافي.

ملاحظة

الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن آراء الكاتب (الكتّاب)، وليس المقصود منها التعبير عن آراء أو وجهات نظر فَنَك أو مجلس تحريرها.

ملاحظة

تم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع https://jamesmdorsey.substack.com/ في 19 فبراير 2022