وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

المؤثّرات السياسيّة في أزمة مصر الاقتصاديّة

العلامة الفارقة في أزمة مصر الاقتصاديّة هي الكتلة الديمغرافيّة الضخمة، ما سيفاقم حجم المعاناة التي قد تنتج عن سوء إدارة المعالجات الاقتصاديّة.

أزمة مصر الاقتصاديّة
نازحون فلسطينيون يسيرون بجوار السياج الحدودي بين غزة ومصر، في 16 فبراير 2024، في رفح. محمد عابد/ أ ف ب

علي نور الدين

في بداية شهر شباط/فبراير 2024، أعلن صندوق النقد الدولي تحقيقه “تقدّمًا ممتازًا” في المناقشات حول حزمة السياسات الشاملة، التي يفترض أن تقوم بها السلطات المصريّة، مقابل برنامج تمويلي جديد.

هذا البيان البالغ الأهميّة بتفاؤله وإيجابيّته، كان مجرّد إشارة إضافيّة عن قرب التوصّل على اتفاق نهائي بين الطرفين. وجاء ذلك بعد الكثير من التكهّنات والغموض، بخصوص نتائج زيارة بعثة الصندوق إلى مصر قبل أسبوعين من صدور البيان، في شهر كانون الأوّل/يناير 2024.

وما ينبغي الالتفات إليه هنا، هو أنّ البرنامج الجديد سيشمل زيادة كبيرة في حجم التمويل الممنوح من الصندوق إلى مصر، وهو ما يفترض أن يدفع الصندوق إلى فرض شروط تصحيحيّة أقسى على السّلطات المصريّة.

بينما برّرت مصر طلب الزيادة بتأثّرها بالتوتّرات الجيوسياسيّة الأخيرة، ويبدو أن مرونة الصندوق، -عبر التفاعل السريع مع الطلب المصري-، ترتبط بدورها بتأثيرات سياسيّة لا تقل أهميّة. وحتّى المعالم الأساسيّة للبرنامج الإصلاحي المتفق عليه من قبل الطرفين، لم تبتعد كثيرًا عن تأثيرات السياسة ومصالحها.

خلفيّة وحجم التمويل الجديد

وبغية فهم وضعيّة مفاوضات مصر مع صندوق النقد، من الجدير الإشارة أولًا إلى أنّ الحكومة المصريّة تملك أساسًا موافقة على برنامج قرض بقيمة 3 مليار دولار. وكان من المفترض أن تحصل مصر على المبلغ من الصندوق على مدى 46 شهرًا، بموجب دفعات فصليّة. وبحسب الاتفاق بين الطرفين، على الحكومة المصريّة الالتزام بمجموعة من الخطوات التصحيحيّة التي يطلبها الصندوق، قبل الحصول على كلّ دفعة فصليّة من التمويل.

لكن منذ منح مصر تلك الموافقة في أواخر العام 2022، لم تحصل مصر سوى على دفعة واحدة من التمويل، بقيمة 347 مليون دولار. ومنذ ذلك الوقت، استمرّ صندوق النقد بتأخير المراجعات والتقييمات، التي كان يفترض أن تفضي إلى منح الحكومة المصريّة الدفعات اللاحقة، بسبب تأخّر الحكومة المصريّة في تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها بين الطرفين.

وعلى أي حال، كان تأخّر الحكومة المصريّة في تنفيذ شروط الصندوق مفهومًا من الناحية السياسيّة. فبعد توقيع الاتفاق، كان النظام المصري يتجه لإجراء الانتخابات الرئاسيّة في كانون الأوّل/ديسمبر 2023.

وهذا ما دفع الرئيس عبد الفتّاح السيسي لتأجيل الإجراءات الموجعة شعبيًا، والمندرجة ضمن الاتفاق مع الصندوق، مثل تخفيض سعر صرف الجنيه أو ترشيد الإنفاق الحكومي. وكان من المتوقّع أن يعود النظام المصري لتحريك ملف تمويل الصندوق، بمجرّد انقضاء الانتخابات الرئاسيّة، ودخول العام 2024.

وهذا ما حصل بالفعل، مع تسارع وتير المفاوضات بين الحكومة المصريّة وبعثة صندوق النقد، في كانون الأوّل/يناير 2024. غير أن الجديد هذه المرّة، هو اتجاه الطرفين لزيادة قيمة التمويل الممنوح إلى مبلغ يتراوح بين 8 و12 مليار دولار، وهو ما يتراوح ما بين 2.7 و4 أضعاف قيمة التمويل الممنوح حاليًا. أي بصورةٍ أوضح، لم تعد المباحثات مرتبطة باستكمال منح القرض الأساسي، كما كان مخططًا من قبل، بل بمنح قرض جديد أضخم بكثير.

ومن المعلوم أن صندوق النقد قلّما يبدي هذه المرونة الفائقة، المتمثّلة بزيادةٍ ضخمةٍ في قيمة برنامج تمويليّ معيّن، خلال فترة قصيرة جدًا من المفاوضات.

مبرّرات زيادة التمويل: التوتّرات الجيوسياسيّة

التوتّرات الجيوسياسيّة وتأثيرها على مصر، هو العنوان الأساس لجميع المباحثات التي جرت حتّى هذه اللّحظة. وهو المبرّر الأساس لمطالبة مصر بمضاعفة قيمة تمويلها من الصندوق على هذا النحو. وفي واقع الأمر، لا تبالغ الحكومة المصريّة فعلًا عند تناولها هذه المسألة.

فعلى سبيل المثال، وبفعل المواجهات البحريّة قرب مضيق باب المندب، تراجعت إيرادات قناة السويس بنسبة 46% خلال شهر كانون الثاني/يناير 2024، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي، بعدما انحسرت حركة السفن المتجهة من البحر الأحمر إلى القناة. وتكمن خطورة هذا التطوّر في أن قناة السويس تؤمّن وحدها 8% من إيرادات الحكومة المصريّة، كما توفّر مصدرًا مهمًا لتدفقات العملة الصّعبة، في ظل الضغوط النقديّة التي تعاني منها البلاد.

وعلى مستوى إيرادات القطاع السياحي، المدرّة بدورها لتدفّقات العملة الصّعبة، فقد تراجعت الحركة السياحية في مصر بحوالي 40% في أواخر العام 2023. وجاء هذا التراجع مدفوعًا بسقوط صاروخ عرضي على مدينة طابا السياحيّة، ما أثار خشية السيّاح الأجانب من تكرار هذا النوع من الحوادث، في المناطق السياحيّة الواقعة في شبه جزيرة سيناء. مع الإشارة إلى أنّ القطاع تأثّر أيضًا بمقتل سائحين إسرائيليين مع مرشدهما المصري، في عمليّة إطلاق نار في مدينة الإسكندريّة.

وبالإضافة إلى كلّ هذه العوامل، كانت أزمة شح العملة الصّعبة قد بلغت ذروتها داخل النظام المالي المصري في كانون الثاني/يناير 2024. وبرزت تجليّات هذه الأزمة في القيود التي فرضتها المصارف المصريّة، على سحوبات الأفراد وتحويلاتهم بالعملات الأجنبيّة. وهذا ما ذكّر المصريين ببدايات الأزمة الاقتصاديّة اللّبنانيّة، التي شهدت قيودًا وضوابطَ مماثلة على حركة الرساميل في النظام المالي.

وبحلول بداية شهر شباط/فبراير 2024، كانت الأزمة قد فرضت اعتذار المصارف المصريّة عن بيع الدولار بالسعر الرسمي للمستوردين، باستثناء مستوردي المواد الغذائيّة والأدوية. وهذا ما دفع المستوردين إلى اللّجوء إلى السوق الموازية، التي لامس فيها سعر صرف الدولار في بعض الأوقات مستوى الـ 70 جنيه مصري، مقارنة بسعر رسمي لا يتجاوز الـ 34 جنيه مقابل الدولار.

هكذا، بات سعر الدولار في السوق السوداء يتجاوز ضعفيّ السعر الرسمي، ما أظهر إشارة على عمق الأزمة النقديّة القائمة. فتعدّد أسعار الصّرف بهذا الشكل النافر، غالبًا ما يمثّل الإشارة الأهم على وجود أزمة نقديّة خانقة، وعلى عجز المصرف المركزي عن التعامل مع الطلب على الدولار في السوق.

أسباب سياسيّة لمرونة صندوق النقد

إذا كانت التوتّرات الجيوسياسيّة قد ساهمت في تعميق أزمة مصر الاقتصاديّة، فالعوامل السياسيّة ساهمت بدورها في تليين موقف صندوق النقد، إلى حد الوصول لمضاعفة قيمة التمويل الممنوح لمصر.

فصندوق النقد يحدّد قيمة وشروط برامجه التمويليّة وفقًا لتقييمه المالي إلى حدٍ بعيدٍ، وبحسبِ تقديره لقدرة الدولة المعنيّة على سداد القرض. لكنّ الصندوق يتفاعل أيضًا مع توجّهات ومواقف الدول الكبرى المؤثّرة في قراره النهائي، وبالأخص الولايات المتحدة التي تملك الحصّة الأكبر فيه، وبدرجة أقل سائر الدول الغربيّة الكبرى.

ففي الوقت الراهن، تملك مصر تأثيرًا كبيرًا على تطوّرات الحرب في قطاع غزّة، وخصوصًا من جهة سيطرتها على المعبر الوحيد الذي يربط القطاع بدولة غير إسرائيل. وهذا التأثير، هو ما يمنح المخابرات المصريّة فعاليّة خاصّة في التواصل مع الفصائل الفلسطينيّة ونسج التفاهمات معها، بما فيها حركة حماس نفسها، على الرغم من الاختلاف الإيديولوجي معها.

وهذا ما ظهر بوضوح عندما لعب النظام المصري دورًا، إلى جانب قطر، في إنضاج صفقة تبادل الأسرى والرهائن الأخيرة، بين إسرائيل وحركة حماس.

إلى جانب هذا الدور، الذي يدفع الغرب لاسترضاء النظام المصري في هذه المرحلة، تمتلك مصر أيضًا تأثيرًا واضحًا على ملفّات الأمن الإقليمي في منطقة البحر الأحمر. بالإضافة إلى مصلحتها في ضبط التوتّرات الحاصلة هناك، بالنظر لتأثير هذه التوتّرات على إيرادات وعمل قناة السويس. من هذه الزاوية، يمكن لمصر أن تلعب أدوارًا مهمّة، ولو في مرحلة لاحقة، في إعادة ضبط أمن الملاحة في تلك المنطقة الحيويّة جدًا.

أمّا الأهم، فهو أن مصر والمملكة العربيّة السعوديّة، تمثّلان حاليًا الثقل العربي المطلوب، لتأمين الغطاء السياسي لأي تسوية يمكن أن تنهي الصّراع الدائر في قطاع غزّة.

وإذا كانت بعض الدول كقطر والإمارات العربيّة المتحدة قد سعت لتعزيز دورها السياسي، فمن الصّعب أن يتمَّ الوصول إلى حلولٍ نهائيّةٍ في المستقبل دون انخراط مصر والسعوديّة، بالنظر إلى امتلاكهما نفوذًا إقليميًا وتاريخيًا يصعب تجاوزه، في القضايا الكبرى والحسّاسة.

وفي الوقت عينيه، كان السيسي قد عزّز بعض قنوات التعاون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وخصوصًا في مجال استيراد القمح وإنتاج الطاقة النوويّة. وهذا ما يدفع الدول الغربيّة، وخصوصًا الولايات المتحدة، لتعزيز أطر دعمها للنظام المصري، للحؤول دون ذهاب مصر بعيدًا في خيار “التوجّه شرقًا”.

ولعلّ انضمام مصر إلى تكتّل “بريكس” منذ بداية العام 2024 يدفع بالاتجاه نفسه. إذ بعد هذا التطوّر، من الطّبيعي أن يسعى صندوق النقد والدول المؤثّرة فيه لتعميق التعاون المالي والنقدي مع مصر. وذلك كي لا يكون خيار مصر البديل تعميق علاقاتها الماليّة والنقديّة مع مؤسسات تكتّل “بريكس”، التي تطرح نفسها كمنافس دوليّ للمؤسّسات الماليّة التقليديّة التي يهيمن عليها الغرب، مثل صندوق النقد والبنك الدولي.

شروط قاسية متوقّعة

لكن في مقابل المرونة في مضاعفة التمويل، من المتوقّع –كما هي العادة- أن يربط صندوق النقد التمويل الأكبر بشروط تصحيحيّة أقسى. ولعلّ أبرز الشروط التي سيتشدّد في المطالبة بها صندوق النقد، ستكون تلك المتعلّقة بسعر صرف الجنيه والسياسة النقديّة.

فصندوق النقد لا يستسيغ في العادة السياسات النقديّة التي تقوم على الدفاع المتعنّت عن سعر صرف محدّد، وهو يفضّل اعتماد السياسات النقديّة القائمة على سعر الصرف المرن. وما تشهده مصر من تعدّد أسعار الصرف، أو ازدواجيّتها ما بين سعر صرف رسمي وسعر آخر في السوق السوداء، هو –بالنسبة للصندوق- علامة تأزّم يجب معالجته فورًا، لا تطبيعه.

ببساطة، وبحسب الصندوق، يتوجب على المصارف المركزيّة أن تذهب باتجاه مرونة سعر الصرف بقدر المستطاع، وإن بشكلٍ متدرّج وبراغماتي وفقًا لما تسمح به الظروف، أيّ من دون تسرّع. لكن في المقابل، إنَّ توحيد سعر الصّرف هو واجب محتّم ومُلِح، لا يمكن التهاون فيه أبدًا.

لهذا السبب، ألح صندوق النقد في المرحلة السابقة على تصحيح سعر صرف الجنيه، أي تخفيضه ليتناسب أكثر مع سعر السوق الموازية، لتوحيد أسعار الصرف، ومن ثمَّ اعتماد سعر صرف مرن في مراحل لاحقة. غير أن النظام المصري تردّد في تنفيذ هذا الشرط قبل الانتخابات الرئاسيّة، نظرًا للتأثير السلبي لهذه الخطوة على أسعار السلع المستوردة.

لكن بعد زيادة قيمة التمويل، من المرتقب أن يتشدّد الصندوق أكثر في الإلحاح على هذا الشرط، خصوصًا بعد توسّع الفارق بين سعر صرف الجنيه الرسمي وسعر السوق الموازية.

بل وهناك بعض الترجيحات التي تشير إلى أنّ الصندوق سيطالب بوضع إطار زمني، للوصول إلى سعر صرف عائم وحر، يحدده الطلب والعرض اليومي، مع إبقاء هامش محدود لتدخّل المصرف المركزي، بدل اعتماد سعر صرف جامد يتم تحديثه دوريًا كما هو الحال اليوم. وهذا ما سيمثّل مطلبًا متطرّفًا، مقارنة بالشروط السابقة.

أمّا الشروط الأخرى التي سيطالب الصندوق التعجيل في تنفيذها، فترتبط بما يُعرف بتخارج الدولة من القطاعات الاقتصاديّة، أي بيع حصصها وحصص الجيش في المؤسسات التجاريّة والإنتاجيّة.

وتعجيل هذا المسار –الذي بدأ أصلًا– سيشكّل فرصة للعديد من الدول الخليجيّة، مثل الإمارات والسعوديّة وقطر، التي تتسابق على حجز حصّتها في القطاعات الحيويّة والإستراتيجيّة المصريّة. كما سيشكّل تعجيل هذا المسار فرصة أيضًا للنخبة الماليّة المحليّة المحظية، التي تملك علاقاتها الوثيقة بالنظام الحاكم، والتي تتطلّع للحصول على حصّتها من عمليّات الخصخصة.

هكذا، من الطّبيعي أن تكون مصر اليوم على مشارف حقبة قاسية، تتسم بالمعالجات القاسية المطلوبة للتعامل مع الأزمة، وبشروط صندوق النقد المؤلمة على المستوى الاجتماعي والمعيشي.

ولعلّ أقسى تلك الشروط، هي تلك التي ستستهدف تقييد الأنفاق العام، بما قد يحد من قدرة الدولة على تأمين الحد الأدنى من شبكات الحماية الاجتماعيّة. والعلامة الفارقة في أزمة مصر الاقتصاديّة، التي تميّزها عن سائر الأزمات التي ضربت قبلها لبنان وتونس، هي الكتلة الديمغرافيّة الضخمة، ما سيفاقم حجم المعاناة التي قد تنتج عن سوء إدارة المعالجات الاقتصاديّة.