وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

التوغّل الروسي في اقتصاد سوريا: هيمنة متعددة الأهداف

التوغّل الروسي في اقتصاد سوريا
رجل يجلس أمام ملصق يصور الرئيس السوري بشار الأسد (إلى اليسار) والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. مكتوب على الملصق باللغة العربية “سوريا تقف مع روسيا الاتحادية”. مدينة طرطوس الساحلية السورية في 24 يوليو 2022. لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

يوم بدأت روسيا تدخّلها العسكري الواسع النطاق في سوريا عام 2015، تمكّنت من قلب موازين القوى بشكل كبير على الأرض، لمصلحة النظام السوري. وفي النتيجة، أمّن الجيش الروسي غطاء جويا إستراتيجيا بالغ الأهميّة، وهو ما مكّن جيش النظام من استرجاع السيطرة على مناطق واسعة في سوريا، بالاستفادة من دعم الميليشيات العراقيّة والإيرانيّة واللبنانيّة التي قاتلت إلى جانبه.

توغّل اقتصادي بعد الحضور العسكري

وكنتيجة للحضور العسكري المباشر داخل سوريا، تنامى نفوذ المسؤولين الروس داخل القوّات العسكريّة الرسميّة وغير النظاميّة الموالية للأسد. كما باتت للنظام الروسي الكلمة الفصل في العديد من الملفّات الأمنيّة الحسّاسة في مختلف المناطق السوريّة، بالإضافة إلى تأثيره على معظم المسائل السياسيّة الأساسيّة. مع الإشارة إلى أنّ روسيا احتاجت خلال السنوات الماضية إلى تقاسم هذه الهيمنة مع إيران، التي تمكنت بدورها من الاحتفاظ بتأثير قوي مماثل داخل سوريا.

لكن وعلى مدى السنوات الماضية، عملت روسيا بشكل حثيث على استغلال هذه الهيمنة العسكريّة والسياسيّة المستجدة، من أجل توسيع رقعة توغّلها الاقتصادي على جميع الأراضي السوريّة. وهذا التوسّع، الذي بات أشبه بالهيمنة عبر القوّة الناعمة، خدم على مدى السنوات الماضية الأجندة الروسيّة من عدّة نواح. فهو سمح أوّلًا للأوليغارشيا الروسيّة المقرّبة من بوتين بتحقيق الربح السريع، عبر وضع اليد بسهولة على الموارد الطبيعيّة والمرافق العامّة والعقارات المتاحة، بالاستفادة من تأثير النظام الروسي على المسؤولين السوريين.

كما سمح هذا التوغّل الاقتصادي للشركات الروسيّة بإيجاد سوق جديدة للعمل فيها، في ظل القيود والعقوبات الغربيّة التي تحد من قدرة هذه الشركات على العمل في الأسواق الأخرى. وهذا تحديدًا ما يفسّر توسّع الاستثمارات الروسيّة في سوريا مؤخرًا، بعد اندلاع الحرب الأوكرانيّة، وفرض رزمات جديدة من العقوبات على الشركات الروسيّة.

وعلى المقلب الآخر، كان النظام الروسي يستفيد من حضور الاستثمارات الروسيّة في القطاعات السوريّة الحسّاسة، لتحويل سوريا إلى منطقة نفوذ اقتصاديّة له على الضفاف الشرقيّة للبحر الأبيض المتوسّط، بعدما تمكّن من تحويلها إلى مساحة نفوذ عسكريّة. وفي ظلّ تسابق الدول المهيمنة وشركات الطاقة على مساحات شرقي المتوسّط، لاستخراج الغاز ومد الأنابيب المخصصة لنقله، باتت السيطرة على حقول الغاز السوريّة في المياه البحريّة هدفًا للنظام الروسي.

مشاريع سياحيّة جديدة

التطوّر المستجد الذي أعاد فتح هذا الملف، كان إعلان النظام السوري مؤخرًا توقيع عقد استثماري لمدّة 45 سنة، مع رجال أعمال روس مقرّبين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لإقامة مشاريع سياحيّة تمتد على مساحة تتجاوز ال70 دونمًا على ساحل منطقة اللاذقيّة السوريّة. وهذا المشروع، يُفترض أن يشمل شاليهات وفنادق ومسابح، بالإضافة إلى ملاعب ومكاتب وخدمات ترفيهيّة ومراكز معالجة فيزيائيّة.

تأتي هذه التطوّرات لتكمّل سلسلة طويلة من العقود التي تمكّنت الشركات السياحيّة الروسيّة من الحصول عليها خلال السنوات الماضية، والتي تمكّنت بفضلها من وضع اليد على شواطئ ومعالم ومواقع سياحيّة مشهورة في منطقة الساحل السوري، كموقع “جول جمّال” مثلًا. وبفضل هذه العقود، سيطرت الشركات الروسيّة على هذه المساحات الجغرافيّة الجذّابة بشكل حصري، ولعقود طويلة من الزمن، ما بات يحول دون استفادة الشركات السوريّة الصغيرة والمتوسّطة الحجم من تقديم الخدمات السياحيّة في هذه المناطق، كما كانت تفعل سابقًا.

أمّا أخطر ما في الموضوع، فهو أنّ الاستفادة من زيارة الشواطئ والمواقع السياحيّة باتت حكرًا على الفئات القادرة على سداد الفواتير المرتفعة التي تفرضها هذه الشركات الروسيّة، بدل أن تكون مناطق متاحة لعموم السوريين كما كان الحال في ما مضى. وهذا تحديدًا ما دفع كثيرين للتوجّس من التغيّرات التي طرأت على النماذج الاستثماريّة التي تعتمدها الدولة السوريّة لتطوير مواقعها السياحيّة المعروفة، والتي انتقلت للحد من ولوج الفئات الشعبيّة إلى هذه المناطق، بدل فتحها لهم وترك المجال للمؤسسات المحليّة الصغيرة لتقديم الخدمات الجانبيّة المنخفضة الكلفة.

وإلى جانب أضرار هذه العقود على المستهلك السوري والشركات السياحيّة المحليّة الصغيرة والمتوسّطة الحجم، كان هناك تساؤلات كبيرة حول شفافيّة ونزاهة هذه الصفقات. فوزير السياحة السوري نفسه، محمد مرتيني، أكّد في تصريح رسمي أنّ الدولة السوريّة أعطت الأولويّة في تلزيم هذه المشاريع للشركات الروسيّة والإيرانيّة، ما يفسّر حصر هذه المشاريع اليوم بهذه الشركات تحديدًا.

وبذلك، كان من الواضح أن النظام السوري يتعامل مع هذه الصفقات، التي تمنح السيطرة على المواقع السياحيّة المعروفة والمهمّة، كمكافآت لشركات الدول الحليفة، بدل التخطيط للقطاع السياحي بالشكل الذي يحقق أقصى فائدة للشعب السوري.

السيطرة على الموارد الطبيعيّة ومرفأ طرطوس

لم يقتصر التوغّل الاقتصادي الروسي على استثمار المناطق السياحيّة المهمّة، بل شمل جميع القطاعات الحيويّة التي تؤمّن الربح المضمون عند السيطرة عليها، وخصوصًا في مجالات النفط والغاز والموانئ.

في المياه البحريّة السوريّة، لزّم النظام السوري عام 2021 عمليّات التنقيب والاستخراج في البلوك رقم 1 لشركة روسيّة تحمل إسم “كابيتال”، وهي شركة حديثة لا تحمل في سجّلها أي نشاط يُذكر في عالم النفط والغاز، تأسست قبل أربع سنوات فقط من نيلها هذا العقد. لاحقًا، تبيّن أن هذه الشركة ليست سوى واجهة لمجموعة فاغنر الروسيّة المقرّبة من بوتين، وهي شركة أمنيّة عملت خلال السنوات الماضية على إرسال مجموعات من المقاتلين المرتزقة للقتال إلى جانب القوّات الروسيّة في أنحاء مختلفة من العالم، كأوكرانيا وسوريا وأفريقيا.

في الوقت نفسه حصلت شركة سويوز نفتغاز “Soyuz Nefte Gaz” الروسيّة على حقوق التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الممتدة من جنوب شاطئ طرطوس إلى مدينة بانياس، أي بمساحة تزيد عن 2190 كلم2. ومن المعلوم أن هذه الشركة مملوكة من رجل الأعمال الروسي غينادي تيموشينكو، أبرز رجال الأعمال المقرّبين من بوتين. كما تم منح هذه الشركة أيضًا عقد التنقيب عن حقل قارّة في ريف حمص، الذي يحتوي على حقول محتملة مهمّة من الغاز الطبيعي.

وفي مجال الغاز أيضًا، من المفترض أن تبدأ شركة سويوز نفتغاز العام المقبل استخراج الغاز من البلوك البحري رقم 2، بعدما أنجزت عمليّات الاستكشاف والتنقيب في هذا الحقل خلال الفترة الماضية. وبذلك، ستكون الشركة قادرة على ربط الغاز المستخرج من هذا البلوك بإنتاجها في البر عبر الأنابيب، ما يؤمّن الجدوى الاقتصادي للعمل على تصديره أو بيعه في الداخل السوري.

ولم تقتصر عقود شركة سويوز نفتغاز على قطاع الطاقة فقط، بل نالت أيضًا حقوق استخراج الفوسفات من حقول منطقة تدمر السوريّة، وبعقود امتدت لغاية 50 سنة، وبحجم إنتاج يقارب ال2.2 مليون طن سنويًّا. كما حصلت هذه الشركة على حقوق التنقيب عن المعادن في حقول الفوسفات الواقعة في منطقة البادية السوريّة، شرق مدينة دمشق. مع الإشارة إلى أنّ سوريا تمتلك احتياطات كبيرة من الفوسفات في هذه الحقول بالتحديد، بحجم يتجاوز المليار و950 مليون طن، وهو ما يضع سوريا في المرتبة الرابعة عالميًّا على هذا الصعيد.

نشاط شركة سويوز نفتغاز امتدّ ليشمل الحصول على عقد استثمار وتشغيل مرفأ طرطوس، أكبر مرافئ سوريا وأكثرها نشاطًا على مستوى الاستيراد والتصدير، حيث تبلغ المساحة الإجماليّة لهذا المرفأ نحو 3 ملايين متر مكعّب. وهذا العقد بالتحديد، تعرّض لانتقادات واسعة، لكون الشركة مختصّة اساسًا بعمليّات إنتاج واستخراج مصادر الطاقة، ولا يوجد ما يبرر تسلمها مرفقا سياديا حيويا بهذا الحجم. وبالفعل، أكّد أداء الشركة السيئ في إدارة المرفأ كل هذه الانتقادات، فيما أثار طرد الشركة 3600 موظّف من المرفأ فور استلامه من الدولة السوريّة حفيظة السوريين.

وفي جميع عمليّات تلزيم حقول النفط والغاز أو البلوكات البحريّة، أو حقول المعادن والثروات الطبيعيّة، لم تشهد سوريا مرّة واحدة منافسات مفتوحة وتنافسيّة وشفّافة بين الشركات المهتمّة، قبل توزيع التراخيص.

وبذلك، جرى عقد صفقات الشركات الروسيّة لقربها من الرئيس الروسي وانتمائها لمجموعة الأوليغارشيا المحيطة به، بدل توزيعها بحسب العروض التي تعطي الحصّة الأكبر من العوائد للدولة السوريّة. كما امتنع النظام السوري عن نشر هذه العقود أو الإعلان عن تفاصيلها، بخلاف مقتضيات الشفافيّة في التعامل مع الثروات الطبيعيّة، وهو ما زاد من هواجس المتابعين لهذا الملف.

سوريا تدفع ثمن التدخل العسكري الروسي

باختصار، تدفع سوريا اليوم ثمن التدخّل العسكري الروسي، من خلال هيمنة الشركات الروسيّة على المرافق العامّة والمواقع السياحيّة والموارد الطبيعيّة، بينما لا ينافس هذه الشركات في ذلك سوى الشركات الإيرانيّة التي تحاول تأمين الحد الأدنى من الحضور في هذه القطاعات. وكما هو واضح، أدّت سيطرة هذه الشركات إلى صفقات وتلزيمات غير منصفة بالنسبة للسوريين، سواء لجهة كيفيّة استثمار المواقع السياحيّة، أو على مستوى حصّة الدولة السوريّة من ثرواتها الطبيعيّة، أو طبيعة المستفيدين من النشاط الاقتصادي في البلاد.

بالنسبة للمستقبل، مازالت روسيا تملك أطماعًا في العديد من الاستحقاقات الاقتصاديّة المقبلة في سوريا. فأضرار الحرب السوريّة تجاوزت حتّى اليوم حدود ال530 مليار دولار، في حين أن العمليّات العسكريّة تمكنت من تدمير أكثر من 40% من البنية التحتيّة.

ومع اتجاه سوريا نحو عمليّات إعادة الإعمار، ولو ببطء نتيجة محدوديّة الموارد الموجودة، ستكون الشركات العقاريّة الروسيّة حاضرة للاستفادة من هذه المرحلة أيضًا، تمامًا كما استفادت من أرباح القطاعات الأخرى. وهذا تحديدًا ما بدأ النظام الروسي بالتحضير له منذ مدّة.