ميرال أكسينر: إسمٌ جديدٌ بارزٌعلى المسرح السياسي التركي، فعلى الرغم من أنها أمضت عقوداً ما بين المشاركة والإحجام عن السياسة التركية، إلا أنها أصبحت في العام الماضي اسماً مألوفاً، حيث يتساءل الكثيرون عما إذا كان أسلوبها الشجاع والجريء يهدد قبضة الرئيس رجب طيب أردوغان على السلطة. ولكن من هي هذه المرأة؟
ولدت أكسينر عام 1956 لأسرةٍ من المهاجرين اليونانيين، حيث توجهت بدايةً للعمل في المسار الأكاديمي، حيث ارتقت إلى أن حازت على منصب رئيسة قسم التاريخ في جامعتها قبل أن تستقيل عام 1994 لدخول المعترك السياسي. وبانتخابها لصالح حزب الصراط المستقيم العلماني المحافظ، رأت بأم أعينها الاضطراب والعنف الذي اتسمت به السياسة التركية في تسعينيات القرن الماضي. وبتقدمها السريع إلى أن وصلت إلى منصب وزير الداخلية في حكومة نجم الدين أربكان اليمينة المعتدلة الإسلامية، انتهى مشوار أكسينر في مجلس الوزراء في أعقاب ما يُسمى “إنقلاب ما بعد الحداثة” عام 1997.
ميّزتها مقاومتها الشرسة للانقلاب العسكري بعدم خوفها من تحدي حتى أقوى القوى في تركيا؛ السمة التي لا تزال تميز موقفها السياسي اليوم. فأكسينر، التي تحمل لقب “أسينا” أو المرأة الذئب في الأساطير التركية، كما يُسميها مؤيدوها في الكتلة القومية التركية، والتي يُشكل الذئب أهمية رمزية خاصة لهم، لا تخشى المواجهة.
فقد مضى أكثر من 80 عاماً على السماح للنساء الأتراك بالدخول إلى البرلمان، إلا أنهن لا يتمعتن بقدرٍ كافٍ من التمثيل لدى المشرعين في البلاد. ففي عام 1993، شغلت تانسو تشيلر منصب رئيسة الوزراء، إلا أنها تعدّ استثناءً إذ لطالما هيمن الذكور على المناصب رفيعة المستوى من السياسة؛ كما تزخر السياسة المحلية أيضاً بالذكور إلا أنه يسهل على النساء اختراقها. فبالنسبة لبلدٍ يمتاز بمثل هذا النفوذ السياسي الذكوري، ومنذ صعود أردوغان والنزعة لسياسة الرجل القوي، يعدّ صعود أكسينر إلى مكانةٍ بارزة، أمرا أكثر من رائع.
وعلى الرغم من الإطاحة بها من مجلس الوزراء، إلا أن أكسينر، المتزوجة وأم لطفل، بقيت في البرلمان، وفي عام 2007، عندما أعيدت تسمية حزب الحركة القومية على يد زعيمه الطاعن في السن دولت بهجلي، عاودت إكسينر الانضمام إلى المعترك السياسي وحولت ولائها البرلماني إلى الحزب. وبعد فوزها في إعادة الإنتخابات في عام 2011 لصالح حزب الحركة القومية، كانت سنواتها في البرلمان خاليةً من الفضائح لتتوسع مكانتها في الحزب ببطء، وبخاصة عندما أصبحت نائبة رئيس البرلمان.
ومنذ عام 2015، بدأت أكسينر تجاهر بمعارضتها لإذعان بهجلي لأردوغان، احتجاجاً على انحراف حزب الحركة القومية عن المبادىء التأسيسية الكمالية الصارمة للحزب. وصلت هذه المشاحنات أوجها في عام 2016 عندما أسفر استجوابها الصريح لقيادة بهجلي عن طردها من حزب الحركة القومية.
إلا أن معارضتها لاستفتاء أردوغان الدستوري عام 2017 ما سلط عليها حقاً أضواء الرأي العام. أيد بهجلي حملة أردوغان بـ”نعم،” بعد صفقةٍ مزعومة بتقلده منصباً رفيعاً في الحكومة في ظل النظام الرئاسي الجديد. فقد حظي جدالها حول عودة سيادة القانون والحكم البرلماني والتمسك بجذور الجمهورية التركية، إلى جانب موقفها الصريح وخطاباتها الجريئة، فضلاً عن حقيقة كونها واحدة من أبرز النساء السياسيات في تركيا، باهتمامٍ واسع من الرأي العام.
ولكونها قومية مُخلصة، فإن سياساتها محافظة بشكلٍ لا يقبل التهاون، فضلاً عن كونها متشددة ضد التمرد الكردي وحذرة حول الموقف الأكثر حزماً لتركيا على المستوى الإقليمي. ومع ذلك، وبالرغم من مقارنتها بزعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان، إلا أنها ترفض الاتهامات بالعنصرية أو السياسات العرقية، وتتفاخر بدلاً من ذلك باعتزازها بالقومية المشتركة باعتباره هدفاً حقيقياً.
وبصفتها مسلمة متدنية، كما تقول، ناشدت في خطاباتها الأتراك المتدينين إلى جانب المواطنين الذين يحملون فكراً أكثر علمانية، ودعتهم إلى الوحدة في بلدٍ يبدو أنه يزداد استقطاباً أكثر من أي وقتٍ مضى. فرسالة أردوغان للوحدة مماثلة، وبينما تحاول أكسينر التودد للناخبين المؤيدين لقطاع الأعمال، والقوميين، والمتدينين تماماً كحال حزبه، حزب العدالة والتنمية، تبدو المواجهة مع الرئيس محتملة. وتماماً كحال حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، لا يزال خطابها يدعم بحماس شديد سيادة القانون، على عكس حملة أردوغان العاطفية على أي شخصٍ يعتبره تهديداً له. ومع ذلك، وفي حين أن حزب الشعب الجمهوري لم يتمكن من كسب الدعم خارج الطبقة الحضرية العلمانية التي لطالما شكلت قاعدة ناخبيه الرئيسية، إلا أن سياسة أكسينر تشكل تهديداً قابلاً للتطبيق لقاعدة الدعم السياسي لأردوغان.
يمكن أن يُعزى صعودها الحالي إلى الفوضى وخيبة الأمل التي تولدها حملة أردوغان ضد المجتمع التركي في أعقاب محاولة الانقلاب العام الماضي. وبالنظر إلى التهديد السياسي الذي قد تشكله على هيمنة حزب العدالة والتنمية، تمثل أكسينر هدفاً غضّاً للاتجاه الحالي بالاضطهاد السياسي. بيد انها نجت حتى الآن من الادعاءات الرسمية بالتواطؤ مع الحركة المؤيدة لغولن، والتي اتهمت بتدبيرها محاولة الانقلاب.
وخلال حملة التصويت على الاستفتاء، أصبح دعمها الشعبي في الحزب واضحاً، حيث ظهر الجناح الشاب من حزب الحركة القومية، أو كما يُعرفون بالذئاب الرمادية سيئة السمعة، باعتبارهم أحد أشد المؤيدين لها. وعندما استقالت من الحزب عام 2016، حذى حذوها حوالي 210 من أعضاء الحزب رفيعي المستوى، ليضعوا معاً أسس الخطوة التالية في حياتها المهنية.
وفي 25 أكتوبر 2017، وتحت راية الشمس الساطعة وشعار “تركيا ستكون صالحة،” أطلقت أكسينر حزب لي (الحزب الصالح) ووعدت بالتغيير بعد سنواتٍ من الاستبداد المتفشي.
فقد اجتذب حزب اليمين الوسط بالفعل تأييد خمسة نوابٍ تحت قبة البرلمان، حيث يُدرج الحزب التعددية، والديمقراطية، وسيادة القانون، وحرية التعبير، والقومية، باعتبارها قيماً أساسية له، مما يضع الحزب بالتأكيد على مسارٍ تصادمي مع أردوغان، الذي يميل إلى فرض قانون الطوارىء. كما تحدث أوميت أوزداغ، أحد زملاء أكسينر، عن رغبة الحزب بالمحافظة على إخلاصه للعلمانية التركية، إلى جانب توحيد الوطنيين في البلاد من كلا طرفي الطيف السياسي.
إلا أن علاقات أكسينر بالذئاب الرمادية أثار مخاوف من المسار الذي سيسلكه الحزب. فالذئاب الرمادية تمتلك تاريخاً عنيفاً في تركيا، إذ شكلوا في أوقاتٍ ما من سبعينيات وثمانينات القرن الماضي جماعةً شبه عسكرية. وعلى الرغم من أنهم أعادوا صياغة أنفسهم في السنوات الأخيرة، إلا أنه في حفل إطلاق الحزب الصالح رفع العشرات من الحضور بأيديهم رمز الذئاب بفخرٍ بين الحشود. وبالرغم من أن مثل هذه العروض ذات النزعة القومية المتطرفة شائعةٌ في تجمعات أكسينر، إلا أن الوقت وحده كفيلٌ في أن يظهر لنا مدى اضطرارها إلى الخضوع إلى قاعدة مؤيديها الديموغرافية الأكثر تطرفاً.
فقد قالت في اجتماعٍ في سبتمبر “سيولد حزبنا باعتباره حزب تركيا،” إلا أنّ هذا الخطاب شائعٌ بين أكثر من حزبٍ واحد في الطيف السياسي التركي. ومن المؤكد أن شعبية أكسينر الجديدة تشكل تهديداً لقاعدة دعم أردوغان من الطبقة العاملة، كما ألمحت إلى احتمالية ترشحها ضده في الإنتخاب الرئاسية التركية، ولكن ما لم تنجح في تحويل انتباه الرأي العام إلى أصواتٍ في انتخابات عام 2019، فلربما قد ينتهي الأمر بكون حزبها صالحاً، ولكن ليس بما فيه الكفاية.