صوّت المواطنون الأتراك في 16 أبريل 2017 بالموافقة على إدخال تغييراتٍ على دستورهم ومنح رئيس البلاد، رجب طيب أردوغان، صلاحياتٍ تنفيذية واسعة. ومن المرجح أن يُنظر إلى النتيجة باعتبارها لحظة جوهرية في التاريخ السياسي للبلاد، إلى جانب كونها لحظة شخصية مهمة في مسيرة أردوغان. فقد بلغت نسبة المشاركة في التصويت حوالي 85%، واحدة من أعلى النسب على الإطلاق، حيث جاء ما نسبته 51,4% من الأصوات لصالح تحويل النظام السياسي البرلماني، الذي لم يمس، إلى حدٍ كبير، منذ تأسيس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية في عام 1923. ولكن ما الذي يكشفه الاستفتاء عن البلاد نفسها؟
فالشكل السياسي الجديد لتركيا بات ممثلاً في قالب رجلٍ واحد: الرئيس أردوغان، إذ كان الاستفتاء مشروعه منذ البداية. ومن شأن التغييرات الدستورية، التي سيبدأ سريانها بعد الانتخابات المقبلة في عام 2019، أن تمنحه سلطات موسعة إلى حدٍ كبير لتعيين الوزراء وإعداد الميزانية واختيار أغلبية كبار القضاة وسنّ قوانين معيّنة بموجب مرسوم. كما سيصبح رئيس السلطة التنفيذية، وكذلك رئيس الدولة، مع الاحتفاظ بالعلاقات مع حزبه السياسي. وسيتم إلغاء منصب رئيس الوزراء، وسيتم استحداث منصب نائب الرئيس الجديد (ربما اثنين أو ثلاثة). كما سيفقد البرلمان فعلياً حقه في التدقيق بالوزراء، ويمكن لأردوغان الآن البقاء في منصبه حتى عام 2029. وقد سارع العديد إلى تشبيه تركيا الجديدة هذه إلى دولة الرجل الواحد.
فلا شيء يعتبر ثمناً مرتفعاً تم دفعه لتحقيق الإنتصار في هذا التصويت، حتى مع تعريض علاقات تركيا الدولية للخطر. ففي السنوات الأخيرة، إنقلب خطاب أردوغان ضد تقوية العلاقات مع الإتحاد الأوروبي، ولكن باعتبارها أكبر شريكٍ تجاري لتركيا، تحتاج أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي الآن أكثر من أي وقتٍ مضى. هذا ويمثل الاتحاد الأوروبي ما يقرب من 55% من الصادرات التركية، وأقل بقليل من ثلثي استثماراته الأجنبية المباشرة البالغة 12 مليار دولار. ومع ذلك، عندما حظرت عدة مدن أوروبية تجمعات حملة “نعم” أو الزيارات السياسية التي قام بها وزراء الحكومة، لم يخشى أردوغان حرق هذه الجسور. وبعد أن فرضت كل من ألمانيا وهولندا قيوداً على جهوده لكسب أصوات عدة ملايين من الأتراك الذين يعيشون في تلك البلدان، وصف قادتهم بـ”النازيين،” مثيراً غضباً دولياً.
المعارضة في الداخل
حكم حزب أردوغان، العدالة والتنمية، منذ عام 2000، البلاد بلا منازعٍ تقريباً، ليحصد أغلبية قوية في جميع الإنتخابات ما عدا مرة واحدة. وفي ظل قيادة أردوغان، بدا الحزب غير قابلٍ للهزيمة. ومع ذلك، كشف الاستفتاء النقاب عن تزايد المعارضة في صفوف الحزب، وعلى ما يبدو فإن تعطش أردوغان للسلطة أثار سخط بعض أقرب حلفائه. فقد نأى عبد الله غول، الرئيس التركي السابق وشخصية بارزة في حزب العدالة والتنمية، بنفسه عن الحملة. كما اجتمع أردوغان ورئيس الوزراء بن علي يلديرم، مرتين مع وزراء حزب العدالة والتنمية السابقين لحشد الدعم، إلا أن غول غاب في كلتا المناسبتين. وإلى جانب ذلك، أعرب عن قلقه، بكل صراحة، من حملة أردوغان، ورفض حضور تجمع “نعم” في مسقط رأسه، قيصري، في 22 أبريل 2017. وفى العام الماضى، قال غول أنه لا حاجة إلى نظامٍ رئاسي فى تركيا.
كما انحرف سياسي بارز آخر في حزب العدالة والتنمية عن خط أردوغان، ألا وهو رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو. ويبدو أن علاقات داوود أوغلو السابقة مع أردوغان، التي انحدرت من أعلى مستويات السياسة التركية في عام 2016، قد شابها البرود. فعندما كان داود أوغلو رئيساً لحزب العدالة والتنمية في عام 2015، تم إلغاء الوعد بتبني الرئاسة التنفيذية من بيان الحزب. فقد لعب دوراً هامشياً في حملة “نعم،” وفي يناير 2017، وصف البرلمان بأنه “الدرع والعمود الفقري للديمقراطية.”
بيد أن عدم الإرتياح لحملة “نعم” لم يقتصر على أرفع القيادات السياسية. فحتى في الأناضول، التي تعتبرعادةً المنطقة الحيوية لدعم حزب العدالة والتنمية، أعرب المصوتون عن مخاوفهم إزاء احتمال زيادة تركيز السلطة في يد أردوغان.
وفي محاولةٍ لضمان التصويت بـ”نعم،” كان عقد الصفقات عنوان اللعبة. فقد ذهب حزب العدالة والتنمية إلى حد التغاضي عن الإنقسامات السياسية لإقامة تحالفٍ مع دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية اليميني، الذي انتقد بشدة الفساد الحكومي والسلطوية في الانتخابات السابقة. ويُعتقد على نطاقٍ واسع أنّ هذا التحالف غير الإعتيادي، كان ممكناً فحسب لأن أردوغان وعد بهتشلي بتقلده منصب نائب الرئيس في النظام الجديد.
من جهةٍ أخرى، كان الأكراد، وهم عادةً من أشد المنتقدين للحكومة، أيضاً هدفاً من أهداف الغزل الناعم للحكومة، مع وعود بإرساء الأمن الذي طال انتظاره، وحتى الهدايا النقدية، في حال تم قبول التغييرات الدستورية. وعلى الرغم من ذلك، يتواصل اعتقال زعماء حزب الشعوب الديمقراطى المؤيد للأكراد بتهمة الارهاب.
وبالرغم من ذلك، فقد أبرمت أيضاً صفقاتٌ أكثر غرابة. ففي 29 مارس 2017، وقع أردوغان على قانونٍ بمرسوم طارىء يخوّل خبراء التجميل استخدام معداتٍ محددة لإزالة الشعر بالليزر، في محاولةٍ أخيرة لكسب أصوات جيل الشباب الأكثر تحرراً. وتُشير جميع هذه الصفقات إلى عدم اليقين الحكومي حول الاتجاه الذي سيسلكه التصويت في 16 أبريل 2017.
هل باتت الديمقراطية التركية في عداد الموتى؟
طوال الحملة، أثيرت مخاوف جدية بشأن حالة الديمقراطية في تركيا. فقد اشتكى کمال قلیتش دار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسى ورئيس حملة “لا،” مراراً وتكراراً من استخدام ما يُسمى بأجهزة الدولة غير السياسية، والأموال، وحتى المساجد التى تمولها الحكومة فى الخارج لدعم التصويت بـ”نعم.” وفي أعقاب الاستفتاء، قُدمت ادعاءاتٌ بتزوير الأصوات، ونشرت بعثتا مراقبة دوليتان قائمة بالمخالفات المتصلة بالحملة والتصويت. وقد تم التشكيك فى مصدر حوالى 2,5 مليون صوت، أي أكثر بقليل من ضعف الهامش الفائز، مع اتهامات بحشو صناديق الاقتراع فى جميع دوائر التصويت تقريباً. وطوال الحملة، عرقلت مسيرات “لا” بشكلٍ منتظم، في حين أن نظرائهم من حملة “نعم” كثيراً ما حصلوا على نقل مجاني من المسؤولين الحكوميين المحليين، غير السياسيين، نظرياً. وعلاوة على ذلك، اتهم قلیتش دار أوغلو اللجنة الانتخابية بتغيير القواعد بعد بدء التصويت، مما أثار غضباً ومطالباتٍ بإعادة فرز الأصوات جزئياً من قبل حزب الشعب الجمهوري.
ولعل أكثر ما يبعث على القلق أنّ الحملة نفسها تميزت بما وصفته منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بـ”المجال غير المتكافىء.” فقد تم منع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني من المشاركة، ووسائل الإعلام الحكومية (التي تمثل الآن نحو 80% من جميع وسائل الإعلام التركية) فضلوا بشدة حملة “نعم،” كما سُجن سياسيو المعارضة، وتم التصويت في ظل حالة الطوارىء. وفي ظل الجو السياسي المشحون للحملة، شبه أردوغان خصومه بإرهابييّ تنظيم الدولة الإسلامية “داعش،” وتم الإبلاغ عن تعرض مؤيدي “لا” لهجماتٍ جسدية. بل وصل الحد إلى محاولة الحكومة إزالة كلمة “لا،” سواء كانت مرتبطة بالحملة أم لا، من أمام مرأى العامة. وعلى الرغم من أن أردوغان أشاد بالتصويت على أنه انتصارٌ للديمقراطية، وإعلان المراقبين أن الاستفتاء “حر،” إلا أن الكثيرين سيشككون في ما إذا كان منصفاً أم لا.
وختاماً، عندما استولى حزب العدالة والتنمية على السلطة أول مرة، وعد أردوغان بـ”تركيا جديدة،” ولربما يكون هذا الاستفتاء بالفعل ضربته القاضية؛ استكمالاً لمشروع الدولة، بعيداً كل البعد عن الديمقراطية البرلمانية التي ورثها، ولتشكيل خطابٍ عام يتم فيه اليوم، وإلى حدٍ كبير، الحكم على الوطنية بالولاء لأردوغان نفسه. ولا بد أن نستذكر هنا عبارته الشهيرة بأن “الديمقراطية مثل القطار؛ يقف عندما تصل إلى وجهتك.” واليوم، يرغب العديد من مراقبي تركيا في معرفة ما إذا كان الاستفتاء قد سطر بالفعل نقطة النهاية.