منذ ولادتها عام 1923، اتسمت علاقة الجمهورية التركية بأقلياتها بالإضطراب، وعلى رأسهم الأكراد. فمنذ عام 1984، لعب الجزء الكردي الجنوبي الشرقي في تركيا الدور الرئيسي في الصراع بين القوات المسلحة في أنقرة والمسلحين الأكراد، الذين يطالبون، على أقل تقدير، بحقوق أكبر وبالإعتراف، ويطالبون على نطاقٍ أكبر بالإنفصال الكامل والاستقلال. فمحادثات السلام واتفاقات وقف إطلاق النار شرّعت أبوابها وأغلقت مراراً وتكراراً، لينتهي إتفاق السلام الذي دام خمس سنوات في عام 2004. ومنذ ذلك الحين، تسلل العنف مجدداً إلى المجتمع التركي، مدعوماً بالحرب في سوريا، والرئيس طيب رجب أردوغان بطموحاته التي تصل حد السماء.
لم يقتصر هذا الصراع بأي حالٍ من الأحوال على أرض المعركة، التي كافح النشطاء خارجها من أجل المزيد من الحقوق الثقافية واللغوية والسياسية. غير أن حزب العمال الكردستانى، أبرز مجموعة كردية مسلحة وأحد الأحزاب الذي تصفه الحكومات الاجنبية، على نطاقٍ واسع، بكونه منظمةً إرهابية لهجماته في جميع انحاء تركيا، من حدد الصراع.
ففي عام 2015، انهارت الهدنة غير المستقرة التي استمرت 11 عاماً بين تركيا وحزب العمال الكردستاني أخيراً، مع اندلاع أعمال عنفٍ جديدة. وفي عام 2016، قتلت الهجمات بالقنابل والأسلحة الكردية، التي عمّت جميع أنحاء تركيا، وشوهت عشرات رجال الشرطة والجنود. حمل المسلحون السلاح واحتلوا أحياء المدن الكردية، واندلعت المعارك في شوارع سيزر وسرناك وسور وديار بكر، العاصمة غير الرسمية للجنوب الشرقي. أدت أشهرٌ من القتال إلى تدمير آلاف المنازل وقتل العشرات، على الرغم من أن القيود الحكومية على تغطية الأحداث ساعدت في إخفاء الثمن الحقيقي للعنف. ففي عام 1992، في ذروة الحرب مع حزب العمال الكردستاني، أجبر قتال شوارعٍ مماثل 20 ألفاً من سكان سرناك البالغ عددهم 25 ألف نسمة على الفرار. وهذه المرة، عاندت إدعاءاتٌ بانتهاكات حقوق الإنسان العمليات التركية، ففي أسوء حادثة، اتهم الجنود بقتل حوالي 100 مواطن من سيرزي، ممن كانوا يحتمون من القتال في أقبيتهم. بيد أن تحقيق العدالة لضحايا مثل هذه الهجمات أمرٌ بعيد المنال، إذ تُشير جماعات حقوق الإنسان إلى عرقلة السلطات التركية، إلى حدٍ كبير، للتحقيقات في الانتهاكات التي ترتكبها قوات الأمن. وفي سيزر، تم تجريف المنطقة التي شهدت أسوأ قتال، لتدفن الأدلة، ويدفن معها أي أملٍ في تقديم مرتكبي الانتهاكات المزعومين إلى العدالة.
ومن العناصر الرئيسية لمثل هذه العقبات قمع وسائل الإعلام الكردية المستقلة. فلطالما كان الكتاب والصحفيون الأكراد هدفاً للهجوم على وسائل الإعلام في تركيا، مما جعل البلاد تحتل باستمرار أسوأ المراتب في حرية الصحافة في العالم. ففي تسعينيات القرن الماضي، كان القمع في كثيرٍ من الأحيان جسدياً، حيث شاع إحراق الممتلكات والاعتداءات الجسدية على الصحفيين. وعلى الرغم من أن الصحفيين المسجونين في تركيا هم عادة من الأكراد (68% في عام 2012)، تحوّل الضغط في السنوات الأخيرة، مع تخويف مقدمي الخدمات الإذاعية بخفض الخدمات المقدمة للوسائل الإعلامية الكردية ومواقع الإنترنت التي تحجبها سُلطات الاتصالات. ويبدو أن هذا القمع مرتبطٌ بشكلٍ مباشر بالحد من تغطية الصراع الكردي، حيث اتهم معظم الصحفيين المحتجزين بارتكاب جرائم إرهابية. ومنذ محاولة الانقلاب في يوليو 2016، زاد هذا الضغط. فقد تم إغلاق عدد من المنافذ الإعلامية باللغة الكردية باعتبارها تشكل تهديداً للأمن القومي، إذ كان هذا أيضاً حال محطة تلفزيونية باللغة التركية التي كانت تغطي فحسب القضايا داخل المنطقة الكردية.
ومع ذلك، لا يزال العديد من الأكراد في تركيا لا يهابون مواجهة القمع المتزايد. ففي أواخر مارس 2017، خرج عشرات الآلاف إلى الشوارع للاحتفال بعيد النوروز، العام الجديد، في ديار بكر، حيث هتف المتظاهرون بشعاراتٍ تدعم زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون، عبد الله أوجلان. وفي السنوات الأخيرة، كان الإنتخابات أكثر وسائل المقاومة الكردية فعالية. فقد نجح حزب الشعوب الديمقراطي، الليبرالي ذو الأغلبية الكردية، في شق طريقه، بل أنه نجح أيضاً في تجاوز عتبة الـ10% لدخوله إلى البرلمان التركي في عام 2015- والتي تعدّ سابقةً لحزبٍ سياسي كردي. ومع ذلك، هاجمت أنقرة، بشكلٍ متزايد، السياسة الكردية.
فقد كانت السعادة تغمر الرئيس أردوغان عندما ادعى وجود صلاتٍ بين حزب الشعوب الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني، لينتقم العديد من الأتراك، متجاوزين القانون، من مكاتب حزب الشعوب الديمقراطي في أعقاب هجماتٍ من قِبل مسلحين أكراد، كان آخرها في دسيمبر 2016. وفي مايو 2016، دعا أعضاء حزب أردوغان- حزب العدالة والتنمية– إلى إجراء تصويتٍ برلماني لتعديل الدستور وتجريد النواب من حصانتهم من الملاحقة القضائية، وهي خطوة وضعت على الفور 138 نائباً، معظمهم من حزب الشعوب الديمقراطي وحزب الشعب الجمهوري المعارضان، ضمن دائرة خطر الملاحقة. ومنذ ذلك الحين، تم اعتقال حوالى 26 نائباً من حزب الشعوب الديمقراطي البالغ عددهم 59 عضواً، حيث كان من بين الـ12 معتقل زعيما حزب الشعب الديمقراطي، صلاح الدين دميرطاش وفيغين يوكسيكداغ. وفي نوفمبر 2016، اعتقل دميرطاش، إلى جانب نائب رئيس حزب الشعوب الديمقراطي، إدريس بالوكين، إذ اتهم كلاهما بصلته بحزب العمال الكردستاني.
وعلى الرغم من أن الصراع مع حزب العمال الكردستاني مستمرٌ منذ عقود، إلا أن محاولة الانقلاب أعادت إحياء رغبة الحكومة في استئصال العناصر التي ترى أنها مرتبطة بأي نوعٍ من أنواع الإرهاب. وفي سبتمبر 2016، أقيل 28 من رؤساء البلديات المنتخبين في المنطقة الكردية جنوب شرق البلاد من مناصبهم، متذرعين بقانون الطوارىء الذي فرض بعد محاولة الانقلاب. اندلعت اشتباكاتٌ في مدن المنطقة بعد هذه الخطوة، فضلاً عن إعلان الحكومة نيتها تعيين أمناءها الخاصين (الذين يفترض أنهم أكثر وداً لإردوغان). ومن بين هؤلاء الذين تمت إقالتهم، يزعم أن أربعة من رؤساء البلديات كانوا على صلة بحركة غولن، المتهمة بمحاولة الانقلاب، و24 منهم على صلةٍ بحزب العمال الكردستاني.
وفي إنتكاسةٍ أخرى للسياسة الكردية، اعتقلت السلطات في أواخر أكتوبر 2016، جولتان كيساناك، رئيسة بلدية ديار بكر وفرات أنلي رئيس البلدية المشارك، بتهمة العمل لصالح حزب العمال الكردستاني. تمتاز هذه المدن الجنوبية الشرقية بتقاليد منذ وقتٍ طويل بارتفاع نسبة الناخبين في التصويت والعمل السياسي، وكلاهما يشكل تهديداً على التصويت في الاستفتاء الدستوري القادم الذي يجريه أردوغان، في منطقةٍ يحاول منذ فترةٍ طويلة استمالتها.
ولم يقتصر هذا التطهير على السياسة. ففي سبتمبر 2016، أعلن رئيس الوزراء بن علي يلدريم، دون أي أدلة، صلة 14 ألف معلم تركي بالإرهاب، ووعد بايقافهم عن العمل كإجراءٍ احترازي.
مشاكل خارجية
لا تقتصر العلاقات بين أنقرة والأكراد على حدود تركيا، فتركيا تراقب عن كثب الشعب الكردي على طول حدودها في سوريا والعراق وإيران. فقد شنّ الأكراد حملاتٍ مسلحة في البلدان الثلاث، مطالبين بالمزيد من الحقوق وبالاعتراف وبالاستقلال الذاتي. وتؤمن أنقرة أن قيام أي دولةٍ كردية مستقلة على حدودها سوف يؤجج التطلعات العرقية لدى سكانها الاكراد، الأمر الذي يهدد سلامة الأراضي التركية، فالمشروع الكردي في العراق وسوريا ما يُثير قلق أنقرة إلى حدٍ كبير.
وفي السنوات الأخيرة، ومع تحسّن العلاقات مع أربيل في كردستان العراق، ويرجع ذلك أساساً إلى تجارة النفط، قبلت أنقرة بحكومة إقليم كردستان التي تحكم المنطقة. ومع ذلك، لا تزال العلاقات، سيما على المستوى الجماهيري، بعيدةً كل البعد عن الدفء. وللمرة الأولى، رُفع علم حكومة إقليم كردستان إلى جانب العلم العراقي خلال زيارة رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني لتركيا في فبراير الماضي، مما أثار حرباً كلامية بين المعلقين الأتراك، على الرغم من أن رئيس الوزراء يلدريم قد دافع عن وجود العلم. وخلال تسعينيات القرن الماضي، كان العلم مصدر الخلاف الرئيسي بين الأكراد العراقيين وتركيا، ولم يسمح للمركبات التي تحمل ملصقات علم حكومة إقليم كردستان بعبور الحدود التركية.
وكما هو الحال في العراق، تسببت فوضى الحرب في سوريا، وتضاؤل قدرة دمشق في السيطرة على أراضيها، في خلق فراغٍ في السلطة شغلته المجموعات السياسية الكردية، مما أدى إلى إنشاء منطقةٍ شبه رسمية للحكم الذاتي في روج آفا في شمال سوريا.
فقد حرص الأتراك على إحباط المحاولات الرامية إلى تعزيز الحكم الكردستاني، وقصف وحدات حماية الشعب، وهي ميليشيات كردية في روج آفا، بل وصل الأمر إلى حد الغزو الذي أنهى آمال توحيد الكانتونات الكردية على طول الحدود السورية. ومع ذلك، وفي ظل ضغوطٍ دولية هائلة، قدمت أنقرة تنازلاتٍ لأكراد سوريا، مما أدى إلى إنقاذ مدينة كوباني التي كانت على وشك السقوط في أيدي مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من خلال السماح للبشمركة العراقية بالوصول إلى المدينة عبر تركيا. إلا أن الدعم الأمريكي والدولي للقوات الكردية السورية لا يزال يُشكل نقطة خلافٍ رئيسية في علاقات تركيا الخارجية، مع غضب أنقرة على حلفائها وحرصها على محاولة منع القوات الكردية من تحرير الرقة، معقل “داعش” في سوريا.
ومع فقدان حوالي 30 ألفاً إلى 40 ألفاً لحياتهم في الصراع الدائر بين تركيا والمسلحين الأكراد منذ عام 1984، فإنها بلا شك واحدة من أكبر وصمات العار في تاريخ الجمهورية.