عندما سألتها ما هي مهنتها، ضحكت قليلاً ثم أجابت “أنا مهرجة وهذا الشيئ الوحيد الذي أحترفه في الحياة.” ضحكت معها أيضاً، فقد يعتبر البعض أن التهريج لا يمكن أن يكون عملاً مستداماً يستمر معنا طوال حياتنا، لكن لسابين هذه الفنانة التي تعشق عملها رؤية ونظرة مختلفة.
ولدت سابين شقير في شهر يناير من عام 1982 في بيروت – لبنان من عائلة صغيرة مؤلفة من شقيق وشقيقة. تلقت دروسها الإبتدائية والثانوية في مدرسة القلبين الأقدسين في بكفيا ثم الحدد. وفي العام 1999 نجحت سابين في إمتحان الدخول إلى الجامعة اللبنانية، كلية الفنون الجميلة قسم المسرح. لا تعرف سابين كيف تجد كلمات تصف بها قرارها هذا بدراسة المسرح، إذ تعتبر هذا عشقها منذ الصغر. فبهلاوانة البيت كما يحب والدها تسميتها، ما زالت كما كانت طفلة مليئة بالحياة والنشاط وشابة حالمة، حيث أخبرتنا “درست المسرح لأنني أحب جعل الناس يحلمون.” فسابين شقير ولدت وترعرت خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) وكان الحلم يومها طريقها الوحيد إلى الحياة.
تتلمذت شقير في الجامعة على يد أهم وأبرز أساتذة المسرح يومها في لبنان. ولعل أستاذة المسرح والإيماء الممثلة عيدا صبرا كان لها التأثير الأكبر والأبرز على قرارات شقير المسرحية. ففن الإيماء، هذا الفن الصامت نادى شقير بعظمته. حزمت حقائبها مع مطلع الألفية الثانية وسافرت إلى لندن حيث تخصصت فيه في “دسموند جونز للإيماء،” وخلال دراستها بدأت تشعر سابين أن الإيماء ليس هو ما تطمح إليه وما تبغيه في الحياة. فالبنسبة لها هذا الفن يمكن أن يوصلها إلى مكان ثابت غير متحرك وهي كانت بحاجة في تلك الفترة إلى فنٍ نابضٍ بالإحساس وبالحياة إستجابة للنداء الذي كان يحاكيها منذ الصغر بجعل الناس يحلمون، وهل أفضل من القصص لتحقيق هذا الهدف؟ لم يكن من الصعب على سابين إتخاذ القرار الذي قد يُغير مجرى حياتها، فدخلت المدرسة الدولية لفنون العرض في لندن لتدرس فن التهريج ورواية القصص (الحكواتي).
تعتبر سابين أن الإنسان بطبعه بحاجة لسماع القصص، فشهرزاد، الملكة الأسطورية، نجحت في إنقاذ حياتها من خلال القصص، ومن منا لم يسمع الحكايات قبل النوم لينعم بليلةٍ دافئة حالمة، تلك الحكايات التي تنمي قدرة الإبداع عند الإنسان، تلك القصص التي تساعدنا في كثيرٍ من الأحيان على تخطي واقعنا المرير، وهل أفضل من المهرج كي يقص علينا كل تلك القصص، تقول سابين.
ليس المهرج بالنسبة لسابين هو ذاك الذي يضع أنفه الأحمر فحسب، بالنسبة لها، هو تلك الطفولة الموجودة في كل شخص منا. “تلك الطفولة التي نسعى في كل مرة إلى قتلها وطمرها. تأتي هي لمساعدتنا على إعادة إخراجها إلى الحياة، فتسعادنا للتعامل براحة أكبر مع مشاكل الحياة اليومية التي تعترضنا.”
بناءً على هذا ومع كل الصعوبات والمشاكل التي تعترض الإنسان يومياً، أيقنت سابين أن رسالتها ستكون أبعد من مجرد فن الإيماء، بل سيحتاج عملها إلى الكثير من الأشخاص في القريب العاجل. دفعها هذا للتوجه إلى “إيست سايد إنستيتيوت” في نيويورك حيث حصلت على شهادة في العلاج النفسي الإجتماعي. وفي يناير2007 عادت سابين إلى وطنها الأم لبنان لتبدأ من هنا مشوارها الصعب على أرض الواقع.
المهنة الإنسانية لسابين
البداية كانت قاسية وصعبة جداً، فلبنان الغارق بأزاماته ومشاكله لم يتمكن من استيعاب العمل الذي تقدمه شقير بسرعة. فمن أصل ستين إقتراح مشروع قدمته سابين لجمعيات ومؤسسات داعمة لم تلقى آذاناً صاغية أو من يهتم بعملها. وهي التي لا تعرف إنجاز أي عمل آخر غادرت لبنان من جديد في عام 2009 لتلاقي صديقتها في المكسيك. وهناك قررت مع صديقتها الشروع بورش عمل، فوضعت أنفها الأحمر وبدأت تجول في الشوارع من بلد إلى بلد، منذ عام 2009 وحتى اليوم، من الهند إلى البرازيل وصولاً إلى كندا، وبهذه الطريقة بدأت سابين تأسيس فرقتها “كلون مي إن” التي أصبحت تضم اليوم أكثر من عشرة مهرجين يزرعون البسمة أينما حلوا.
تختار سابين المواضيع التي تريد معالجتها مع فريقها بدقة وعناية، تستعين بأنفها الأحمر لتشتم رائحة المشاكل والصعوبات التي تحيط بهم. فقبل أسابيع قليلة من بدء أزمة النفايات في لبنان في يوليو 2015، وتراكم الأكياس في شوارع المدينة، قدمت شقير مع أصدقائها عرضاً تفاعلياً في شوارع مدينة بيروت موضوعه عدم إهتمام اللبناني ببيئته ومحيطه ورميه للنفايات بطريقة عشوائية دون الاعتماد على الفرز من المصدر.
عرضٌ أضحك المارة والمشاهدين، لكنه أنذر بقرب وصول العاصفة ، وها هم اللبنانيون اليوم يغرقون في الروائح الكريهة.
وبالتزامن مع تأسيس فرقتها قامت سابين بورشات عمل في فن التهريج والدعم النفسي الإجتماعي مع شباب وأطفال من لبنان والمغرب والأردن ودبي ولندن والولايات المتحدة والهند والبرازيل والمكسيك وفرنسا والكاميرون. ودون أن تنتظر قدومهم إليها، قررت هي أن تذهب إليهم.
غيّرت سابين نظرتها إلى الحياة بعد أن انخرطت بالعمل الإجتماعي مع الشباب الذين يتعاطون المخدرات. هم في ريعان عمرهم مدمرون يائسون، لذا قدمت عروضها لتضحكهم ولتساعدهم في الوقت عينه على التخلي عن مشاكلهم والإنطلاق نحو حياة أكثر بساطة وأكثر فرحاً.
ورغم كل الجهود التي وضعتها سابين شقير في سبيل مساعدة الآخرين، ونشاطها الدائم منذ أكثر من عشرة أعوام، لم يأخذ عملها الإجتماعي مداه إلا مع بدء الحرب السورية عام 2011، وبدء ما سمي بأزمة اللاجئين بعد تدفق أكثر من مليون سوري إلى لبنان. وبسبب هذه المأساة والوضع غير المستقر في سوريا المنكوبة بالحرب، أيقنت شقير عندها أن الوقت قد حان لمساعدة الشريحة الأكبر من الناس، فقررت التعاون مع جمعية بيروت دي سي الثقافية وبدعمٍ من الاتحاد الأوروبي واليونيسيف في لبنان. وبعد زيارات عديدة قامت بها إلى مخيمات اللاجئين السوريين والفلسطنيين بين البقاع وبيروت، قررت سابين أن تقود ورشة عمل تحت عنوان “رؤية الذات،” لتساعد من خلاله وفي الإطار نفسه المراهقين الشباب ضحايا الحرب والعنف العائلي والإجتماعي على التعبير عن ذاتهم وكتابة قصصهم وتحوليها إلى أفلام وثائقية قصيرة بمساعدة مخرجين متخصصين في المجال. أنتجت ورشة العمل هذه حوالي تسعة عشر فيلماً وثائقياً قصيراً شاركوا في مهرجانات سينمائية مهمة حول العالم وحاز البعض منها على جوائز، لكن الأهم من كل ذلك، أن هذه الأفلام ساعدت أصحابها الذين مروا بظروف صعبة جداً على تخطي مشاكلهم.
عندما كانت سابين تعمل مع هؤلاء الأطفال، كانت تظن أن هذا أقصى وضعٍ إجتماعي يمكن أن تعمل به، ولكن مع بدء أزمة تدفق اللاجئين السوريين إلى اليونان، تلقت سابين طلباً من جمعية “مهرجون بلا حدود،“. قدمت سابين مشروع عمل إجتماعي في لبنان لكنها كانت تدرك جيداً أن اليونان، وبالتحديد جزيرة لسفوس، هي المكان الأنسب لعملها، فحزمت حقائبها ومضت إلى هناك.
لا يمكن لسابين أن تتحدث بسهولة عن تجربتها على تلك الجزيرة، سوريون لاجئون يأتون من كل حدب وصوب هاربون من الموت، أطفالاً ونساءً وشباباً رأوا الموت بأعيونهم، ورأوا أقاربهم يموتون في عرض البحر. كانوا يُصّلون ويظنون أنهم وصلوا إلى أوروبا حتى يدركوا سريعاً أنهم ما زالوا على جزيرة صغيرة والطريق أمامهم طويلة.
“لم يضحك أحدٌ في ذلك المكان، حتى المساعدين الإجتماعيين كانوا في حالة صدمة، كنا الوحيدين الذين نضحك ونحاول إضحاك الجميع،” تُضيف سابين.
لا تخاف شقير على نفسها رغم كل المشاهدات التي تراها والمآسي التي تلتقيها من أن تصبح شخصاً تعيساً مع الوقت، بل على العكس، فهي تزرع الفرح على وجوه هؤلاء الناس. تضحك من قلبها لتضحكهم ولتزيل الحزن من داخل قلوبهم.
لسوء الحظ، ليس هناك ما يوثق أعمال شقير الفنية، ذلك أنها فنانة بلا ريشة ولا قلم ولا كاميرا، فهي تستعين فقط بأنفها الأحمر، وبتنورتها المزركشة وفقاقيعها الهوائية لتقدم عرضها. وحده من يشاهد تهريجها مباشرةً يمكنه أن يستمتع بفنها، لذا قد لا تدخل التاريخ أسوةً بأعظم الفنانين، لكن صورتها ستبقى في عيون كل من شاهدها وأضحكته من قلبه.
تستعد سابين اليوم لإطلاق “الكرفانة،” مشروعٌ جديد من مسرح الشارع التفاعلي الذي سيجول في الأراضي اللبنانية. فأفكار عروض سابين مبنية على قصص لاجئين سوريين تقوم بتسجيلها حالياً (استمعوا للقصص وتابعوا مدونتها). كل ما تتمناه سابين اليوم هو أن يلاقيها العديد في العمل التطوعي الإجتماعي، فالعمل كثير والمتطوعون قليلون.