في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وبعد تحوّل الإنتفاضة السورية فيما بعد إلى حربٍ أهلية عام 2011، حظيت قضية الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط باهتمامٍ دولي متزايد نتيجةً للعنف المستهدف الذي عانوه في كلا البلدين.
من بين هذه المجتمعات الآشوريين الذين يرجع تاريخهم إلى المسيحية المبكرة في البلاد التي باتت تعرف اليوم بالعراق وسوريا وتركيا وإيران. وبحسب جوزيف يعقوب، عالم اجتماعٍ ومؤرخ متخصص في المسيحيين الشرقيين وحقوق الإنسان والأقليات، تُثير طائفة “الآشوريين” العديد من الأسئلة لأن الكلمة لا تستخدم غالباً لتشمل الآشوريين فحسب ولكن أيضاً الكلدان والسريان، وكما يقول “إذا أدرجنا كلا المجتمعين المقيمين في الشرق الأوسط والمغتربين، يمكننا إحصاء ما بين مليونين وثلاثة ملايين من الآشوريين والكلدان والسريانيين في العالم. ومع ذلك، لا توجد إحصاءات رسمية.”
يزعم الآشوريون والكلدان والسريانيون أنهم ينحدرون من آشور، وهي واحدة من أقدم الحضارات في العالم التي يعود تاريخها إلى 2500 قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين القديمة. يعيش غالبيتهم في مناطق محيطة بوطنهم التاريخي في الشرق الأوسط، كما يشكلون مجتمعاً مهماً في الشتات، لا سيما في السويد (100 ألف نسمة) وألمانيا (100 ألف نسمة) والولايات المتحدة (80 ألف نسمة) وأستراليا (46 ألف نسمة).
مع مرور الوقت، انقسم الآشوريون والكلدان والسريانيون إلى كنائس مختلفة. الخمسة الرئيسية هي الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، والكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، وكنيسة المشرق، والكنيسة السريانية الأرثوذكسية، والكنيسة السريانية الكاثوليكية. فاللغة السريانية، وهي اللغة التي يتحدث بها بعض الآشوريين والكلدان والسريانيين، مشتقة من الآرامية، وغالبا ما توصف الأخيرة بأنها لغة يسوع، كما صنفتها اليونسكو على أنها لغة “مهددة بالتأكيد،” حيث لا يتجاوز عدد من يتحدثون بها حوالي 240 ألف شخص.
وفي أعقاب سقوط صدام حسين، تفاقمت التوترات الدينية والعرقية في العراق. وبين عامي 2003 و2006، تم تنفيذ ما لا يقل عن 30 هجوماً إرهابياً على الكنائس والتي نُسبت إلى المتمردين السُنة. كما تم استهداف الأقليات بشكلٍ مباشر من قبل العديد من الجماعات الأصولية الإسلامية التي سعت إلى إبادة غير المسلمين وبشكل عام جميع الأشخاص الذين لم يتبعوا مبادئهم ومعتقداتهم. وفي الموصل، تم إجبار بعض العائلات على تقديم الدعم المالي للميليشيات السُنية أو اعتناق الإسلام. وفي ربيع عام 2003، فرض الزعيم الشيعي مقتدى الصدر قوانين الشريعة، بما في ذلك الحجاب الإجباري. وفي البصرة، حكم على بائعي المشروبات الكحولية ومصففي الشعر المسيحيين بالإعدام في بعض الأحيان. لذلك أجبر مجتمع الآشوريين والكلدان والسريانيين على النفي أو الفرار أو الطرد من البلاد.
فقد أفاد مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين في عام 2007 أن ثلث اللاجئين العراقيين البالغ عددهم 1,8 مليون لاجىء كانوا من الآشوريين.
لكن التمييز لم يتوقف عند هذا الحد، فبعد ظهور الدولة الإسلامية المعلنة ذاتياً (داعش)، كانت أقليات الآشوريين والكلدان والسريانيين من بين الأهداف الأولى للجماعة الإرهابية. ففي يونيو 2014، صدرت فتوى تُجبر جميع غير المسلمين في الموصل إما على اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو الفرار أو القتل. فر جميع سكان المدينة المسيحيين البالغ عددهم ما بين 35 ألف إلى 50 ألف نسمة، وقام أعضاء من داعش بتمييز منازلهم بالحرف العربي “ن،” في إشارةٍ إلى كلمة نصراني، مصطلحٌ سلبي يُقصد به المسيحيون. وفي حين أن العديد من الآشوريين والكلدان والسريانيين في الموصل لجأوا بدايةً إلى سهول نينوى، إلا أنه تم تهجيرهم قسراً مرةً أخرى في أغسطس 2014 مع اقتراب داعش وسيطرته على أراضٍ جديدة.
تكررت هذه الوحشية في عام 2015 في وادي الخابور في سوريا، عندما اختطف داعش مئات الآشوريين والكلدان والسريانيين، كما اضطر آخرون للتخلي عن منازلهم، تاركين كل شيء وراءهم هرباً من اضطهاد داعش، الذي غزا بالفعل حوالي 14 قرية آشورية في شمال شرق سوريا.
كما استهدف داعش ثقافتهم وتراثهم، حيث دمر الآثار قبل الحقبة الإسلامية في متحف الموصل وما تبقى من المدن الآشورية القديمة.
وفي هذا الصدد قال يعقوب “تدمير الهوية الثقافية للأقليات ليس بالأمر الجديد،” وأضاف “تاريخياُ، حاولت القومية العربية دائماً ‘تعريب‘ المجتمعات التي لم تعتبر نفسها عربية.”
تحاكي انتهاكات حقوق الإنسان هذه انتهاكاتٍ أخرى في التاريخ الحديث، فقد ألقت الإبادة الجماعية العثمانية للأرمن عام 1915 بظلالها على السكان المسيحيين الآخرين في الإمبراطورية العثمانية وبلاد فارس المجاورة، والذين قُتل منهم 275 ألف شخصٍ على الأقل. وقبل الحرب العالمية الأولى، كان هناك ما يقرب من 600 ألف آشوري وكلداني وسرياني يعيشون في ظل الحكم العثماني.
ولأول مرة في 12 أبريل 2015، اعترف البابا فرانسيس بأن “المسيحيين السريان الكاثوليك والأرثوذكس، والكلدان والآشوريين” قد استُهدفوا أيضاً خلال الإبادة الجماعية للأرمن.
وبالتالي، أحيا العنف الذي ارتكبه داعش ضد مجتمعات الآشوريين والكدان والسريان ذكرى مؤلمة. وفي عام 2014، أعلن البطريرك لويس ساكو، زعيم الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في العراق، أن المسيحيين العراقيين يواجهون “كارثة إنسانية.”
ومن الجدير بالذكر أن المدن العراقية التي تضم سكاناً آشوريين هي تلك الموجودة في محافظة نينوى في الشمال ومحافظة دهوك في المنطقة الكردية. كما يعتبر شمال شرق سوريا أيضاً موطناً للجالية الآشورية، حيث ينحدر الكثير منهم من اللاجئين الذين فروا من تركيا خلال الإبادة الجماعية عام 1915 أو نجوا من مذبحة سميل في عام 1933 في العراق.
على الرغم من انضمام العديد من الآشوريين والكلدان والسريانيين إلى قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد في شمال شرق سوريا لمحاربة داعش، إلا أن عدداً متزايداً من التقارير تشير إلى انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها السلطات الكردية ضد الأقليات غير الكردية، بما في ذلك الآشوريين والكلدان والسريانيين. تحاول السلطات الكردية إقامة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وهي منطقة تتمتع بالحكم الذاتي على الحدود السورية التركية، حيث تشمل حوكمتهم على “إضفاء الطابع الكردي” على المنطقة من خلال إصلاح المدارس بالإضافة إلى المدفوعات القسرية المفروضة على جميع المجتمعات لإعادة بناء المدن التركية، ولا سيما نصيبين، معقل حزب العمال الكردستاني، التي شهدت دماراً هائلاً منذ يوليو 2015 في الصراع المستمر مع تركيا. تشمل انتهاكات حقوق الإنسان هذه أيضاً “طرد ونهب المنازل والكنائس بالإضافة إلى تهديداتٍ باغتيال رجال الدين،” وفقاً لتقريرٍ صادر عن اتحاد الآشوريين في أوروبا عام 2017.
ووفقاً لما قاله يعقوب “تتمثل المشكلة في أن هذه المنطقة ليست كردية حصراً. إنها فسيفساء من المجتمعات، بوجود كلٍ من المسلمين والمسيحيين، العرب وغير العرب. لذا فإن ‘إضفاء الطابع الكردي‘ قسراً على المنطقة بأسرها يثير الكثير من المخاوف بين المجتمعات غير الكردية.”
وبحسب ما قاله فإن أكثر من 60% من الآشوريين والكلدان والسريانيين غادروا العراق وسوريا. وقبل عام 2003، كان هناك حوالي مليون مسيحي في العراق، و”اليوم، هناك 40 ألفاً فحسب، إن لم يكن أقل.”
هل هناك أي أمل بعودة هذه المجتمعات ذات يوم إلى وطنها التقليدي منذ آلاف السنين؟
يقول يعقوب: “إن السبيل الوحيد لعودتهم هو ضمان الاستقرار والأمن في المنطقة.” وتابع القول “هذا ليس حال المسيحيين فحسب، بل جميع المجتمعات. هذا أمرٌ أسمعه كثيراً. الأمن حق إنساني أساسي، ينبغي أن نضيف له الديمقراطية والاعتراف بالتنوع الثقافي والديني.”