وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

عنف المستوطنين الإسرائيليين يصل إلى مستويات غير مسبوقة

تكثف عنف المستوطنين الإسرائيليين في أعقاب حرب غزة مما أدى إلى مخاوف بشأن جدوى حل الدولتين.

عنف المستوطنين الإسرائيليين
مازن وخلفه إحدى البؤر الاستيطانية لشبيبة التلال (بعدسة: نينو أورتو)

* نينو أورتو

في ظل الاهتمام العالمي بالحرب الدائرة في قطاع غزة، شنّ المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية حملة تحرشوا فيها بالفلسطينيين واستخدموا العنف ضدهم لإجبارهم على ترك أرضهم.

أحمد كان بين الفلسطينيين الذين تعرضوا لعنف المستوطنين. وهو مزارعٌ بدوي يبلغ من العمر أربعين عاماً وأجبرته تلك الحملة على ترك أرضه الواقعة في بلدة عين الرشاش. وفي حديثه مع فنك حول تجربته المريرة، يقول أحمد: “كنا نعيش بسلام حتى عام 2019 حين وصل المستوطنون وبدؤوا يبثون الرعب. ومنذ بدء الحرب، أُغلقت جميع الطرق المحيطة بمنزلنا، بما في ذلك الطريق المؤدي إلى نبع المياه الذي يمثل مصدرنا الوحيد لمياه الشرب. ولأن الوضع أصبح مخيفاً ويهدّد أطفالنا، اضطُررنا إلى المغادرة بعد اليوم الرابع من الحرب. كنا نأمل أن نتمكن من العودة، ولكننا الآن نشهد افتتاح طرق جديدة وزيادة أعداد المستوطنين في المنطقة. والآن فقد تحوّل الأمل الذي كان يحدونا إلى سراب بعيد المنال”.

وعقب إجباره على ترك أرضه الواقعة بالقرب من مستوطنة ملاخي، اضطُرت عائلة أحمد إلى العيش مع عائلتين أُخريين في خربة المراجم المتاخمة لضواحي قرية دوما.

وتقول ابنة أحمد منى البالغة من العمر أربعة عشر عاماً لفنك: “يطلق المستوطنون النار علينا، ويأتون مع قوات الجيش أحياناً لاعتقال جميع الرجال. بالأمس فقط اعتقلوا والدي وعمي وأخي. صحيح أنهم أطلقوا سراحهم لاحقاً، ولكن محاولة إخافتنا وإجبارنا على ترك أرضنا ما تزال مستمرة”.

وبينما ينصب الاهتمام العالمي على العدوان الإسرائيلي في غزة، يواصل المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية وغور الأردن استهداف الفلسطينيين من خلال توسيع البنية التحتية والبؤر الاستيطانية غير القانونية. ورغم الاستنكار الدولي والتحذيرات المختلفة من حلفاء إسرائيل الرئيسيين، تستمر المضايقات والعنف كلّ يوم ضد المجتمعات الفلسطينية حتى يرحلوا ويتركوا أراضيهم.

عنف المستوطنين الإسرائيليين
أحمد في حديثه إلى الصحفيين (بعدسة: نينو أورتو)

المستوطنات غير القانونية: عقبة أمام المفاوضات

تمثّل المستوطنات غير القانونية عقبةً كبيرة في طريق حل الدولتين أو أي اتفاق سياسي يهدف إلى تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، خاصةَ في ظل الدعم المتزايد من حكومة نتنياهو لحركة الاستيطان.

وأعرب موريسيو لابتشيك، مدير العلاقات الخارجية في منظمة السلام الآن، وهي منظمةٌ إسرائيلية تراقب المستوطنات غير القانونية، عن قلقه بشأن استيلاء المستوطنين المنهجي على الأراضي بدعم الحكومة وتقنين أوضاع المستوطنات.

وقال لابتشيك: “منذ البداية، أقرت تلك الحكومة سياسة واضحة مفادها أن الشعب اليهودي له الحق الحصري في أراضي فلسطين التاريخية كلها”.

فمنذ عام 2022، خصصت حكومة نتنياهو الحالية تمويلاً كبيراً للمستوطنات، ما ساعد المستوطنين على تمهيد الطرق وتوسعة البنية التحتية وتسهيل تحركاتهم. وازداد الوضع سوءاً بعد هجوم السابع من أكتوبر، مما أدى إلى زيادة نفوذ المستوطنين في المنطقة.

وأضاف لابتشيك: “ما شهدناه من المستوطنين هو استيلاءٌ ممنهج على الأراضي وتقنين للبؤر الاستيطانية، ويشمل ذلك إنشاء 12 ألف وحدة سكنية في الأراضي التي يفترض أن تكون تحت السلطة الفلسطينية. وتلك هي أكبر عملية إنشاء مستوطنات منذ اتفاق أوسلو قبل 30 عاماً”.

وقسّمت اتفاقات أوسلو الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق إدارية: المنطقة (أ) وتبلغ مساحاتها 18% من الضفة وتخضع بالكامل لإدارة السلطة الفلسطينية في الشؤون المدنية والأمنية، ثم المنطقة (ب) ومساحتها 22%، وتخضع لإدارة السلطة الفلسطينية في الشؤون المدنية فقط؛ أخيرا المنطقة (ج) ومساحتها 60% وتخضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة.

ويسكن نحو 300 ألف فلسطيني في 532 منطقة سكنية داخل المنطقة (ج) وضواحيها. وتشمل أيضاً 400 ألف مستوطن إسرائيلي يسكنون 146 مستوطنة و144 بؤرة استيطانية.

ومنذ عام 2022، خصصت حكومة نتنياهو الحالية أموالاً طائلة تُقدّر بالمليارات للمستوطنات. وتستهدف تلك المخصصات عمليات توسيع الطرق والبنية التحتية، وتسهيل حركة المستوطنين في الضفة الغربية وعبر إسرائيل والأراضي المحتلة. وفي أعقاب هجوم السابع من أكتوبر، سيطرت إسرائيل على المنطقتين (أ) و(ب) وأغلقتهما، وذلك استجابة لمطالب المستوطنين وصدرت تعليمات للجيش الإسرائيلي بالامتثال للسياسة الجديدة.

ورغم أن بناء المستوطنات والبؤر الاستيطانية محظورٌ بموجب اتفاقات أوسلو، فإنّ إسرائيل تدعم ما يُعرف باسم “البؤر الاستيطانية”. وهي تقوم بذلك عبر تطوير البنية التحتية والمساعدات الاقتصادية، مع أنها لا تعترف رسمياً بتلك المستوطنات. وقد تطورت تلك البؤر الاستيطانية إلى “بؤر استيطانية زراعية” في ظل الحكومة الحالية. وأخذ المستوطنون في الاستيلاء على الأراضي وتقيد حرية الفلسطينيين في التنقل.

حرب غزة

أشار الحاخام أريك أشرمان، مدير منظمة تورات تسيدك (توراة العدل) الإسرائيلي، إلى خطورة مسألة ضبابية الحدود بين المستوطنين والجنود. وللمعلومية، فإن المستوطنين يتولون مسؤولية الأمن هناك في كثير من الأحيان بسبب الحملة العسكرية على غزة.

وقال أشرمان: “في كثير من الأحيان، يتولى المستوطنون مهمة حماية المستوطنات بعد ذهاب غالبية الجنود إلى غزة. وبطبيعة الحال، فإن هذا الأمر ساهم في تفاقم الوضع. ففي الوقت الراهن، بات رئيس المستوطنات المسؤول عن الأمن، وهو ما يعني تغير المعادلة القائمة”.

وأدى التداخل والتعاون بين الجنود والشرطة والمستوطنين الإسرائيليين إلى نشوء واقع متناقض، إذ يُضطر الضحايا إلى الإبلاغ عن الجرائم التي تُرتكب بحقهم لأولئك الذين ارتكبوها أصلاً. ويتضمن العنف المتصاعد عمليات مداهمات واقتحامات واعتداءات على المجتمعات البدوية وهو ما يشمل تسميم الحيوانات أو سرقتها.

وتجسد تجربة عادل دراجنة ذلك الظلم الفادح. وعاش عادل طوال حياته مع شقيقيه وعائلته في منطقة أم العبور حتى وجد ذات يوم أنّ أبقاره نُقلت قسراً إلى محمية طبيعية داخل منطقة يحميها المستوطنون. وفي نهاية المطاف، قرر مفتش بالمحمية مصادرة الحيوانات. وتحدّث عادل عن محنته قائلاً: “طلبوا مني 7000 شيكل (نحو 1940 دولار) لإعادة الأبقار. وأنا لا أملك هذا المال وهم يعلمون ذلك. إننا نتعرض لظلمٍ كبير، ونلقى مشاق ومصاعب يومية لا تمتّ للإنسانية بصلة”.

عنف المستوطنين الإسرائيليين
صادرت الشرطة 40 من أبقار عادل بعدما أخذها المستوطنون عنوة إلى منطقة محظورة بجوار مستوطنة حمدات. (بعدسة: نينو أورتو)

أما محمد فمزارعٌ في نبع الغزال بمنطقة الفارسية التي تقع على بضع كيلومترات من الشمال بالقرب من مستوطنة روتم. ويقول محمد عن معاناته: “وُلدت وعشت حياتي كلّها هنا، وأرعى مع عائلتي 300 رأساً من الغنم. ولكن في ليلة أمس، أتى المستوطنون بالسلاح واعتدوا علينا، وضربوا ابني مازن (15 عاماً) حين كان يحاول حماية الغنم. ومنذ بداية الحرب، ازداد عنف الشرطة الإسرائيلية تجاهنا. ويصرّ المستوطنون على أخذ الأرض لترعى فيها ماشيتهم ويستخدمون في سبيل ذلك أي وسيلة ممكنة”. ويضيف: “لم نكن نعاني قبل الحرب من درجة العنف التي نشهدها الآن، ويبدو أن كل شيء يتصاعد لطردنا من أرضنا”.

وأصدر نتنياهو، بعد ضغط من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أوامر حظر واعتقال إداري بحقّ المستوطنين المتطرفين بالضفة الغربية. بيد أن هذا القرار لن يجدِ نفعاً، إذ ثمة عدد كبير من المستوطنين الآخرين والمنظمات على أتم استعداد للتدخل وأخذ مكانهم.

وتعد “شبيبة التلال” أحد الأمثلة لتلك المنظمات، وتُعرف باستخدامها للعنف وتنفيذ الأعمال العدائية لدعم توسع المستوطنات في الضفة الغربية. ومنذ بدء الحرب، قامت المنظمة بربط البؤر الاستيطانية التابعة لها بالطرق والبنية التحتية وشكّلوا ممرات وعرة بين المستوطنات.

ويعيش جمال وعائلته بالقرب من إحدى تلك البؤر الاستيطانية في المنطقة المحيطة بأم دالين، علماً بأن العائلة تتعرض لهجمات إرهابية في الليل منذ بدء الحرب. وفي هذا السياق، قال جمال لفنك بمرارة: “يأتي المستوطنون ويسرقون الماشية في حماية الجيش والشرطة. وحين أذهب إلى الشرطة طلباً للعدالة، يكون ردّهم أنه ما من قانون هنا”.

وكانت الأوضاع ساءت بشدة بعد بدء العدوان على غزة، إذ تواجه المجتمعات البدوية هجمات واعتداءات يومية تشمل غارات ليلية ومداهمات للمنازل والضرب وتسميم الحيوانات. ورغم الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مثل حظر السفر، وحثّ الحكومة الإسرائيلية على تقليل دعمها للمستوطنين والتوقف عن إنشاء بؤر استيطانية جديدة، يبدو أن حضور المستوطنين وعنفهم لن يخفت في المستقبل المنظور.

وقال جمال: “منذ بضعة أيام، أتى الجيش برفقة المستوطنين في الليل. وقام هؤلاء باستهداف الجميع، حتى الأطفال ومن بينهم طفلي الرضيع، وتركونا خارج المنزل في البرد حتى ينتهوا من تفتيشه. إنهم لا يعرفون الإنسانية، وأنا الآن لا أعرف كيف سيكون في مقدوري حماية أطفالي من مثل هذه الاعتداءات”.

عنف المستوطنين الإسرائيليين
جمال واثنان من أطفاله في أم دالين المحاطة بالبؤر الاستيطانية غير القانونية (بعدسة: نينو أورتو)

نينو أورتو صحفي مستقل متخصص في تحليل الشأن العراقي والسوري والصراع الإسرائيلي الفلسطيني وحروب الشرق الأوسط. يتولى أورتو منصب رئيس تحرير موقع “Osservatorio Mashrek” المتخصص في تقديم تحليلات عن الشرق الأوسط. يمكنكم متابعة حسابه على تويتر من هنا.