وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

اضمحلال استبدادية أردوغان: فرصة جديدة للديمقراطية في تركيا؟

Erdogan
صورة تم التقاطها يوم ٧ نوفمبر ٢٠١٩ للرئيس التركي رجب طيّب إردوغان أثناء حديثه في مؤتمرٍ صحفيٍّ مشترك عقده مع رئيس الوزراء الهنغاري في مركز فاركت بازار الثقافي ببودابست. المصدر: Attila KISBENEDEK / AFP.

نشر موقع “Open Democracy” مقالةً سلّطت الضوء على تداعيات هزيمة حزب العدالة والتنمية الأخيرة في انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول على شكل المشهد السياسي والتحالفات الحزبية في تركيا. ويقوم صاحبا المقالة يكتان تركلماز، الباحث الزائر في معهد “فريدريك مينيكه” التابع لجامعة برلين الحرة، وسينام أدار، الباحثة المختصة في جامعة هومبولت ببرلين، باستعراض التطورات التي أدت إلى هذه النتيجة، ابتداءً من تأسس عهد الخوف بعد التحوّل إلى النظام الرئاسي في 2017، ومروراً بمحاولة الانقلاب الفاشلة واستخدام النظام لها لتبرير هيمنته على البلاد، ووصولاً إلى هزيمة حزب العدالة والتنمية الأخيرة في انتخابات إسطنبول وما كشفت عنه من خلافاتٍ توحي بإمكانية وقوع انشقاقاتٍ وشيكة داخل صفوف الحزب وتحالف الشعب.

وما تزال تركيا القضية الأكثر إثارة لاهتمام المحللين السياسيين المهتمين بتحليل حالة الاستبداد العالمي. وأثار فوز أكرم إمام أوغلو الكبير على بن علي يلدريم في جولة إعادة الانتخابات البلدية بإسطنبول فضول المتابعين المتقد بالفعل بشأن مستقبل تركيا السياسي. ونظراً لتزايد عدد تحليلات ما بعد الانتخابات، فقد احتفل النقاد بالإجماع تقريباً بهذا النصر الساحق باعتباره لحظة إحياءٍ للمعارضة وضربة قاتلة لقبضة إردوغان على السلطة.

واختلفت آراء المراقبين لهذه اللحظة، فقد اعتبروها دليلاً على: 1) “انتصار الديمقراطية” و٢) “هزيمة الشعبوية” و٣) “صمود قدرة الإنسان في ظل الحكم الاستبدادي”. وبطبيعة الحال، فقد تجاوز الفوز الذي حققه إمام أوغلو في 23 يونيو الماضي التوقعات بكثير، ليرفع بذلك من سقف طموحات المعارضة التي اجتمعت بحسب تركلماز وأدار لتحقيق هذا الغرض فحسب. وبالنظر إلى ما يسود تركيا الحالية من مناخٍ سياسي خانق، فقد أدت هذه الضربة الساحقة التي تم توجيهها لاستبداد إردوغان إلى تجديد الشعور بالتفاؤل لدى العديد من المحللين.

وعلى الرغم من براعة هذه الروايات في توضيح الجوانب المختلفة من هذه اللحظة الدراماتيكية، فإنها فشلت جميعاً في تحديد موقعها في إطار عمليةٍ غير مواتية وممتدة منذ الانتخابات البرلمانية التي جرت في 7 يونيو ٢٠١٥ عندما عجز حزب العدالة والتنمية لأول مرة منذ وصوله إلى السلطة في 2002 عن الفوز بمقاعد كافية لتشكيل الحكومة منفرداً. وبالتالي، فإن التغاضي عن مدى تأثير ما وقع منذ ذلك الحين من أحداث على طبيعة النفسية السياسية للنخب الحاكمة في تركيا وعلى طبيعة الصراع الدائر على السلطة داخل أجهزة الدولة – وهو ما يؤثر في طبيعة السياسات الانتخابية في النهاية – يترك تحليلات انتخابات الإعادة في معزلٍ عن أي سياق آخر.

وبعبارةٍ أدق، فإن مثل هذه التحليلات: 1) تفشل في تقييم المعنى “الجديد” لصندوق الاقتراع، وبالتالي تفشل في فهم رؤية النخبة الحاكمة لنفسها، والتي اتخذت طابعاً ثورياً في أعقاب محاولة انقلاب 15 يوليو 2016، 2) كما أنها تتجاهل حجم وآثار التراكم غير المسبوق لما حصل من تدميرٍ مؤسساتي خلال السنوات الثلاث الماضية، 3) ناهيك عن أنها تخلط التنبؤ بالتمني في حديثها عن الآثار المحتملة لانتخابات 23 يونيو لتعتبرها حقائق مؤكدة.

وتجدر الإشارة هنا إلى تصادم اتجاهين متناقضين في تركيا. ويكمن الاتجاه الأول في تقلّص الأدوات المتاحة للتأثير في اتجاه تغيير النظام بطريقةٍ كبيرة منذ انعقاد الانتخابات الرئاسية قبل عام. ويعني هذا الأمر أن وسائل التحول السياسي المحددة دستورياً باتت باليةً بحكم الأمر الواقع. ولكن في الوقت نفسه، فقد تزايدت الاحتمالات الوشيكة لإعادة تشكّل المشهد السياسي في البلاد إلى درجة لا مثيل لها منذ الحرب العالمية الثانية، لا سيما بعد تنظيم انتخابات إسطنبول في 23 يونيو المنصرم.

وبالفعل، فقد تشكلت هذه الاحتمالات – والتي لا يمكن النظر لها وكأنها حقائق – بصورةٍ تدريجية (وللمفارقة) بفعل النظام الاستبدادي نفسه، لا سيما جهود إردوغان الحثيثة لتعزيز حكمه الاستبدادي وهو ما عاد بنتائج عكسية. باختصار، فقد انفتح المجال السياسي في تركيا بعد 23 يونيو على مصراعيه لتلوح احتمالات كثيرة في الأفق.

وقد تكون النتيجة التي من المرجح الوصول لها في نهاية المطاف انهيار تحالف النظام العريض ليبقى تحالف طائفي أضيق وأشد بطشاً. وعلى الجانب الآخر، فإن هناك فرصة محتملة وتاريخية لوقوع تحرر جذري.

كما أن هناك ثمة إمكانية حالية لإعادة تشكيل العلاقات بين جهاز الدولة ومختلف القطاعات الرئيسية في المجتمع التركي، بما في ذلك المجموعات الطائفية والإثنية وكل الهوامش الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية الأخرى في البلاد، وبطريقةٍ تؤدّي إلى تفتّت السلطة المركزية وانحسارها وخضوعها لمحاسبةٍ ومراقبة حقيقية.

الاستبداد الإردوغاني: عنفٌ عاجز

Elections turkey
التقاط الصور إردوغان أثناء إدلائه بصوته في مركزٍ للاقتراع بإسطنبول يوم ٢٣ يونيو ٢٠١٩ ضمن الانتخابات المحلية. المصدر: Adem ALTAN / AFP.

لجأ إردوغان عقب هزيمة الانتخابات في 7 يونيو 2015 إلى سلسلةٍ من المناورات القاسية والمتطرفة للتعجيل بخططه طويلة الأمد على مستوى التحول إلى نظامٍ رئاسي “على الطراز التركي”، وهو نظامٌ يركّز كل السلطة التنفيذية بين يديه. ولتحقيق هذه الغاية، فقد قام بتطبيق إجراءاتٍ جريئة – بالقوّة أولاً ثم بالقانون لاحقاً – بما في ذلك نظام الحزب السائد والتحالف الانتخابي، ناهيك عن تعليقه لمحادثات السلام مع الحركة الكردية. وأثبتت هذه التحركات فائدتها مؤقتاً، ما أدى إلى فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات 1 نوفمبر المفاجئة من العام نفسه.

وإذا كان يوم 7 يونيو 2015 نقطة تحول حاسمة في تشكيل ديناميكياتٍ سياسية جديدة، تحديداً فيما يخص التحالفات، فإن محاولة انقلاب 15 يوليو 2016 كانت بمثابة النقطة الثانية في هذا التحول. وأدى ذلك إلى حدوث تحولاتٍ جمّة في تصورات النخب الحاكمة، وهو ما أثّر بشدّة على أجهزة الدولة. وبحسب تركلماز وأدار، فإنه لا بد هنا من التشديد على أهمية دور الديناميكيات العالمية كصعود الأنظمة الاستبدادية الشعبوية في جميع أنحاء العالم، ودور الديناميكيات الإقليمية المماثلة للحرب في سوريا والعراق في صنع الاستبدادية الإردوغانية. ومع ذلك، فقد لعبت الديناميكيات السياسية المحلية دوراً حاسماً في إحداث هذا التحول، وتتمثل هذه الديناميكيات في ثلاثة عوامل أعقبت انقلاب 15 يوليو 2016 وهي: 1) تشكّل نخبةٍ حاكمة ذات منظور ثوري للذات في ظل أيديولوجيا تقدّس الشخص، 2) الصراع الداخلي والخلافات في شبكة الدولة، 3) بروز نفسية سياسية مصابة بجنون الارتياب.

وتمثلت إحدى النتائج الرئيسية لهذا التحول في ظهور عهد الخوف. وبصورةٍ مغايرة لما عاشته تركيا في الماضي من إرهاب الدولة، فإن جميع المجموعات والأفراد لم يكونوا في مأمن من عهد الخوف الحالي، لا سيما المستويات العليا من الحكومة والبيروقراطية والمؤسسة العسكرية. وأدى طموح إردوغان في إقامة حكم الفرد القوي والمصحوب بانعدام الثقة في جهازه الحكومي بتوجيه ضرباتٍ قوية للمؤسسية، وفصل السلطات، والعقلانية البيروقراطية القائمة على مبدأ الاستحقاق. وقد يكون في مقدور إردوغان فرض أيديولوجيا تقديس حكم الفرد، وهي جوهر مشروعه الاستبدادي، مستعيناً بطاقة التدمير، إلا أن ذلك سيكون على حساب جهاز دولةٍ منهك لا بل منهار.

وتمكن إردوغان على مدار السنوات الأربع الماضية من الاستحواذ على السلطة القانونية والأخلاقية لإعادة ضبط النظام السياسي والبيروقراطي والاقتصادي بشكل تعسفي. إلا أن عملية احتكار السلطة لم تعالج ارتياب القيادة الحاد. كما أنها لم تقلّل من اعتماد إردوغان على حلفاءٍ من غير حزب العدالة والتنمية، لا سيما حزب الحركة القومية وقطاعات البيروقراطية الكمالية المعادية للغرب والمعارضة لمشاركة تركيا في حلف الناتو.

في المقابل، فإن النظام سيزداد جموداً وتهوراً كلّما كان أكثر قسوةً وتركيزاً على تقديس الشخص، ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى نظامٍ مضطرب وضعيف. وبعد فقدان نظام إردوغان لما يتمتع به من قدرة على التعاطي مع أجندةٍ سياسية طويلة المدى أو حتى متوسطة المدى، فإن هذا النظام بات يتقلّب من أزمةٍ سياسية واقتصادية ودبلوماسية إلى أخرى. في الوقت نفسه، ومنذ حالة الاضطراب التي وقعت في يوليو من عام ٢٠١٦، فقد دأب هذا النظام المضطرب على تزويد حلفاء إردوغان (الحاليين والسابقين) وخصومه على حدٍّ سواء بأسلحةٍ سياسية فتاكة لضرب استبداده المهلهل.

من فشل 31 مارس إلى إهانة 23 يونيو

Ekrem Imamoglu
عمدة إسطنبول الجديد عن حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو إلى جانب عمدة ديار بكر المعزول عدنان سلجوق ميرزاكلي أثناء زيارةٍ قام بها إمام أوغلو لمدينة ديار بكر يوم ٣١ أغسطس ٢٠١٩. المصدر: Ilyas AKENGIN / AFP.

كشفت الفترة التي تلت 31 مارس 2019 ما يعيشه نظام إردوغان الاستبدادي من حالة ضعف. وقام تركلماز وأدار في مقالةٍ أخرى بشرح الخصائص العامة للأفق السياسي والصراع على إسطنبول بعد انتخابات 31 مارس. أما هنا، فيرغب صاحبا المقالة التأكيد على أن طموح أردوغان في صنع أغلبيةٍ عدوانية تدعم شعبيته وتدافع عنها قد دفع أحزاب المعارضة المتناحرة الأخرى للتقارب، ما ساعدها في نهاية المطاف بتشكيل تحالفٍ يجمع صفوفها. كما أدت سياسات عقد التحالفات التي وُضعت محل التنفيذ بحكم الواقع بعد انتخابات 7 يونيو 2015 وتأجيل محادثات السلام مع الأكراد إلى نتائج عكسية. وكلفت هذه السياسات إردوغان في النهاية غالياً في انتخابات 31 مارس، حيث خسر حزبه المدن الثلاث الأكبر وهي إسطنبول وأنقرة وإزمير من بين العديد من البلديات.

وثبت بأثرٍ رجعي أن قرار الرئيس بالدفع إلى جولة الإعادة كان خطأً فادحاً. وتمثّل الخطأ الأكبر في ارتباك إردوغان وازدواجيته على مستوى التعامل مع وضع إسطنبول عقب فوز مرشح المعارضة بفارقٍ بسيط في 31 مارس. واعترت إردوغان في البداية حالةٌ من الارتباك، إذ صمت على غير عادته، ليخرج بعدها مضطرباً ويتحدث عن “شرعية” فوز إمام أوغلو حتى مطلع شهر مايو. وبصورةٍ مغايرة لما قام به إردوغان من مواربة، فقد كانت الأطراف الرئيسية من حزبه – لا سيما مجموعة “بيليكان” المتشددة – وكذلك الوزير النافذ سليمان صويلو، ودولت باهتشلي، وهو زعيم حزب الحركة القومية والحليف الأبرز لأردوغان، أكثر وضوحاً في رفض شرعية فوز المعارضة، دافعين بشكلٍ كبير نحو إعادة الانتخابات.

وسبق لإردوغان التصريح في الثاني من مايو الماضي بأن إعادة الانتخابات ستأتي بفوز مرشح تحالف الشعب. وبعد يومين، دعا الرئيس التركي مجلس الانتخابات الأعلى لإلغاء نتيجة الانتخابات وإعادتها. وعلى الرغم من معاودة اللجوء إلى الطريقة العدوانية بطريقةٍ واضحة، إلا أن إردوغان فشل في تهدئة الغضب داخل حزبه. وفي أعقاب الحكم الصادر في 6 مايو من المجلس الأعلى للانتخابات، أفصح بعض أعضاء حزب العدالة والتنمية البارزين (بما في ذلك أعضاءٌ في البرلمان) عن سخطهم بشأن إعادة الانتخابات. واللافت للنظر هنا هو عجز إردوغان، لأول مرة منذ الانقلاب في عام 2016، عن قمع أصوات المعارضين داخل حزبه. وعلى هذا النحو، يبدو أن هالة التقديس الراسخة التي تم صبغ شخص إردوغان وصورته العامة بها تتلاشى يوماً بعد يوم.

وإذا ما كان إخفاق 31 مارس السبب وراء تعثر النظام الذي طال انتظاره، فمن المحتمل استذكار إهانة 23 يونيو باعتبارها الهزة التي تسببت في زعزعة الاستقرار والانشقاق في نهاية المطاف. ففي 31 مارس، انتصر مرشح تحالف الأمة بهامشٍ ضئيل، ويرجع الفضل في ذلك بصفةٍ أساسية إلى قرار حزب الشعوب الديمقراطي اليساري/الكردي بدعم مرشحي التحالف. إلا أن إهانة 23 يونيو جاءت بمساهمة كافّة الأحزاب. وارتفع دعم الدوائر الانتخابية الموالية للحزب الكردي إلى نحو 90% (بعدما كان 80% في 31 مارس). كما ذهب أنصار تحالف الأمّة إلى صناديق الاقتراع بأعدادٍ أكبر، وتحوّل ما يتراوح بين ٤ و٥٪ من داعمي حزب العدالة والتنمية إلى الجانب الآخر. واتضح في نهاية المطاف أن ما يزيد عن نصف المؤيدين لحزب الحركة القومية (وهو جزءٌ من تحالف الشعب الخاص بإردوغان) قد فضّل التصويت لصالح أكرم إمام أوغلو.

تشكّل تحالف داخل تحالف؟

Nationalist Movement Party
زعيم حزب الحركة القومية دولت باهتشالي ملقياً لهدايا على أنصار حزب العدالة والتنمية وحزبه أثناء تجمّعٍ حاشد للانتخابات البلدية المقبلة في العاصمة التركية أنقرة يوم ٢٣ مارس ٢٠١٩. المصدر: Adem ALTAN / AFP.

هنا، لا بد من الإشارة إلى عدم تضرّر القاعدة الشعبية لحزب العدالة والتنمية بشكلٍ كبير رغم حالة الارتباك وسوء أداء الحملة الانتخابية والتدهور الاقتصادي. وزاد في الوقت نفسه دعم إمام أوغلو بين مؤيدي حزب الحركة القومية بأكثر من 35% (من 186 ألف إلى 253 ألف). وأدت مبادرة الحكومة التي سمحت لأوجلان – زعيم حزب العمال الكردستاني – بإصدار خطابٍ علني قبل أيامٍ قليلة من يوم الانتخابات بنتائج عكسية. وتضمن خطاب أوجلان دعوة حزب الشعوب الديمقراطية بالتزام الحياد بين تحالف الشعب وتحالف الأمة، منوهاً إلى ضرورة اتّباع الحزب لطريقٍ ثالث.

كما أضرّ بيان باهتشلي الذي انتقد فيه حزب الشعوب الديمقراطية لعدم امتثاله لرسالة أوجلان بالقضية ولم ينفعها. ونصّ البيان على أن أوجلان – كما ادعى باهتشلي – تدخّل لإيقاف إساءة حزب الشعوب الديمقراطية [والقصد هنا دعم الحزب لأكرم إمام أوغلو!]. وإلى جانب ذلك، فقد حاولت حملة تحالف الشعب – حتى قبل إصدار خطاب أوجلان – تشويه إمام أوغلو بادعاء أنه يوناني لكونه ولد في مقاطعة طرابزون شرق البحر الأسود – وهي منطقةٌ يحظى فيها حزب الحركة القومية بقاعدةٍ قوية – الأمر الذي ربما ساهم أيضاً في زيادة الدعم لإمام أوغلو وزاد من معدل امتناع أتباع الحركة القومية عن التصويت.

ومن الأمور المميزة التي لا بد من الإشارة لها في هذا المطاف وجود علاقة عكسية بين مساهمة دوائر حزب الحركة القومية في دعم تحالف الشعب وتأثير باهتشلي على التحالف بل وعلى العدالة والتنمية نفسه. وتمثل أحد أبرز التطورات في مرحلة ما بعد 31 مارس في نجاح دولت باهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية، في تجاوز إردوغان لتشكيل تحالفٍ مع صقور حزب العدالة والتنمية. وتجدر الإشارة هنا إلى عدم امتناع باهتشلي بعد إعادة الانتخابات في 23 يونيو عن نقد الصراع الدائر داخل حزب العدالة والتنمية، إذ قام بالتعليق على هذا الصراع بصورةٍ متعالية. كما أكد بقوة في ٢٦ يونيو ولاء حزبه لتحالف الشعب ورفض المزاعم التي تدّعي مطالبته بإجراء انتخاباتٍ مبكّرة.

وبعد ذلك، أدان زعيم حزب الحركة القومية في الثاني من يوليو بشدّة الشخصيات المؤسسة لحزب العدالة والتنمية – بما في ذلك الرئيس السابق عبد الله غول – علماً بأنه من المتوقع قيام هذه الشخصيات بتشكيل أحزابٍ سياسية جديدة. كما تجدر الإشارة إلى استخدام باهتشلي لخطابٍ أكثر حدة من إردوغان نفسه في نقد انشقاقات حزب العدالة والتنمية.

إلا أن مسار باهتشلي أثناء الحملة الانتخابية كان مثار تساؤلات كثيرة. فعلى الرغم من وعده بالإقامة في إسطنبول دعماً لمرشح تحالف الشعب بن علي يلدريم، فإنه لم يزر المدينة سوى يوماً واحداً. وتظهر صور قيادة حزب الحركة القومية التي انتشرت في وسائل الإعلام ما يزيد عن مجرد دعم حملةٍ انتخابية. إذ نشرت وسائل الإعلام صوراً لسيارته الليموزين وبرفقتها قافلةٌ من كوادر الحزب في سياراتٍ سوداء لامعة تعبر جسر البوسفور في إسطنبول. وقبل أقل من أسبوع من الانتخابات – ووسط انصباب الاهتمام السياسي برمّته على إسطنبول، ووسط تزايد قلق قيادة العدالة والتنمية بشأن نتائج الانتخابات القادمة – نُشر مقطع فيديو لباهتشلي على صفحة تويتر الرسمية لحزبه وهو يقود سيارته كرايسلر ليبرون من طراز عام 1982 مبتهجاً أثناء تحيته لأنصاره. وكانت الموسيقى التصويرية هي أغنية “فيردي تايفور” التي تحكي عن مصائب الأسرى وتطالب بالعفو العام، وهي قضيةٌ سبق لباهتشلي إثارتها ورفضها إردوغان بشدة.

ويظهر كلّ ذلك أن ضمان فوز مرشح تحالف الشعب لم يكن على قائمة أولويات باهتشلي، كما أنه لم يكن يشعر بقلقٍ كبير إزاء الاحتجاجات بين قاعدته الحزبية. وفي الوقت نفسه، وأثناء الحملة الانتخابية، نُسبت سلسلةٌ من الهجمات على الصحفيين والسياسيين على نطاقٍ واسع إلى مقربين من قيادة حزب الحركة القومية. وتجدر الإشارة إلى أن أحد الضحايا كان مراد آلان مدير الأخبار بصحيفة “يني أكيت” المؤيدة لحزب العدالة والتنمية، والذي سبق له توجيه عباراتٍ مثيرة للجدل لرئيس هيئة الأركان العامة في مناظرةٍ تلفزيونية قبل بضعة أيام من الاعتداء عليه. كما كان متين بوزكورت ضحية أخرى لهذه الهجمات، وهو عضوٌ مؤسس في حزب الخير المنشق عن حزب الحركة القومية. وسبق لبوزكورت تنظيم فعالياتٍ انتخابية للمثاليين (وهو اللقب الذي يُطلق على مؤيدي حزب الحركة القومية) بهدف دعم إمام أوغلو. والمثير للدهشة ترحيب شخصياتٍ بارزة في الحركة القومية بهذا الهجوم على العلن، وكان من بين المرحبين أحمد يلدريم الذي كتب في حسابه على تويتر “إما أن نسكتهم تماماً، أو سنخرج الدماء من أفواههم”. وبالنظر إلى سلوك باهتشلي في الحملة الانتخابية وما يبدو على أنه جهودٌ لمعاقبة “أعداء” حزب الحركة القومية وأطراف في أجهزة الدولة، فإن هدف زعيم حزب الحركة القومية الأكبر يتلخص في حماية نفوذه داخل البيروقراطية والحفاظ على وحدة الحزب التنظيمية قبل كلّ شيء.

كما يمكن قراءة سلوك قيادة حزب الحركة القومية إزاء الحملة الانتخابية باعتباره توقعاً لحدوث ثورة سياسية بعد انتخابات إسطنبول. وهنا، قد نرى في انضمام باهتشلي لتحالف الشعب – ونقصد به هنا تعاونه مع جماعات داخل حزب العدالة والتنمية، وتجاوزه أردوغان نفسه أحياناً – عنصراً مهماً في تحديد أرض المعركة السياسية الجديدة، وصنع التصدعات المتوقعة داخل العدالة والتنمية، ناهيك عن فهم الساحة السياسية والبيروقراطية الجديدة بعد ترك إردوغان للمشهد التركي. وقد يكون إردوغان أدرك ذلك فنشر تصريحاً غير معتاد عقب الانتخابات على شكل إعلانٍ في إحدى الصحف ورد فيه أن زعيم حزب الحركة القومية على رأس مؤيديه، متناسياً بذلك موقف باهتشلي المتناقض أثناء الحملة الانتخابية. ولم يكن أردوغان يوماً في وضعٍ يسمح له بالتخلي عن دعم باهتشلي، خاصةً في ظل تعرّض قيادته للهجوم من جميع الأطراف بما في ذلك دائرة حزبه. لذلك، يبدو أن إردوغان لا يملك سوى التمسك بباهتشلي مهما كلّفه الأمر، وهو ما اتضح مؤخراً عندما قيامه بزيارة هذا الأخير على غير عادته في منزله.

هل تمت استعادة الديمقراطية – أو على الأقل هيبة صناديق الاقتراع – في تركيا؟

Binali Yildirim
رئيس حزب العدالة والتنمية ومرشح الحزب لمنصب عمدة إسطنبول بن علي يلدرم وإلى جانبه عقيلته سميحة يلدرم أثناء توجيهه لخطاب أمام وسائل الإعلام ومناصريه عقب إدلائه بصوته في أحد مراكز الاقتراع وذلك في إطار إعادة انتخابات إسطنبول يوم ٢٣ يونيو ٢٠١٩. المصدر: GURCAN OZTURK / AFP.

في أحد التحليلات التي أجراها صاحبا المقالة بعد 31 مارس، فقد تمت الإشارة إلى أن “التصويت بات إرشادياً ولم يعد حاسماً للتمثيل السياسي، على الأقل بالنسبة إلى الزمرة الحاكمة”. هذه الملاحظة لم تستند فقط إلى الخلاف الخاص بإسطنبول، ولم تكن تستند إلى تطوراتٍ محدّدة بعد الانتخابات. فالنظام الحالي ما يزال يرى أن مصدر شرعيته الأول مستمدٌ من دماء مؤيديه التي سُفكت في مواجهة الانقلابيين يوم 15 يوليو 2016. ويعني هذا الأمر أن النخبة السياسية تدّعي الحق في السلطة الثورية بناءً على انتصارها – للمفارقة – على فصيلٍ داخل جهاز الدولة.

وعبّر إردوغان عن هذا الطموح مؤخراً خلال الاحتفال بذكرى هزيمة الانقلاب. ففي خطابه أمام البرلمان، شبّه الرئيس التركي تفجير البرلمان في 15 يوليو 2016 باستهداف البرلمان أثناء حرب التحرير. وبصورةٍ مماثلة، قارن محمد موش المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية في خطابه بين إحباط محاولة انقلاب جماعة غولن وبين البطولات الرائدة السابقة في التاريخ التركي كالتوغل الأوّلي للأتراك في الأناضول ووصول أتاتورك إلى سامسون في 19 مايو 1919، وهو تاريخٌ يقدسه الكماليون ويعتبرونه بداية حرب “التحرير الوطني”. وتنتشر مثل هذه المقارنات بين تركيا ما بعد 15 يوليو 2016 وبطولات الماضي بين الكتّاب الداعمين بشدة لإردوغان ومنهم إبراهيم قراغول. وبالتالي، سيكون من السذاجة القول بإن قناعات هذه القيادة قد تغيرت بسهولة، وإن الديمقراطية والاقتراع كانا ميتين واستعادا اليوم حياتهما. كما توحي إشارات قيادة تحالف الشعب إلى مدى العزم على الاعتماد على مصدر الشرعية المذكور وبطريقةٍ ثورية، ما يعني تجاوز القواعد المحددة دستورياً والسوابق السياسية.

وسبق لإردوغان التصريح في 17 يونيو بأنّ إمام أوغلو لا يستحق تولّي منصب عمدة البلدية – والأهم منذ ذلك – أنه لن يكون مؤهلاً لتولّي هذا المنصب في حال عدم اعتذاره لمحافظ مقاطعة أردو الواقعة على ساحل البحر الأسود. وأيد وزير الداخلية التركي سليمان صويلو ودولت باهتشلي هذا التوجّه بتعليقاتٍ مماثلة. وعقب الانتخابات، استخدم الحزب الحاكم أدواتٍ متعددة بغرض تحجيم الصلاحيات. وشمل ذلك تشويه سمعة رؤساء البلديات المنتخبين أو تجريمهم، وشلّ الإجراءات القانونية وتعطيلها، وتقييد ولاية رؤساء البلديات ونوابها عادةً بحرمانهم من التمويل المركزي الذي يعتمدون عليه لأداء مهام وظيفتهم. واستهدفت هذه الممارسات البلديات التي فازت بها المعارضة مؤخراً، لا سيّما إسطنبول وأنقرة، والمناطق التي يديرها حزب الشعوب الديمقراطية. وكتب عبد القادر سيلفي، وهو صحفيٌ يحظى بعلاقاتٍ جيّدة مع الدائرة الداخلية لحزب العدالة والتنمية، في 27 يونيو، أي بعد أربعة أيام فقط من الانتخابات، أنه اقترح إردوغان طرد إمام أوغلو عبر الضغط – أو بالأحرى الفرض – لإصدار حكمٍ بالإدانة بتهمة إهانة حاكم أردو وذلك على هامش اجتماع المجلس الإداري المركزي للحزب بعد الانتخابات. وبحسب سيلفي، فإن نائب رئيس الحزب حياتي يازجي اعترض على دعوة إردوغان “الثورية”، مذكراً الرئيس بالحدود “القانونية” لمثل هذا النوع من الأحكام. وأشار الرئيس مؤخراً في 26 يوليو إلى أن أعضاء مجالس المدن سيواصلون خدمة الأمة. وكان باهتشلي أكثر صراحةً عندما أعلن أن العمدة المنتخب غير مناسب للمنصب، وصرّح بعد ثلاثة أيام من الانتخابات قائلاً إن “حاكم إسطنبول ليس مؤهلاً لمنصبه”.

وتكثر الأمثلة التي يمكن ذكرها هنا إلا أن تركلماز وأدار اكتفيا بهذا القدر. ويرى صاحبا المقالة أن النقاش الأهم هنا هو توضيح التناقض الفج: إذ اندفع ممثلون عن أعلى مستويات النخبة الحاكمة – بدءاً بمرشح تحالف الشعب بن علي يلدريم نفسه – في ليلة الانتخابات، حتى قبل انتهاء عملية فرز الأصوات، إلى تقديم بيانات تنازلٍ استعراضية للغاية ومبالغ فيها. وأعلن المتحدثون باسم تحالف الشعب مراراً في الأيام التالية أن هزيمتهم تُعدّ انتصاراً للديمقراطية وتعبّر عن رسوخ صندوق الاقتراع في تركيا.

وهنا يطرح تركلماز وأدار التساؤل التالي: “لماذا تتصرف تلك الشخصيات بهذه الانهزامية، خاصةً وأن مواجهة إردوغان والعدالة والتنمية علناً تُعدّ من المحرمات الكبرى لأي شخص داخل الشبكة الحاكمة في السنوات الأخيرة؟”. وتأتي الإجابة بالتالي: “إن هذه التصريحات لا تعدو عن كونها مؤشراً على تزايد الاهتمام بالحفاظ على ولاء البيروقراطية، ناهيك عن كونها علاماتٍ على الضيق من الانشقاق الحاصل داخل الحزب والرغبة في إبقاء خصوم حزب العدالة والتنمية داخل النخبة الحاكمة”.

ولقد لاحظنا بالفعل بعد محاولة الانقلاب أن مصدر القلق الأبرز عند إردوغان هو السخط الملموس – الصريح والضمني – داخل الحزب وأجهزة الدولة وتحالف الشعب، وهو تهديدٌ أكبر مما تمثله أحزاب المعارضة الرسمية في البلاد. وتحولت الصراعات والخلافات “الداخلية” اعتباراً من 31 مارس إلى تحدٍّ وشيك ازدادت حدّته في أعقاب هزيمة 23 يونيو المهينة. وبالتالي، لم يكن مفاجئاً أن يبدأ إردوغان عقد العديد من اللقاءات مع نواب حزب العدالة والتنمية، كما واصل محاولات إقناعه القياديين الذين يُتوقع انشقاقهم كعلي باباجان لردعهم عن تأسيس أحزابٍ سياسية جديدة. وفي الوقت نفسه، بدأ بالفعل في التضحية “بالرفاق القدامى”، بدايةً بطريقةٍ سرّية داخل دائرته الضيقة ثم بطريقةٍ علنية في الدائرة الأوسع، وتحديداً أولئك الذين “طعنوا الحزب في ظهره” في هزيمة الانتخابات الأخيرة.

ويتمثل المأزق الرئيسي للنخبة الحاكمة في توتّرهم ما بين اعتبار أنفسهم الحرس الثوري وبناة النظام من جهة، والواقع الاجتماعي والسياسي للبلاد وإرثها التاريخي من جهة أخرى. لهذا، فضحت هزيمة 23 يونيو ضعف واستبداد إردوغان. إلا أن هذا الأمر لا ينبغي أن يقودنا إلى افتراض تخلي النظام عن رؤيته لاستحقاقه الثوري، أو أنه ربط أغلال ما يُسمى بـ “النظام الديمقراطي” بـ “الاستقرار والحياة الطبيعية”.

وتجدر هنا الإشارة إلى أن قادة النظام لا يدّعون الاستحقاق الثوري لإسقاط نظامٍ قديم، ولكن لسحق جماعةٍ كانت ذات يوم حليفاً رئيسياً. لن يكون مفاجئاً إذا شهدنا موجة جديدة من استهداف “أعداء النظام” بمجرد أن يشعر أردوغان بالأمان نسبياً فيما يتعلق بجبهته الداخلية، أو إذا ما تحوّل الرفاق القدامى مرّة أخرى إلى أعداء داخليين يُنظر لهم كأهدافٍ رئيسية جديدة في معركة وهمية “من أجل البقاء”. وكان إردوغان قد أعلن بالفعل، بعد نحو أسبوع من الصمت، عن أن “المتورطين في خيانات كهذه [في إشارة إلى تشكيلات حزبية جديدة محتملة وغيرها من الانشقاقات داخل حزب العدالة والتنمية] سيدفعون ثمناً باهظاً” وكان ذلك في 26 يوليو الماضي.

عالم السياسة في مرحلة ما بعد أردوغان

Elections turkey 2019
مجلس مدينة إسطنبول الكبرى المنتخب حديثاً وفي وسطه أكرم إمام أوغلو أثناء عقده لأول اجتماعاته يوم ٨ يوليو ٢٠١٩ في إسطنبول، وذلك بعد فوز الأخير بالانتخابات البلدية يوم ٢٣ يونيو ٢٠١٩. المصدر: Yasin AKGUL / AFP.

يمكن القول بصفةٍ عامة إن رجب طيب إردوغان سيبقى على الأرجح الاسم الأبرز في السياسة التركية في المستقبل المنظور، إلا أن هزيمة 31 مارس شهدت حتماً أفول هالة التقديس لشخصه. وعلى الرغم من احتفاظ إردوغان بصوته الرنّان، إلا أنه بات من الأصوات العديدة التي تفتقر إلى الكفاءة والقدرة على إسكات الآخرين. ولذلك، ستُذكر انتخابات 31 مارس باعتبارها بداية عصر ما بعد إردوغان في السياسة التركية. ولكن هل هذا دليل على نهاية الاستبداد؟ قطعاً لا.

ويقول هنا تركلماز وأدار: “نودّ هنا تذكير القارئ بالخصائص المميزة لاستبداد إردوغان والتي أشرنا لها مسبقاً ألا وهي 1) تشكيل نخبة حاكمة لها منظورٌ ثوري للذات في ظل أيديولوجيا تقدّس الشخص، 2) والصراع الداخلي والخلافات في شبكة الدولة، 3) وبروز نفسية سياسية مصابة بجنون الارتياب. ولا نرى أنّ أيّاً من هذه العناصر قد يتلاشى سوى العنصر الأول منها”.

ويضيف صاحبا المقالة: “بالتالي، يمكن القول إننا نشهد أفقاً سياسياً تركياً تتمزق فيه النخب السياسية المختلفة داخل الكتلة الحاكمة. والأهم هنا تحديداً هو تزايد الانقسامات والشقوق الواضحة داخل حزب العدالة والتنمية. إذ باتت هذه الفصائل الموجودة داخل حزب العدالة والتنمية وخارجه أكثر عرضة حالياً للانشقاق، وهو ما قد يكون نواة لخلق نخبة حاكمة جديدة من رحم تحالف الشعب. ومن المتوقع في ظلّ هذه الظروف أن تحتد الخصومات والنزاعات الداخلية، ناهيك عن نزعة الارتياب السياسي، وتفاقم التحديات المتعددة وتنامي التوقعات بحدوث تحوّل سياسي بنيوي”.

باختصار، فإن تلاشي هيمنة هالة القدسية الإردوغانية بالنظام ونخبه سيدفع باتجاه المزيد من التصدع والاضطراب عوضاً عن التحول بسلاسة إلى “تطبيع” الأمور من جديد. وفي ظل تزامن ذلك مع انهيار آليات إدارة الحكم المنتظمة والروتينية، ونقصد هنا انهيار المؤسساتية، والعقلانية البيروقراطية، وفصل السلطات، والتي يمكن أن تمد النظام بالمرونة الكافية لتجنّب زلازل مدمرة، تبقى البلاد عرضة لسيناريوهات فرعية. وبعبارةٍ أخرى، من المتوقع أن تتقلّص النخبة الحاكمة الحالية إلى تحالفٍ حاكم أو حتى فصيل عبر وسائل سياسية “مثيرة للخلاف”، كأن تكون غير مؤسسية أو دستورية.

ومن المفارقات أن صناعة استبداد إردوغان خلقت فرصة كبيرة لتحرّرٍ جذري في النظام السياسي التركي. فالتخلي عن الانضباط المؤسسي، وزعزعة أركان البيروقراطية، والتخلص من الهيكل “التقليدي” للكادر الحكومي، وإرباك البوصلة الأيديولوجية التي كانت تحدّد طبيعة أجهزة الدولة المستبدة “القديمة” دون استبدالها بأجهزة “جديدة” يمثل لحظة تاريخية لحدوث تحول شامل في تركيا.

ويختم تركلماز وأدار مقالتهما بالتالي: “سيبقى هذا التحول الثوري مجرد فرضية في حال تُرك دون خطواتٍ سياسية جماعية وبرامج واستراتيجيات محدّدة. ونرى أنه من المبالغة توقّع قيام جبهة المعارضة الموحدة التي تمثّل دوائر المعارضة الحالية بمثل هذه المبادرة السياسية الضخمة. ويمكننا الاستشهاد بالعديد من العوامل المتعلقة ببنية تحالف الأمّة والتي من شأنها تعزيز صعوبة تنفيذ هذه المبادرة. لكن الأبرز هو تحالف تجنب المخاطرة الذي يعارض نظام إردوغان. وبعبارةٍ أخرى، يكمن القلق الأكبر في النتائج غير المتوقعة وغير المرغوبة في حال فشل المعارضة، خاصةً وأن هذا التحالف الحذر يواجه عدداً من القوى الفاعلة على المستويين المحلي والدولي، لا سيّما وأن هذه القوى راضيةٌ بـ ” التطبيع” داخل النظام الحالي”.

“الآراء الواردة في هذه المقالة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر فنك”.