أصبحت مقولة ” Her sey cok guzel olacak،” أي سيكون كل شيءٍ على ما يرام، الشعار بعيد الإحتمال لواحدٍ من أكبر الاضطربات في عالم السياسة التركية مؤخراً. فعلى الرغم من دعم معظم وسائل الإعلام في البلاد، شبه المملوكة للدولة بالكامل أو المتحالفة معها، ومع وجود مرشحٍ مألوف (رئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم)، إلا أن حزب العدالة والتنمية الحاكم فشل في التغلب على أكرم إمام أوغلو من حزب الشعب الجمهوري لمقعد عمدة اسطنبول. وأيضاً، وعلى الرغم من فوز إمام أوغلو في انتخابات 13 مارس 2019 بفارقٍ ضئيل، إلا أن النصر كان بمثابة تسونامي سياسي، إذ قلب الأمور رأساً على عقب بعد ما يقرب من عقدين من الهيمنة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية في تركيا.
ألغت اللجنة العليا للانتخابات انتصار إمام أوغلو، بعد ضغطٍ من حزب العدالة والتنمية، ودعت إلى إجراء إعادةٍ للانتخابات في 23 يونيو، بعد حوالي ثلاثة أشهرٍ من التصويت الأول. دفعت الشكوك بأن التأخير كان محاولة لإعاقة إقبال الناخبين من حزب الشعب الجمهوري – حيث يغادر الكثير المدينة إلى الساحل خلال أشهر الصيف الحارة – المجالس المتحالفة مع حزب الشعب الجمهوري في العديد من المنتجعات الشاطئية الشعبية إلى نشر تحذيراتٍ ساخرة حول الطقس باحتمال حدوث العواصف وارتفاع مستويات الرطوبة إلى حدٍ لم يُسمع به من قبل، بل وصل الأمر إلى حد التحذير من تساقط الثلوج يوم الانتخابات. تشير هذه الحملة التي انتشرت كالنار في الهشيم، بما تحمله في طياتها من مرح، إلى مخاوف مشتركة من أن حزب العدالة والتنمية لن يتوانى عن فعل ما يتطلبه الأمر لضمان النصر في فترة إعادة الإنتخابات وأن كل صوتٍ له قيمته.
قتالٌ حتى الموت السياسي
تشير استطلاعات الرأي إلى أن إمام أوغلو يتفوق بفارقٍ ضئيل على يلدريم (تم إجراء الاستطلاع من قبل حزب العدالة والتنمية)، إلا أن أياً من الطرفين تخلى عن حملته الانتخابية.
فقد صاغ الرئيس رجب طيب أردوغان بشكلٍ مستمر فترة إعادة الإنتخابات في إطار “انتصار الديمقراطية” وباعتبارها صوتاً “ضد الفساد المنظم،” على الرغم من الإدانة الواسعة لإعادة إجراء انتخاباتٍ لمقعدٍ خسره حزبه بينما يُصادق على مقاعد مماثلة فاز بها حزبه. فقد ركز اتهام حزب العدالة والتنمية بالفساد على وجود موظفين غير مدنيين بين موظفي مراكز الاقتراع، وهو ما أيدته اللجنة العليا للانتخابات. ومع ذلك، فمن المربك أن السلطة نفسها التي حكمت بالاحتفاظ بنفس المجالس الانتخابية، تُضاعف في الحقيقة شروط التصويت الأول.
حمل أردوغان لقب عمدة إسطنبول في التسعينيات، إلا أن المدينة لها قيمة عاطفية أكثر من ذلك؛ فهي جائزةُ قيّمة. فمن خلال الميزانية الضخمة التي تبلغ حوالي 9,5 مليار دولار والتي يمكن توجيهها نحو هذا النوع من مشاريع البنية التحتية الضخمة التي استخدمها حزب العدالة والتنمية لدعم الاقتصاد التركي والدعم العام، ستكون خسارة المدينة ملموسة للغاية في الدوائر السياسية في أنقرة. فخلال فترة توليه منصب رئيس بلدية إسطنبول لمدة 19 يوماً، قال إمامو غلو إنه اكتشف بالفعل مجموعة كبيرة من الإنفاق المهدر، ومستويات الديون المذهلة والنفقات التي تهيمن عليها العقود المربحة للشركات الخاصة.
واصل معركته السياسية بالطريقة التي بدأ بها، مستخدماً استراتيجية متفائلة وإيجابية وصفتها حملته بأنها “حب متطرف.” وباستخدام أسلوب “اللامبالاة بأحد” غير المعروف إلى حدٍ كبير في تركيا، شارك كل شيء مع أنصاره بدءاً من تجوله الأسبوعي في الأسواق إلى المسيرات الليلية الانتخابية (عندما أوقفت وسائل الإعلام الحكومية التغطية بشكل غريب). وفي ليلة الانتخابات وحدها، استقطب مئات الآلاف من المتابعين الجدد على وسائل التواصل الاجتماعي، وتمت مشاهدة بثه المباشر ملايين المرات. كما اعتمد بالمثل على وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل مع جمهوره في الأسابيع التي تلت إلغاء التصويت. ووفاءً بوعده بمزيدٍ من الشفافية، قام ببث اجتماعاته في البلدية على الإنترنت.
إلا أن الأمر لم يقتصر على استخدام التكنولوجيا لصالحه، فقد شوهد مراراً وتكراراً في المساجد خلال شهر رمضان المبارك – وهو تكتيك غير اعتيادي بالنسبة لقادة حزب الشعب الجمهوري ولكنه يحمل أهميةً إضافية لإمام أوغلو وصورته السياسية. جعل إمام أوغلو، الذي يُترجم اسمه حرفيا إلى “ابن الإمام،” جذور تركيا الدينية جزءاً لا يتجزأ من صورته، مؤكداً، مراراً وتكراراً، على ارتياحه لتدينه اليومي (سمة غير شائعة لمعظم قادة حزب الشعب الجمهوري)، إذ عرض مقاربة مألوفة للإسلام داخل الحياة التركية. يبدو أن هذا النهج كان حاسماً في نجاحه الانتخابي، حيث تفوق على العديد من ناخبي حزب العدالة والتنمية الذين يفخرون بتعلقهم بتفسيرهم للفضيلة الدينية والإسلام بشكلٍ عام.
معركة الشخصيات
تمثل واحدٌ من أكثر جوانب إعادة الإنتخابات إثارةً في ظهور أردوغان في حملة يلدريم. وعلى الرغم من أن الرئيس كان دوماً من أشد المؤيديين لرئيس وزرائه السابق (مع ظهور وجهه حتى في ملصقات “شكراً لك” التي وضعها المسؤولون في إسطنبول بعد التصويت الأول)، إلا أنه كان حريصاً على ضمان معرفة المدينة أنه خصم إمام أوغلو الحقيقي. فقد تصّدر معظم مسيرات حزب العدالة والتنمية وقاد المعركة الخطابية أيضاً.
في الأسابيع الأخيرة، وصلت هذه الأزمة السياسية إلى مستويات هزلية إلى حدٍ ما، إذ أنه ورداً على امرأة تهتف بتعهد إمام أوغلو بأن “كل شيء سيكون على ما يرام” أمام أردوغان خلال إحدى المناسبات العامة على خط الترام في إسطنبول، صرخ رداً عليها “سيكون كل شيء أفضل.” لربما كان ذلك رد فعلٍ ضعيف، إلا أن أنصاره نقوله إلى وسائل التواصل الاجتماعي في محاولةٍ لاستعادة المبادرة عبر الإنترنت (والمبادرة الانتخابية). بيد أنهم لم يحققوا نجاحاً كبيراً، وهذه المبارزة بالشعار ما هي إلا رمزٌ لمعركةٍ سياسية أوسع نطاقاً. فقد ظل حزب العدالة والتنمية في وضع الدفاع منذ بداية إعادة الإنتخابات، إذ يكافح للتنافس مع الطاقة والتفاؤل واللمسات الشخصية لحملة إمام أوغلو، وبدلاً من ذلك يستعرض بنفس الشخصيات والوعود المنهكة، التي يبدو أن الكثير منها لم يعوّل عليها الناخبون في أعقاب الصراعات الاقتصادية في حقبة ما بعد عام 2016.
قد يكون التصويت الكردي هو العامل الحاسم في إعادة الإنتخابات، إذ شكل الأكراد غالبية غير الناخبين في الانتخابات الأولى، حيث عمد أردوغان إلى مغازلتهم ومهاجمتهم على حد سواء في الماضي في محاولةٍ للحفاظ على السلطة. ربما ليسوا من المؤيدين الصريحيين لمؤسسة حزب العدالة والتنمية التي أسسها أردوغان اليوم، خاصة بالنظر إلى وجود حزب (مقموعٍ بشدة) مؤيدٍ للأكراد وتحالف أردوغان مع حزب الحركة القومية. ولطالما دافعت الحكومات التركية عن المواقف المتشددة تجاه الأمن من خلال القمع في جنوب شرق البلاد الذي تقطنه غالبية كردية، حيث يشن مسلحون أكراد تمرداً طويلاً. كان أردوغان أكثر ذكاءً، فقد استغل الوضع الأمني ليروّع ويكسب الناخبين الأكراد، فضلاً عن كون موقف حزب العدالة والتنمية الاجتماعي المحافظ لا يجذب الكثير من الأكراد المحافظين. في الواقع، يبدو أن الحكومة تقدم بالفعل عروضاً لمجموعاتٍ كردية معينة. ومع ذلك، فإن مثل هذا النهج لن ينجح إلا إذا استطاع حزب العدالة والتنمية أن يصور إمام أوغلو على أنه ليبرالي لا يتسم بالاحترام أو بكونه شخصاً خطيراً. لكن يبدو أنه تركهم غير قادرين على إثبات أي من ذلك.
مشهدٌ سياسي جديد؟
منذ التصويت الأخير، شهد المشهد السياسي تحولاتٍ أيضاً. فقد استأنف الحزب الجيد، وهو معارضٌ قوي لحزب العدالة والتنمية، إلغاء الانتخابات، الأمر الذي تم رفضه، كما خرج حزب العدالة الإسلامي الصغير دعماً لإمام أوغلو. علاوةً على ذلك، انتقد أحمد داود أوغلو، رئيس وزراء أردوغان السابق، حزب العدالة والتنمية بشدة، وسط شائعاتٍ بتشكيله حزب جديد. كما أن هناك توقعات منذ فترةٍ طويلة بقيام رئيس حزب العدالة والتنمية السابق عبد الله غول بفعل نفس الشيء. وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن تؤثر هذه التحولات على إعادة الإنتخابات، إلا أن تشتت دعم حزب العدالة والتنمية قد يشير إلى ملل البلاد من حكم أردوغان.
إذا ما دار نفس الجدل خلال إعادة الإنتخابات تماماً كما حصل في المرة الأولى، فمن المحتمل أن يكون هذا المسمار الأخير في نعش الديمقراطية التركية. وعلى النقيض من ذلك، إذا ما فاز إمام أوغلو مجدداً، ولم يطرأ أي جدلٍ حول عمليه الإقتراع، سيبشر ذلك بميزان قوى جديد ولربما ستشهد السياسة التركية حقبةً جديدة.