وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الحروف الثلاثة الغائبة لفك شيفرة الأزمة الأمريكية – الإيرانية

Translation- Gulf of Oman
صورة حصلت عليها فرانس برس من وكالة الأنباء الإيرانية “إنسا” يوم ١٣ يونيو ٢٠١٩ ويظهر فيها تصاعد الدخان والنار من نقالة بحرية نرويجية تابعة لشركة “فرونت ألتير” قيل إنه تمت مهاجمتها في مياه خليج عمان. المصدر: AFP/ISNA.

نشر موقع “Open democracy” مقالةً سلطت الضوء على حالة التوتر الراهنة التي تعيشها منطقة الخليج على وقع تصاعد حدّة الخلافات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. ويحاول صاحب المقالة مايكل كلير، أستاذ دراسات السلام والأمن العالمي في كلية هامشاير الأمريكية، توضيح أسباب اهتمام واشنطن بتأمين حركة الملاحة وتدفق النفط رغم تغطية هذه الأخيرة لمعظم احتياجاتها من النفط محلياً. ويستعرض كلير تاريخ تدخل واشنطن في الشرق الأوسط وما لعبه هذا الأمر من دور في تشكيل المبادئ والتوجهات التي تتحكم بالسياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة.

ويبدأ كلير مقالته بالتأكيد على الدور الحيوي الذي يلعبه النفط على الدوام فيما يدور في المنطقة من أحداث. ففي الوقت الذي كان يستمتع فيه الرئيس دونالد ترامب بحديثه مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على هامش قمة العشرين في اليابان، ليتجاهل باجتماعه هذا تقرير الأمم المتحدة الصادر مؤخراً عن تورط بن سلمان في مقتل الصحفي جمال خاشقجي، فقد كان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في آسيا والشرق الأوسط يطلب من القادة الأجانب دعم “عملية الحارس”.

وتهدف خطة الإدارة الأمريكية إلى حماية حركة السفن في مضيق هرمز/باب السلام ومنطقة الخليج العربي/الفارسي. ويصر كلٌّ من ترامب وبومبيو على أن ما يقومان ببذله من جهود نابعٌ عن القلق من سوء سلوك إيران في المنطقة، والحاجة إلى تأمين التجارة البحرية.

إلا أن هذين المسؤولين الأمريكيين لم يأتيا على ذكر كلمة “نفط” المكونة من ثلاثة أحرف والتي تقف وراء مناورتهما الإيرانية الأخيرة (وهي للعلم الكلمة التي تقف بصوةٍ اعتيادية وراء كافة التدخلات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية).

ويصح القول إن الولايات المتحدة لم تعد تعتمد الآن على النفط المستورد لتغطية حصةٍ كبيرة من احتياجاتها للطاقة. ويعود الفضل في هذا الجانب إلى الثورة المذهلة التي أتاحت لهذه الدولة توفير حوالي ٧٥٪ من احتياجاتها من مصادر محلية، علماً بأن هذه النسبة كانت أقرب إلى ٣٥٪ في عام ٢٠٠٨. إلا أن الحلفاء الرئيسيين في الناتو ومنافسين من وزن الصين ما زالوا يعتمدون على نفط الشرق الأوسط لتغطية نسبةٍ كبيرة من احتياجات الطاقة الخاصة بهم. وبطبيعة الحال، فإن الاقتصاد العالمي – الذي تُعدّ الولايات المتحدة المستفيد الرئيسي منه رغم الحروب التجارية المدمرة التي يقوم الرئيس ترامب بإشعالها – يعتمد على التدفق المستمر للنفط من منطقة الخليج، وبما يكفل الإبقاء على انخفاض أسعار الطاقة. ومع مواصلة لعب الولايات المتحدة لدور الرقيب الأساسي على تدفق النفط، فإن واشنطن تتمتع بمزايا جيوسياسية مذهلة تدفع نخبها العاملة على مستوى السياسة الخارجية للاهتمام بهذا الجانب بصورةٍ مماثلة لما يتم ابداؤه من اهتمام على مستوى تفوق بلادهم النووي.

وسبق الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما التعبير عن هذا المنطق بوضوح في الكلمة التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2013، إذ قال: “إن الولايات المتحدة على استعداد لاستخدام كل ما تملكه من عناصر القوة، بما في ذلك قوتها العسكرية، لتأمين مصالحها الرئيسية” في الشرق الأوسط. وأشار حينها إلى أنه في الوقت الذي تعمل فيه الولايات المتحدة على تقليص اعتمادها على النفط المستود بصورةٍ تدريجية، فإن العالم “ما يزال يعتمد على إمدادات الطاقة من المنطقة التي قد يؤدي اضطرابها إلى زعزعة الاقتصاد العالمي بأسره”. وختم أوباما حديثه بتأكيد أن بلاده “ستعمل على تأمين التدفق الحر للطاقة من المنطقة إلى العالم”.

ويرى بعض الأمريكيين أن الزمن عفا على هذا التوجه الذي تتبعه الإدارات المتعاقبة – بما في ذلك ترامب ووزير خارجيته بومبيو. وسبق لواشنطن خوض الحروب في الشرق الأوسط عندما كان الاقتصاد الأمريكي ما يزال معرّضاً للخطر إذا ما انقطع تدفق النفط المستورد عنها. ففي عام 1990، كان هذا الخطر السبب الأساسي لقرار الرئيس جورج بوش الأب بالتدخل لطرد القوات العراقية من الكويت في أعقاب غزو صدام حسين لها. حينذاك، تحدّث جورج بوش الأب للأمريكيين عبر التلفاز قائلاً: “تستورد بلادنا الآن حوالي نصف ما تستهلكه من نفط، وقد تواجه تهديداً كبيراً لاستقلالها الاقتصادي”. إلا أن الحديث عن النفط سرعان ما اختفى من تعليقاته على ما أصبح أول حروب واشنطن الخليجية (والتي لم تكن الأخيرة) وذلك في أعقاب إثارة هذا البيان لغضبٍ شعبي كبير كان شعاره الأبرز “لا دماء من أجل النفط”. أما ابنه الرئيس جورج دبليو بوش، فلم يأت على ذكر هذه الكلمة المؤلفة من ثلاثة حروف لدى إعلانه عن غزوه العراق عام 2003. إلا أن النفط، كما اتضح من خطاب أوباما في الأمم المتحدة، بقي وما يزال يبقى في قلب سياسة الولايات المتحدة الخارجية. وقد تساعدنا مراجعة سريعة لحركة الطاقة العالمية في توضيح سبب استمرار هذا النهج.

اعتماد العالم غير المنقوص على النفط

Translation- George Bush
الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب متحدثاً للصحافة يوم ١٨ يناير ١٩٩٣، وذلك بعد وصوله إلى البيت الأبيض في واشنطن دي سي من منتجع كامب ديفيد في ماريلاند. وكان الرئيس الأسبق قد دافع يوم ١٨ عن هجمات الحلفاء الجوية على العراق آملاً في أن تكون الرسالة قد وصلت بكل وضوح إلى الرئيس العراقي حينها صدام حسين. المصدر: AFP / Jennifer Law.

على الرغم مما قيل عن تغيّر المناخ ودور النفط في إحداثه، وبصرف النظر عمّا تم إحرازه من تقدّمٍ هائل في مجال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، فإننا ما نزال نعيش في عالمٍ يعتمد بشكلٍ كبير على النفط. وكل ما عليك القيام به لإدراك هذه الحقيقة هو قراءة التقرير الإحصائي الأخير الذي أصدرته شركة “بريتيش بتروليوم” العملاقة عن الطاقة العالمية في يونيو الماضي. وبحسب التقرير، فقد حظي النفط بحصّة الأسد من الاستهلاك العالمي للطاقة في عام 2018 وبصورةٍ تتوافق مع ما كان عليه الحال في كل عام من العقود السابقة. وشهد العام الماضي حصول النفط على نسبة ٣٣.٦٪ من استهلاك الطاقة العالمي، مقارنةً مع ٢٧.٢٪ للفحم (وهو ما يعتبر بحدّ ذاته فضيحة عالمية)، و٢٣.٩٪ للغاز الطبيعي، و٦.٨٪ للطاقة الكهرمائية، و٤.٤٪ للطاقة النووية، وما لا يزيد عن ٤٪ لمصادر الطاقة المتجددة.

ويعتقد معظم محللي الطاقة أن الاعتماد العالمي على النفط في استخدام الطاقة العالمي سينخفض في العقود القادمة بسبب فرض الحكومات لقيودٍ أكثر على انبعاثات الكربون، ولأن المستهلكين بشكلٍ خاص في العالم المتقدم ينتقلون من استعمال السيارات التي تعمل بالوقود إلى السيارات الكهربائية. إلا أنه من المستبعد انتشار هذا النوع من الانخفاضات في جميع مناطق العالم، كما قد لا ينخفض إجمالي استهلاك النفط. وبحسب توقعات الوكالة الدولية للطاقة الواردة في تقريرها “سيناريو السياسات الجديدة” (الذي يفترض بذل الحكومات لجهود كبيرة ولكنها غير جذرية للحد من انبعاثات الكربون على مستوى العالم)، فإن آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط قد تشهد خلال السنوات المقبلة تزايداً كبيراً في الطلب على النفط، ما يعني بكل أسف أن الاستهلاك العالمي للنفط سيستمر في الارتفاع.

وخلص التقرير إلى أن الطلب المتزايد على النفط في آسيا تحديداً سيفوق معدلات انخفاض الطلب في المناطق الأخرى. وذكرت الوكالة في تقريرها عن “مستقبل الطاقة العالمية لعام ٢٠١٧” أن النفط سيظل مصدر الطاقة الرئيسي في العالم في عام 2040، حيث سيحظى بحوالي 27.5% من إجمالي الاستهلاك العالمي للطاقة.

وقد تكون هذه النسبة أقلّ مما عليه الحال في عام ٢٠١٨، إلا أن صافي إنتاج النفط فقد يبقى في ازدياد ليرتفع من 100 مليون برميل يومياً في عام 2018 إلى حوالي 105 ملايين برميل في 2040، ما يعود السبب فيه إلى توقع نمو الاستهلاك العالمي للطاقة بشكلٍ كبير في هذين العقدين المقبلين.

وبطبيعة الحال، ليس بوسع أحد بما في ذلك خبراء الوكالة الدولية للطاقة توقع أثر التجليات الأخطر للاحتباس الحراري مستقبلاً – مثل موجات الحر الشديدة التي تضرب أوروبا وجنوب آسيا – على توقعات استهلاك وإنتاج الطاقة. وقد يؤدي الغضب الشعبي المتزايد إلى فرض قيود أكثر صرامة على انبعاثات الكربون من اليوم وحتى عام 2040. وقد تؤدي التطورات غير المتوقعة في مجال إنتاج الطاقة البديلة دوراً في تغيير تلك التوقعات. وبكلماتٍ أخرى، ما يزال من الممكن كبح هيمنة النفط المستمرة بطرقٍ لا يمكن التنبؤ بها الآن.

ويشهد العالم في الوقت الراهن منعطفاً جوهرياً من الناحية الجيوسياسية على مستوى الطلب العالمي على النفط. وبحسب الوكالة الدولية للطاقة، فإن الدول الصناعية القديمة – ومعظمها أعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية – كانت تحظى بحوالي ثلثي الاستهلاك العالمي للنفط في عام ٢٠٠٠، في حين لم يزد استهلاك دول العالم النامي عن الثلث حينذاك. ويعتقد خبراء الوكالة أن هذه النسبة ستنعكس بحلول عام 2040، حيث ستستهلك الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الثلث، في حين ستغطي الدول غير الأعضاء في المنظمة سابقة الذكر باقي استهلاك النفط. إلا أن الأهم هو تزايد مركزية منطقة آسيا والمحيط الهادئ في التدفق العالمي للنفط. ولم تحظى تلك المنطقة في عام 2000 سوى بـ 28% من الاستهلاك العالمي، علماً بأنه من المتوقع وصول حصة هذه المنطقة إلى ٤٤٪ في عام 2040، ما يعزى السبب فيه إلى نمو الصين والهند وغيرها من الدول الآسيوية. وتجدر الإشارة إلى أن شراء المستهلكين الأثرياء الجدد في تلك الدول للسيارات والشاحنات والدراجات النارية وغيرها من المنتجات التي تعمل بالنفط.

وهنا يتساءل كلير عن المصدر الذي ستحصل منه آسيا على هذا النفط، خاصةً في ظل الشك الذي يعتري بعض الخبراء في هذا الصدد. ويجيب صاحب المقالة على هذا التساؤل بأن قلة احتياطيات النفط لدى المستهلكين الآسيويين الرئيسيين ستقودهم في نهاية المطاف إلى منطقةٍ واحدة تتحلى بالقدرة على تلبية احتياجاتهم المتزايدة ألا وهي منطقة الخليج. ووفقاً لإحصائية أجرتها شركة “بريتيش بتروليوم” في عام 2018، فإن اليابان حصلت على 87% من وارداتها النفطية من الشرق الأوسط، مقارنةً مع ٦٤٪ للهند، و44% للصين. ويفترض معظم المحللين أن هذه النسب ستنمو لا محالة في السنوات القادمة عندما ينخفض الإنتاج في مناطق أخرى.

وسيضفي هذا الأمر بدوره أهمية استراتيجية أكبر على منطقة الخليج التي تمتلك الآن ما يزيد عن 60% من احتياطيات النفط غير المستغلة في العالم، وهو ما ينطبق أيضاً على مضيق هرمز، وهو الممر الضيق الذي يمر عبره ما يقرب من ثلث نفط العالم المنقول بحرياً يومياً. ويُعدّ المضيق الذي تحده إيران وعمان والإمارات أهم المواقع الجغرافية استراتيجياً – وأكثرها إثارة للنزاعات – على الكوكب في يومنا هذا.

التحكم في الأنبوب

Translation- Jimmy Carter
الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر أثناء توقيعه على قرار حجز الأموال الإيرانية في البنوك الأمريكية يوم ١٤ نوفمبر ١٩٧٩ في واشنطن دي سي. المصدر: AFP / Consolidated News Pictures.

عندما غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان في عام 1979، وهو العام نفسه الذي أسقطت فيه جماعة شيعية أصولية شاه إيران حليف الولايات المتحدة، أدرك صناع السياسة الأمريكية أن وصول بلادهم لنفط الخليج بات عرضةً للخطر، وأن على واشنطن التواجد عسكرياً في المنطقة لتأمين الوصول إلى النفط. وقال الرئيس جيمي كارتر في خطاب حالة الاتحاد في 23 يناير 1980: “تحظى المنطقة التي تقع حالياً تحت تهديد القوات السوفيتية في أفغانستان بأهميةٍ استراتيجية كبيرة، فهي تحتوي على ما يزيد عن ثلثي النفط القابل للتصدير في العالم. وسمحت الجهود السوفييتية للهيمنة على أفغانستان بوجود القوات العسكرية السوفيتية على بعد 300 ميلاً من المحيط الهندي وبالقرب من مضيق هرمز، وهو الممر المائي الذي يتدفق عبره معظم نفط العالم… وحتى يكون موقفنا في غاية الوضوح؛ فإنه سيتم التعامل مع أي محاولة تقوم بها أي جهة أجنبية للسيطرة على منطقة الخليج وكأنها استهدافٌ لمصالح الولايات المتحدة الحيوية، وسوف نرد على هذا الاستهداف بكل الطرق اللازمة بما في ذلك القوة العسكرية”.

ولكي يتحقق على أرض الواقع ما سُمي لاحقاً “مبدأ كارتر”، فقد قام الرئيس بإنشاء منظمة عسكرية أمريكية جديدة تحت اسم فرقة العمل المشتركة للنشر السريع (RDJTF)، علماً بأن هذه القوة حصلت على مرافق لها في منطقة الخليج. من جانبه، قام الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، الذي خلف كارتر في عام 1981، بتحويل هذه المنظمة إلى “قيادة قتالية جغرافية” شاملة تحت اسم القيادة المركزية، علماً بأن مهمة هذه القيادة تتمثل حتى يومنا هذا في تأمين الوصول الأمريكي إلى الخليج (بالإضافة إلى الإشراف على حروب البلاد التي لا تنتهي في الشرق الأوسط الكبير). وكان ريغان أول رئيس يُفعّل مبدأ كارتر في عام 1987 عندما أمر سفناً حربية تابعة للبحرية بمرافقة ناقلات نفط كويتية، حيث اتفق الطرفان على رفع السفن للعلم الأمريكي أثناء عبورها لمضيق هرمز. وكانت هذه السفن تتعرض من حين لآخر لهجمات الزوارق الحربية الإيرانية ضمن ما يُعرف باسم “حرب الناقلات” على خلفية الحرب الإيرانية – العراقية الدائرة في تلك السنوات. وتمثل الهدف من الهجمات الإيرانية على تلك الناقلات في معاقبة الدول العربية السنية لدعمها المستبد العراقي صدام حسين في صراعه مع الجمهورية الإسلامية. وجاء الرد الأمريكي، الذي أطلق عليه اسم “عملية الإرادة القوية”، كنموذجٍ مبكّر لما يسعى وزير الخارجية الأمريكي الحالي بومبيو إلى تنفيذه الآن من خلال برنامج “الحارس”.

وبعد عامين، حدث تطبيق كبير لمبدأ كارتر، وذلك حين قرر الرئيس بوش في عام 1990 طرد القوات العراقية من الكويت. ورغم أنه تحدث بالفعل عن الحاجة إلى تأمين وصول الولايات المتحدة إلى حقول النفط في الخليج، فقد كان واضحاً للغاية أن ذلك الهدف ليس الدافع الوحيد لهذا التحرك العسكري. ففي تلك الحقبة، كان امتياز تحكم واشنطن بأكبر إمداد للنفط في العالم على القدر نفسه من الأهمية (وهو ما بات أكثر أهمية في الوقت الراهن).

ويصرّ الرؤساء الأمريكيون، لدى توجيه الأوامر للقوات الأمريكية بالقتال في منطقة الخليج، على أنهم يعملون لصالح الغرب أجمع. وعلى سبيل المثال، دافع وزير الدفاع كاسبر واينبرغر عن مهمة “مرافقة السفن الكويتية” في عام 1987، ضمن ما سماه لاحقاً في مذكراته (الحرب من أجل السلام)، قائلاً: “كان هدفنا الرئيسي حماية حق الأبرياء، وسير حركة التجارة الهامة للغاية بحرّية في المياه الدولية، بالإضافة إلى تجنب التنازل عن المهمة للاتحاد السوفيتي”. ورغم ندرة اعتراف واشنطن علناً بذلك، فإن المبدأ ذاته هو جوهر استراتيجيتها في المنطقة منذ زمن بعيد وهو: بقاء الولايات المتحدة الضامن الوحيد لحركة تجارة النفط في منطقة الخليج دون عوائق.

وبحسب كلير، فإننا إذا أمعنّا النظر فسنجد المبدأ نفسه كامناً في كلّ بيان رئيسي يصدر عن سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، وفي ثنايا حديث نخبة واشنطن عموماً. ويضيف صاحب المقالة أنه إذا أراد وضع اختصار بليغ لهذا التوجه، فإنه لن يجد أدق من جملةٍ ذُكرت في تقرير صدر في عام ٢٠٠٠ عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مؤسسة بحثية بواشنطن تزخر بمسؤولين حكوميين سابقين ساهم العديد منهم في كتابة هذا التقرير المتعلق بجيوسياسية الطاقة. وتتمثل هذه الجملة بالتالي: “باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم، فإنه ينبغي على الولايات المتحدة تحمّل مسؤوليتها الاستثنائية في الحفاظ على توفير إمدادات الطاقة عالمياً”. ويرى كلير أن هذه العبارة هي أوضح ما يمكن العثور عليه في هذا المجال.

وتأتي بالطبع هذه “المسؤولية الاستثنائية” بامتيازاتٍ جيوسياسية، فمن خلال تقديم هذه الخدمة تقوم الولايات المتحدة بترسيخ دورها باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم، ناهيك عن وضع جميع الدول المستوردة للنفط، والعالم بأسره في وضع الاعتماد على أدائها المستمر لهذه الوظيفة الحيوية.

وكانت أوروبا واليابان بصفةٍ أساسية الدولتين اللتين اعتمدتا بشكلٍ كبير على هذه المعادلة الاستراتيجية، إذ كان يتوقع منهما الخضوع لواشنطن مقابل ضمان الوصول إلى نفط الشرق الأوسط. وهنا لا بد من العودة مثلاً إلى مساهمة هاتين الدولتين المالية في حرب بوش الأب في العراق (والتي يُطلق عليها اسم عملية عاصفة الصحراء). إلا أن العديد من تلك البلدان التي تشعر بقلقٍ عميق إزاء تغير المناخ تسعى اليوم إلى الحد من دور النفط محلياً. ونتيجةً لذلك، باتت الصين والهند من بين الدول التي من المرجح وقوعها تحت رحمة واشنطن فيما يتعلق بتأمين الوصول إلى نفط الخليج، علماً بأن كلا البلدين يشهد نمواً اقتصادياً سريعاً، ما سيزيد من احتياجاتهما النفطية. وهذا بدوره سيزيد من أهمية الميزة الجيوسياسية التي تتمتع بها واشنطن ما بقيت هي الحارس الرئيسي لتدفق النفط من منطقة الخليج. وتبقى طريقة استغلال الولايات المتحدة لهذه الميزة واضحة للعيان، إلا أن جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الصينيين، على درايةٍ كافية بهذه المعادلة المختلة، والتي يمكن أن تضفي على عبارة “الحرب التجارية” معنى أعمق بكثير، وتنذر بشؤم أكبر.

التحدي الإيراني وشبح الحرب

Translation- Trump
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أثناء عرضه لقرارٍ تنفيذي حول العقوبات بحق القائد الأعلى للثورة في إيران وذلك من المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض يوم ٢٤ يونيو ٢٠١٩. المصدر: AFP / Mandel Ngan.

من وجهة النظر الأمريكية، تعتبر إيران المبارز الأساسي لمصالح الولايات المتحدة في منطقة الخليج. ويمتلك هذا البلد بسبب الجغرافيا اليد العليا على منطقة شمال الخليج ومضيق هرمز، وهو ما أدركته إدارة ريغان بين عامي ١٩٨٧ و١٩٨٨ حينما هددت هيمنة الولايات المتحدة على النفط هناك. وأوضح الرئيس ريغان هذه الحقيقة تمام الوضوح عندما صرّح في عام 1987 بموقف واشنطن من هذه المسألة الذي لم يتغير منذ ذلك الحين، حيث قال: “تذكروا هذه الكلمات: لن نسمح للإيرانيين بالتحكم في ممرات منطقة الخليج”.

ورداً على التهديدات الأمريكية والإسرائيلية بقصف منشآتها النووية أو بفرض عقوباتٍ اقتصادية عليها كما فعلت إدارة ترامب، فقد هدد الإيرانيون مؤخراً في مناسبات عديدة بإيقاف حركة النفط في مضيق هرمز، ناهيك عن تعطيل إمدادات الطاقة العالمية، والتسبب في أزمة دولية. وحذّر نائب الرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي على سبيل المثال في عام 2011 من أنه إذا فرض الغرب عقوبات على نفط بلادهم، فإنهم لن يسمحوا “بعبور قطرة نفطٍ واحدة عبر مضيق هرمز”. في المقابل، تعهد المسؤولون الأمريكيون بعدم السماح بوقوع مثل هذا الأمر. وعبّر عن ذلك وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا في معرض ردّه على رحيمي في ذلك الوقت، إذ قال: “لقد أوضحنا موقفنا تماماً، إذ لن تتسامح الولايات المتحدة مع إغلاق مضيق هرمز. إنه خط أحمر”.

وما يزال هذا الأمر خطاً أحمر حتى يومنا هذا. ولذا السبب، فإننا نشهد الأزمة الدائرة حالياً في منطقة الخليج، وناهيك عما تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بفرضه من عقوبات على صادرات النفط الإيراني، وتهديدات إيران لحركة النفط في المنطقة رداً على ذلك. وقال محمد علي الجعفري، قائد قوات الحرس الثوري الإيراني، في يوليو 2018: “سنجعل العدو يفهم أنه إما أن يستخدم الجميع مضيق هرمز، وإما لن يستخدمه أحد”. وقد تكون الهجمات على ناقلتي نفط في خليج عمان بالقرب من مدخل مضيق هرمز يوم 13 يونيو تعبيراً عن هذه السياسة، وذلك في حال صحة ادعاءات الولايات المتحدة بشأن تبعية المنفذين للحرس الثوري. ويمكن أن تؤدي أي هجماتٍ مستقبلية إلى استدعاء عمل عسكري أمريكي ضد إيران وفقاً لمقتضيات مبدأ كارتر. وقال المتحدث الرسمي باسم القيادة المركزية الأمريكية بيل أوربان رداً على الجعفري: “نحن على استعداد لضمان حرية الملاحة والتدفق الحر للتجارة وفق ما يسمح به القانون الدولي”.

وبحسب المشهد الحالي، فإن أي تحرك إيراني في مضيق هرمز قد يمثّل تهديداً “لحرية حركة التجارة” أي حركة النفط، ما يعني على الأرجح استدعاء عمل عسكري أمريكي. صحيحٌ أن الولايات المتحدة ستستشهد بسعي طهران للحصول على الأسلحة النووية وبدعمها للحركات الشيعية المتطرفة في جميع أنحاء الشرق الأوسط كدليلٍ على عداء قيادتها، إلا أن زعزعة الهيمنة الأمريكية على إمدادات النفط هو التهديد الإيراني الحقيقي، وهو في نظر واشنطن الخطر الأكبر الذي يجب مواجهته مهما كانت التكلفة.

ويختم كلير مقالته بالتالي: ” إذا ما وقعت الحرب بين الولايات المتحدة وإيران، فإن كلمة نفط لن تمر على لسان كبار المسؤولين في إدارة ترامب، لكن هذا الأمر لا ينبغي أن يخدعنا؛ فهذه الحروف الثلاثة هي أصل الأزمة الحالية، ناهيك دورها في مستقبل العالم على المدى البعيد”.