وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

قمع الاحتجاجات العراقية يكشف زيف الديمقراطية

Iraqi protests
متظاهرون عراقيون يحملون يوم ٢٧ نوفمبر ٢٠١٩ نشع متظاهرٍ قُتل في إحدى الاحتجاجات التي تم تنظيمها في اليوم السابق لمناهضة للحكومة في مدينة كربلاء. وقام المتظاهرون العراقيون المناهضون للحكومة بإغلاق الشوارع وحرق الإطارات جنوب البلاد، بالتزامن مع إغلاق المدارس والدوائر الحكومية لأبوابها بعد يومٍ من الاشتباكات المميتة مع قوات الأمن، وذلك في إطار أكبر موجهةٍ من الاحتجاجات تشهدها البلاد منذ عام ٢٠٠٣، ما أسفر عن مقتل ما يزيد عن ٣٥٠ شخص وإصابة ١٥ ألف آخرين منذ بداية شهر أكتوبر الماضي. المصدر: Mohammed SAWAF / AFP.

نشر موقع “The Conversation” مقالةً سلّطت الضوء على ما واجهته احتجاجات العراق الأخيرة من إشكالياتٍ كشفت مدى زيف الديمقراطية في هذا البلد. وتتناول بلسم مصطفى، طالبة الدكتوراه بجامعة برمنغهام، في مقالتها أسباب خروج المظاهرات في عموم العراق، ابتداءً بالفساد المؤسسي، ومروراً بالفساد والبطالة، ووصولاً إلى ضعف الخدمات العامة. كما تتعرض مصطفى في مقالتها إلى مطالب المتظاهرين وشعارتهم، ناهيك عن رفضهم للتدخّل الإيراني في إدارة بلادهم.

وتبدأ مصطفى مقالتها بالتالي: “عندما قام محمد حبيب، وهو شابٌ من أبناء مدينة الصدر ببغداد ويبلغ من العمر 22 ربيعاً، بنشر منشورٍ على موقع فيسبوك تحدّث فيه الثورة، فإنه لم يكن ليتخيل أن مطالبه بتأمين حياةٍ أفضل وبتوفير الحقوق الأساسية سيتم الرد عليها بالرصاص”.

وكتب حبيب في منشوره: “ستكون ثورةٌ شعبية كبيرة غاضبة في بغداد… سوف ننزل للشارع بمظاهرات وسنقطع الطرق وسنعلن الثورة. كفى سكوت على ما يحصل للعراق، فنحن لا نقبل أن نرى ونتفرج على تدمير العراق ولدينا جيوشٌ من العاطلين، والفقراء، والبلد المدمر”.

هكذا بدأ كل شيء، إذ عجّت شوارع بغداد بشبابٍ غاضب اتسم بعدم انتمائه لأيٍّ من الأحزاب السياسية أو النشطاء المعروفين. وعبّر هؤلاء المتظاهرين – الذين وُلد غالبيتهم في أواخر التسعينيات أو أوائل الألفية – عن يأسهم من إمكانية إحداث أي تغيير في العراق.

وأسفرت حملات القمع التي قامت بها قوّات الأمن إلى مقتل ما يزيد عن 100 شخصاً، ناهيك عن جرح الآلاف من الناس. من جهته، أدان الرئيس العراقي برهم صالح ما حدث في خطابٍ متلفز تم بثّه يوم السابع من أكتوبر الماضي، مدّعياً عدم إصدار الدولة أو أجهزتها لأيّ أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين. يأتي ذلك في الوقت الذي أمرت فيه وزارة الداخلية بإجراء تحقيقٍ في شأن الوفيات.

إلا أن بيان صالح أثار العديد من الأسئلة حول ماهية من يدير الدولة العراقية بشكلٍ فعلي، لا سيّما في ظلّ استمرار تنفيذ حملة القمع على الأرض رغم إدانة صالح لها وإدانة دولٍ أخرى لما حدث.

بحثاً عن الوطن

ما تزال الأسباب التي أثارت الاحتجاجات منذ عام ٢٠١١ حاضرةً كما كانت حتى هذه اللحظة كالفساد المستشري، والبطالة، والمؤسسات المهترئة، وضعف الخدمات العامة، وتشمل هذه الاحتجاجات ما شهدته البصرة من احتجاجات في عام ٢٠١٨. وفي أعقاب استعادة الأراضي العراقية من قبضة تنظيم “الدولة الإسلامية“، أمل الكثير من العراقيين بتعلّم شيءٍ من الإخفاقات المتكررة التي أدّت إلى ظهور هذا التنظيم، متوسمين بأن يتخذ الممسكون بزمام السلطة خطواتٍ جادة لتحقيق الإصلاح، إلا أن هذا الأمل تآكل ووهن بمرور الوقت.

وجاءت الاحتجاجات الأخيرة في أعقاب مظاهراتٍ متعدّدة أصغر حجماً نظمتها في سبتمبر الماضي مجموعاتٌ مختلفة من الناس، لا سيّما حملة شهادة الدكتوراه والأطباء والمهندسين.

وتبعت ذلك إجراءاتٌ حكومية تسبّبت في تأجيج الغضب بشكلٍ كبير. إذ غضب الفقراء من حملة الدولة الأخيرة لتدمير الممتلكات غير المرخصة وأكشاك السوق في جميع أنحاء العراق، وهو ما أدى بدوره إلى تشريد الكثيرين وإفقادهم لوظائفهم.

وأعقب هذا الإجراء إقالة جنرالٍ مهم من منصبه وهو عبد الوهاب السعدي، إذ كان هذا الأخير يشغل منصب قائد جهاز مكافحة الإرهاب وتم تخفيض رتبته إلى منصبٍ أدنى في وزارة الدفاع. وأدى تهميش هذا الشخص الذي أثار الإعجاب لما قام به من دور في الحملة العسكرية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى إثارة غضب الكثير من العراقيين.

وترى مصطفى أن الجيل الجديد يرغب في بناء الوطن. وتضمنت الشعارات التي تم رفعها أثناء الاحتجاجات كلاً من: “نريد وطناً محترماً”، و”سأنزل إلى الشارع لأستعيد حقي”. وصاح أحد المتظاهرين بالتالي: “المشكلة مو مشكلة ماي وكهرباء، المشكلة مشكلة وطن”.

قمعٌ عنيف

 Abdulwahab Al-Saadi
الفريق الركن العراقي عبد الوهاب السعدي أثناء ردّه على أسئلة صحفي وكالة الأنباء الفرنسية في حي التنك غربي الموصل يوم ٢٥ إبريل ٢٠١٧، وذلك بعد سيطرة قوات النخبة الاتحادية بالكامل على هذا الحي بعد أسبوعٍ من المعارك الطاحنة مع تنظيم “الدولة الإسلامية”. المصدر: CHRISTOPHE SIMON / AFP.

فاجأت حملة القمع الفورية ضد احتجاجات العراقيين وأصابتهم بصدمة. وحوّل القمع توجّه المظاهرات من الاحتجاج على مكافحة الفساد والبطالة إلى انتفاضةٍ على الوضع الراهن وما يراه المشاركون تدخلاً أجنبياً وخاصة من إيران.

واستُخدم الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي والقناصة لقمع المتظاهرين. وقال أحد المتظاهرين: “فعلوا معنا ما لم يفعلوه مع تنظيم الدولة. ضربونا وأهانونا. وأطلقوا الرصاص الحي والقنابل علينا. ماذا فعلنا؟ لقد جئنا نطالب بحقوقنا وحقوق كل هؤلاء الناس”. واستُخدمت كلمات هذا المتظاهر في مطلع أغنية رابٍ جديدة أصدرها عراقيٌّ يقيم خارج البلاد بعنوان “ذيول إيران” وذلك للتضامن مع المتظاهرين.

ويذكرنا القمع العنيف والإجراءات السلطوية التي اتخذتها الدولة للتستر على المذبحة بأيام الحكم البعثي وقمع الرئيس الأسبق صدام حسين لانتفاضة عام 1991. وشملت الإجراءات التي تم اتخاذها في عام 2019 قطع خدمة الإنترنت في جميع أنحاء العراق باستثناء إقليم كردستان، وحظر التجول في بغداد ومحافظات أخرى في الجنوب، ناهيك عن إغلاق الطرق المؤدية إلى ميدان التحرير في بغداد حيث تجمع المتظاهرون. وقارن بعض المتابعين ذلك بما فعله تنظيم “الدولة الإسلامية” عندما قام هذا الأخير بقطع خدمة الإنترنت في الموصل أثناء تقدّم القوات العراقية لاستعادة المدينة في عام 2016.

وتعرّضت مكاتب الوكالات الإعلامية التي تغطي الاحتجاجات للهجوم، وجاءت بعض التقارير على ذكر تعرّض المتظاهرين والناشطين والصحفيين للتهديد والاعتقال.

وسعت السلطات عبر فصلها العراقيين عن العالم الخارجي إلى السيطرة على تداول مقاطع الفيديو التي تظهر مقتل مدنيين في وضح النهار. كما سعت السلطات إلى ترويج رواية الأحزاب والمسؤولين السياسيين المدعومين من إيران القائلة بإن “المندسين” – وهي إشارةٌ ضمنية إلى البعثيين أو الفاعلين المدعومين من الخارج – هم المسؤولون عن أعمال الشغب. وردّدت وسائل الإعلام الإيرانية روايةً مماثلة لتقويض شرعية الاحتجاجات عبر اتهام قوى أجنبية بالوقوف وراءها، في إشارةٍ غير مباشرة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية.

وعلى الرغم من انقطاع خدمة الإنترنت، وهو ما يزال مستمراً بصورةٍ جزئية، فإن لقطات إطلاق النار الحي على المتظاهرين وسيارات الإسعاف التي تحمل الجرحى انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ لجأ بعض المتظاهرين العراقيين إلى أساليب مبتكرة بمساعدة المغتربين العراقيين للكشف عن حجم العنف.

وتسببت هذه المشاهد المحزنة في إثارة سخطٍ كبير بين صفوف المغتربين العراقيين، وهو ما دفع هؤلاء للتظاهر في عددٍ من دول العالم للتضامن مع المتظاهرين في العراق. إلا أن الكثير من العراقيين الموجودين داخل البلاد ما يزالوا على غير درايةٍ بحجم الفظائع المرتبكة بسبب انقطاع خدمة الإنترنت عن مناطقهم.

زيف الديمقراطية

منذ سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، فشلت الحكومات المتعاقبة في وضع حدٍّ لمظالم العراقيين. ولقد تم إصدار الوعود الفارغة مراراً وتكراراً، بالتزامن مع اقتصار رد الفعل الحكومي على اتخاذ تدابير سطحية. وساعد النظام الانتخابي على إنتاج وإدامة نظام هجينٍ يخلط بين حكم اللصوص “الكلِبتوقراطية” والاستبداد وحكم غير المؤهلين “الكاكيستوقراطية”، ما يعني وجود حكومةٍ يديرها أسوأ الكوادر من معدومي الضمير. وهنا، لا بد من الإشارة إلى سعي كافة الجماعات المسلحة والقبائل والقوى الأجنبية ورجال الدين إلى الحفاظ على هذا النظام.

وتختم مصطفى مقالتها بالتالي:” “قد يكون صحيحاً أن الاحتجاجات الأخيرة تمت مواجهتها بالقمع، إلا أنّ اتخاذ مثل هذه الإجراءات كشف النقاب عن كون الديمقراطية في العراق واجهةً هشة. إذ كيف يتسنّى لحكومةٍ ديمقراطية أن تقتل شعبها وأن تطيح بآماله وأحلامه؟ وهل يمكن مواصلة نعت مثل هذه الحكومة بالشرعية بعد ما حصل؟ وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن هذا العالم الذي لم يبدي سوى ردّ فعلٍ لا مبالٍ على قمع الأبرياء المميت في العراق، بحاجة على الأقل لإدراك أن الأسباب الجذرية لأمراض العراق تكمن في كينونة النظام الذي تم استحداثه في مرحلة ما بعد عام ٢٠٠٣ “.

“الآراء الواردة في هذه المقالة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر فنك”.