تركز معظم التحليلات في عام 2018 لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على انهيار مشروع الخلافة في العراق وسوريا، وتحاول تقييم تكتيكات الجماعة المستقبلية كحركةٍ إرهابية ومتمردة عالمية. وعليه، تم إيلاء انتباهٍ أقل للانقسامات اللاهوتية والفكرية التي أصبحت أكثر بروزاً مع مرور الوقت، والتي يتم تدوالها بشكلٍ أساسي على تطبيق تيليجرام، وهي أداة بثٍ للرسائل الرقمية.
بشكلٍ عام، تتعلق هذه الانقسامات بقضايا التكفير (أي إعلان أن أحدهم غير مسلم، الأمر الذي يصبح مثيراً للجدل عند تطبيقه على من يزعمون الانتماء إلى الإسلام)، و”العذر بالجهل” (أي فكرة أن جهل شخص ما قد يكون عقبة لإعلان تكفيره بسبب فعلٍ معين يرتكبه) والناقض الثالث للإسلام (من لم يكفّر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم: كفر).
من هذه القضايا، تُطرح أسئلةٌ ما إذا كان التكفير “مبدأ/أساس” الإسلام، وإذا ما كان هناك أي عُذرٍ للجهل على الإطلاق، وما إذا كان التكفير المطلق “للجاهل” مفهوماً شرعياً، وما إذا كان الناقض الثالث للإسلام يمكن تطبيقه بسلسلةٍ متوالية. تعني الفكرة الأخيرة ما يلي: إذا لم يُكفّر “س” الشخص “ص،” يعتبر “س” كافراً، وإذا لم يُكفّر “ج” الشخص “س،” يعتبر “ج” كافراً، وإذا لم يُكفّر “د” الشخص “ج”…الخ. من المحتمل أن يكون هناك سلسلة لا متناهية أو كبيرة جداً للتكفير. وإلى حدٍ ما، هذا الجدال مترابط.
في البداية، كان هناك اتجاهٌ أكثر “اعتدلاً” يتجسد في أمثال العلامة البحريني وعضو تنظيم داعش الأسبق تركي البنعلي، مثل رفض فكرة التكفير المطلق للجاهل، مما يسمح بالعذر في الجهل في ظروف معينة (ولكن ليس في مسائل “الشرك الأكبر” مثل الشرك بالله) ورفض فكرة التكفير باعتباره مبدأ/ أساس الإسلام. ومع مرور الوقت، أدرك البنعلي وعلماء داعش من ذوي التفكير المتشابه أن هناك تنازلات يتم تقديمها للاتجاه “المتطرف.”
برزت المشكلة إلى الواجهة عندما أصدرت اللجنة المفوَّضة (الهيئة الإدارية العامة لداعش) بياناً في مايو 2017 بشأن مسائل العقيدة. في الواقع، كان البيان بمثابة انعكاسٍ لبيانٍ صدر في مايو 2016 من قبل المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية (وهي هيئة أنشئت لتقييم بعض الأقسام الإدارية لداعش)، لأن اللجنة المفوضة أكدت الآن أن تكفير المشركين من بين “المبادىء الصريحة للدين،” والتي يجب أن تكون معروفة قبل معرفة الصلاة والفروض الأخرى المعروفة للدين بحكم الضرورة. فقد تم انتقاد هذه الفكرة بالفعل في بيان مايو 2016 على أنها من المحتمل أن تؤدي إلى سلسلةٍ من التكفير – وهي نقطة أشار إليها البنعلي في ردٍ شديد اللهجة على بيان مايو 2017. ينطبق هذا تماماً مع رفض بيان مايو 2017 فكرة سلسلة التكفير.
ومن بين المخاوف الأخرى التي أثارها البنعلي، أن تأكيد التكفير كمبدأ للدين يمكن أن يعني تكفير الجاهل. إذا ما كان التكفير هو مبدأ الإسلام، بالتالي فإن الشخص الذي يعذر في الجهل في مسائل الشرك الأكبر هو كافرٌ ويُعامل معاملة المشرك، وماذا عن أبو مصعب الزرقاوي، الذي لم يكفر شخصاً مثل سليمان العلوان بالرغم من أن العلوان أجاز العذر بالجهل في الشرك الأكبر؟
قُتل البنعلي في غارةٍ جوية لقوات التحالف في عام 2017 ولم يعش ليرى تبرأته، على الأقل جزئياً، عندما تراجعت اللجنة المفوضة عن بيانها الصادر في مايو 2017 في سبتمبر 2017 وأصدرت سلسلة صوتية جديدة لتوضيح مسائل العقيدة، ورفض فكرة التكفير كأساسٍ للدين.
ومنذ ذلك الحين، ظهرت ثلاث مناظراتٍ منفصلة على شبكة الإنترنت:
– “المنشقون”: الذي تُمثلهم بشكلٍ أساسي ثلاث مؤسسات إعلامية – مؤسسة التراث العلمي، والمعراج للإعلام، ومؤسسة الوفاء الإعلامية. ومن بين هذه المؤسسات، فإن مؤسسة الوفاء الإعلامية هي الأقدم. ولربما تكون مؤسسة التراث العلمي الأكثر إثارةً للاهتمام لأنها نشرت كمية كبيرة من المواد لعلماء داعش الذين تحترمهم (على سبيل المثال البنعلي) دون تصريحٍ من داعش. يتميز المنشقون بدعمهم القوي للبنعلي وغيره من العلماء في المنظمة الذين يرون أنها تسير في الاتجاه الصحيح “المعتدل” (منهم على سبيل المثال أردني يدعى أبو يعقوب المقدسي). ورغم سعادتهم لتراجع اللجنة المفوّضة عن بيان مايو 2017، يعتقد المنشقون أن “المتطرفين” لا يزالون يمارسون نفوذاً مُفرطاً داخل تنظيم داعش، ولا سيما في وسائل الإعلام. تقوم مؤسسة التراث العلمي بنشر تحديثاتٍ منتظمة إلى حدٍ ما حول ما تزعم أنه اضطهاد للعلماء، أمثال المقدسي، على أيدي هؤلاء المتطرفين.
– “التيار الرئيسي”: أنصار جهاز الإعلام الرسمي لداعش. هم أيضاً يقبلون بإلغاء بيان مايو 2017 ولكنهم يعتقدون أن المنشقين أشخاصٌ مشبوهون لنشرهم مواد دون تصريحٍ رسمي.
– “المتطرفون”: يتم تمثيلهم بشكلٍ رئيسي عبر قناتين على تطبيق تيليجرام، حيث ينتقدون داعش لإلغاء بيان مايو 2017 وإصدار سلسلةٍ صوتية لتوضيح مسائل العقيدة. تقوم كلتا القناتين بتسريب مواد داخلية، كما يفعل المنشقون، إلا أن أجندتهم مختلفة تماماً: أي أنهم يحاولون إظهار العلماء الذين يحترمهم المنشقون باعتبارهم جَهَلة. تواصلنا في فَنَك مع مسؤولي القناتين. هكذا وصف أحدهم مؤسسة التراث العلمي.
“جهمية بائسون… يتمثل هدفهم في جعل الدولة [تنظيم داعش] مشابهاً لتنظيم القاعدة وتطبيق مشورة أبو عياض التونسي وغيره من خلال تقليم أظافر الدولة وجعلها معتدلة لزعزعة صفوفها ووضع نهايةٍ لها، بدافع الكبرياء والحسد.”
لا يعترف هذا المسؤول فعلياً بإدعاء داعش بأنها خلافة. إذ قال لفَنَك:
“أسأل الله أن يرشد [داعش]، فالأمر لا علاقة له بحقيقة أني لا أعتبرها خلافة، لأنها ليست خلافة… ولكننا جماعة مسلمة كانت لفترةٍ من الوقت الأقرب إلى الحقيقة في الميدان.”
فقد أوضح أن ما يقصده بـ”أقرب إلى الحقيقة” أي عندما أصدرت اللجنة المفوّضة بيان التكفير كأساس للدين. وعلى النقيض من ذلك، حذر أحد المنشقين في دردشةٍ خاصة أن القناة المعنية تكتب “ضد” داعش. ومن المرجح أن كلا قناتي المتشددين على تيليجرام يُديرها منشقون عن داعش.
ومع ذلك، وبالرغم من كون هذه المناقشات مثيرةً للاهتمام، إلا أن تأثيرها على الأداء اليومي لداعش أمرٌ مشكوكٌ فيه. وبينما تحدث الاعتقالات على مستويات أعلى في التنظيم، فقد يكون العديد من أو معظم الرتب الحالية والمجموعات المصنفة غير مدركين ببساطة للتفاصيل الدقيقة للنزاعات العقائدية. ولمعرفة ما يبدو عليه الانقسام الرئيسي، لا يحتاج المرء إلا إلى النظر إلى غرب أفريقيا، حيث تم عزل أبو بكر شاكوي من منصبه كـ “أميرٍ لولاية داعش” في غرب إفريقيا، وذلك جزئياً بسبب تبنيه أفكاراً متطرفة رفضها داعش. ومنذ أن تم عزله في أغسطس 2016، يخوض شاكوي وأتباعه حرباً صريحة ضد أتباع داعش في غرب إفريقيا.
وفي حين ينبغي أن ينظر المزيد من الباحثين في المناقشات الأيديولوجية التي تدور رحاها، فلربما لن يكون من الحكمة التفاؤل بأن مثل هذه الانقسامات ستدمر داعش من الداخل.