وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

وصفة لصراعٍ أزلي يُكرّس الاستمرار

Nablus
شاب فلسطيني ملثم بالكوفية يقف وسط الدخان خلال اشتباكاتٍ وقعت مع قوات الجيش الإسرائيلي في 26 نوفمبر 2019 بالقرب من مدينة نابلس بالضفة الغربية بعد أن خرج الفلسطينيون بـ”يوم الغضب” ضد القرار الأمريكي الأخير بعدم اعتبار المستوطنات في الضفة الغربية غير قانونية. Photo: JAAFAR ASHTIYEH / AFP

بقلم: زياد أبو زايد

بغض النظر عن التصريحات العلنية لبعض القادة الفلسطينيين المعدة للإستهلاك المحلي، أود أن أؤكد أني لم أسمع قط عن زعيمٍ فلسطيني يؤمن بإمكانية تحقيق حلٍ سياسي للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني دون الولايات المتحدة. بل على العكس من ذلك، بصفتي مفاوضاً ووزيراً سابقاً عمل عن كثب مع رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات ورفاقه في مرحلةٍ حاسمة من المفاوضات والجهود المبذولة للبحث عن حلٍ سياسي للصراع، يمكنني القول، وبكل ثقة، إننا جميعاً نؤمن أن إحراز تقدمٍ غير ممكن دون تدخل الولايات المتحدة الأمريكية.

ببساطة، يرجع ذلك لكونها الدولة الوحيدة في العالم التي لها تأثير على إسرائيل وذلك بفضل علاقاتها الخاصة مع الدولة اليهودية. فالولايات المتحدة الداعم الأكبر لإسرائيل، حيث تقدم لها مليارات الدولارات سنوياً في شكل مساعداتٍ اقتصادية وعسكرية، بما في ذلك الأسلحة الأكثر تطوراً والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة. أما في المجال السياسي والدبلوماسي، لطالما كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على أهبة الاستعداد لاستخدام حق النقض ضد أي قرارٍ لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لا تفضله إسرائيل. تمثل الاستثناء الوحيد في امتناع الولايات المتحدة عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 2334، ولكن بعد توليه منصبه، سعى الرئيس دونالد ترامب إلى إبطال ذلك أيضاً.

مع أخذ ذلك في الاعتبار، بذلت القيادة الفلسطينية قصارى جهدها لإرساء علاقاتٍ جيدة مع الإدارة الأمريكية وإقامة اتصالاتٍ مباشرة معها. أصبح هذا ممكناً في أواخر الثمانينيات بعد أن التزمت منظمة التحرير الفلسطينية بشروط الولايات المتحدة من خلال الاعتراف بقراري مجلس الأمن رقم 242 و338، وإدانة الإرهاب، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود. أصبحت الاتصالات المباشرة بين الطرفين ممكنة في أواخر الثمانينيات وتم تعزيزها بعد مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991 ومفاوضات السلام في واشنطن التي بدأت في ديسمبر 1991 وانتهت في يناير 1994، بعد أربعة أشهرٍ من توقيع اتفاقيات أوسلو في البيت الأبيض في 13 سبتمبر 1993، برعاية الرئيس بيل كلينتون.

انكفاء سياسة الولايات المتحدة تجاه الاستيطان

في أعقاب قيام دولة إسرائيل عام 1948، اتبعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة سياسة ذات مسارين تمثلت بدعم إسرائيل وأمنها بينما حاولت في الوقت نفسه الحفاظ على علاقاتٍ متوازنة مع الدول العربية في المنطقة لمواجهة النفوذ السوفيتي آنذاك.

في مقتطفٍ من كتاب الرئيس ليندون جونسون الذي حمل عنوان “نقطة الأفضلية: نظرات رئاسية 1963- 1969،” والذي نُشر في صحيفة نيويورك تايمز في 23 أكتوبر 1971، كتب:

“منذ تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، دعمنا وحدة أراضي جميع الدول في تلك المنطقة. كان التزامنا متجذراً في الإتفاق الثلاثي لعام 1950، الذي وعدت فيه الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وفرنسا بمعارضة أي جهد لتغيير الحدود الوطنية في الشرق الأوسط بالقوة.”

في وقتٍ لاحق، بعد حرب عام 1967، واصلت الولايات المتحدة التزامها بتحقيق تسويةٍ سياسية للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني في الوقت الذي عارضت فيه أنشطة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي مقالٍ نُشر في مجلة فورين أفيرز في 13 يناير 2016، كتب السفير الأمريكي السابق دانييل كيرتزر: “على مدى العقود الأربعة الماضية، عارضت كل إدارة أمريكية بناء المستوطنات في الأراضي التي احتلتها إسرائيل منذ عام 1967. فقد وصفت إدارة كارتر المستوطنات بـ”غير الشرعية،” كما دعا الرئيس رونالد ريغان إلى “التبني الفوري لتجميد الاستيطان،” مشيراً إلى أن “المزيد من النشاط الاستيطاني ليس ضرورياً بأي حال من الأحوال لأمن إسرائيل ويُضعف فحسب ثقة العرب بإمكانية التفاوض على نتيجةٍ نهائية بحرية وإنصاف.”

وأضاف كيرتزر: “أحجم الرئيس جورج بوش الأب عن تقديم ضمانات القروض التي كانت إسرائيل بحاجة إليها لاستيعاب المهاجرين اليهود السوفيت إلى أن وافقت إسرائيل على عدم توطين المهاجرين في الأراضي المحتلة. وأثناء إدارة كلينتون، أقر الكونجرس الأمريكي تشريعاً لخصم مبلغ الأموال التي أنفقتها إسرائيل على الأنشطة المتعلقة بالاستيطان من المساعدات الأمريكية لإسرائيل (باستثناء المساعدة الأمنية).”

Ramallah city
متظاهرون فلسطينيون يصعدون على أحد السلالم على جدار الفصل الإسرائيلي المثير للجدل وهو يحمل إطاراً مشتعلاً في قرية بعلين في الضفة الغربية المحتلة بالقرب من رام الله، في 31 يناير 2020. Photo: ABBAS MOMANI / AFP

وبالتالي، تراجعت الولايات المتحدة تدريجياً عن موقفها القوي بعدم شرعية المستوطنات إلى لغةٍ أكثر اعتدالاً وصفت الأنشطة الإستيطانية بالعقبة أمام تحقيق السلام وصولاً إلى موقفٍ لا مبالٍ حذر إسرائيل من اتخاذ “خطواتٍ أحادية الجانب.” وأثناء انخراطها في هذا التراجع، واصلت الولايات المتحدة احتكارها لجهود التوصل لحلٍ سياسي وقطعت الطريق أمام التدخل الأوروبي أو أي تدخلٍ دولي آخر باستثناء اللجنة الرباعية الدولية، التي تُهيمن عليها الولايات المتحدة، فضلاً عن تحييد دور الأمم المتحدة.

استمرت هذه السياسة حتى عهدٍ قريبٍ جداً عندما قلبت إدارة ترامب الأمور رأساً على عقب وتخلت عن الموقف الأمريكي ضد الإستيطان اليهودي للأراضي الفلسطينية المحتلة لصالح حل الدولتين. الموقف الأمريكي الرسمي اليوم، كما عبر عنه وزير الخارجية مايك بومبيو والسفير لدى إسرائيل دانيال م. فريدمان، هو أن المستوطنات قانونية.

خطوات تهميش الفلسطينيين

في أول لقاءٍ له مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في المكتب البيضاوي في 3 مايو 2017، قال ترامب إن الولايات المتحدة لا يمكنها فرض اتفاق على إسرائيل وفلسطين وشدد على أنه “ينبغي للفلسطينيين والإسرائيليين العمل معاً للتوصل إلى اتفاقٍ يسمح للشعبين بالعيش والعبادة والنمو والازدهار بسلام.”

بعد بضعة أسابيع، تحدث ترامب في مؤتمرٍ صحفي جمعه بعباس في بيت لحم في 28 مايو وذلك في اليوم الثاني لزيارة ترامب لإسرائيل وفلسطين بقوله: “أنا ملتزم بمحاولة التوصل إلى اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وأنوي القيام بكل ما بوسعي لمساعدتهم على تحقيق هذا الهدف،” ونقل ترامب عن عباس تأكيده أنّه مستعد للعمل من أجل “تحقيق هذا الهدف بحسن نية، ووعدني رئيس الوزراء نتنياهو بالشيء ذاته. وأنا أتطلع إلى العمل مع هؤلاء القادة من أجل التوصل إلى سلامٍ دائم.”

رحبت القيادة الفلسطينية بهذا الموقف الذي أنعش الآمال بمساهمة ترامب في تحقيق تسويةٍ عادلة، بيد أن الإدارة الأمريكية كانت قد بدأت بالفعل بإرسال إشاراتٍ تُفيد بأن الأمر لم يكن كذلك. كان تعيين فريدمان، وهو مؤيدٌ قوي للمستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، سفيراً للولايات المتحدة لدى إسرائيل أول مؤشر على أن خطة السلام التي وضعها ترامب وصهره جاريد كوشنر، تحمل في طياتها أنباءً سيئة. تبع هذه الخطوة العديد من الخطوات التي زادت من تردي العلاقات مع الفلسطينيين وبددت أي آمالٍ كانت تعتريهم. فقد كان من بين تلك الخطوات إغلاق مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن العاصمة، ووقف المساعدات المقدمة للسلطة الفلسطينية، بما في ذلك المخصصات المالية للمستشفيات العاملة في القدس الشرقية التي تقدم خدماتٍ طبية للفلسطينيين، والاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وقطع المساعدات عن الأونروا في محاولةٍ للقضاء على قضية اللاجئين الفلسطينيين، ودمج قنصلية الولايات المتحدة العامة في القدس بسفارة الولايات المتحدة وإنهاء دورها باعتبارها عنواناً للفلسطينيين، وأخيراً الإعلان عمّا يُسمى بـ”صفقة القرن.”

شكلّت التدابير التي اتخذت ضد الفلسطينيين صدمةً ووضعت القيادة الفلسطينية في حالة تأهب متوقعين الأسوأ. وفي خضم النقاشات التي درات رحاها داخل أروقة المنتديات والدوائر الفلسطينية حول الوضع الجديد، زار بعض المسؤولين الأمنيين الفلسطينيين واشنطن للقاء أفراد من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وآخرين، إلا أن جميع هذه الجهود عجزت عن وقف الاتجاه الجديد المترسخ في واشنطن. فقد أصبح من الواضح أن الإدارة الأمريكية تخضع بالكامل لتأثير المسيحيين الإنجيليين اليمينيين في الولايات المتحدة بقيادة نائب الرئيس مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو وسفيرها المؤيد للاستيطان لدى إسرائيل دانيال فريدمان، والحكومة الإسرائيلية اليمينية، إضافةً إلى تبني حجة نتنياهو بأن تطبيع العلاقات مع العالم العربي يجب أن يسبق حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وقد تعززت هذه الحجة مع تصاعد التوترات بين السعودية ودول الخليج من جهة وإيران من جهةٍ أخرى. خلق هذا التصعيد انطباعاً بأن إسرائيل والعالم العربي لهما عدوٌ مشترك يمكنهما التعاون ضده بينما يتم تنحية القضية الفلسطينية جانباً. كما أسهم إقامة علاقاتٍ بين بعض دول الخليج وإسرائيل، سراً وعلناً، في تعزيز هذا الانطباع. وعلى هذا النحو، فإن الديناميكيات الإقليمية المتغيرة وإيماءات الموافقة من الدول العربية على استعدادها للشراكة مع إسرائيل، من أجل مصالحها الخاصة على حساب الفلسطينيين، ربما لعبت دوراً في تقوية شوكة إسرائيل والولايات المتحدة.

ومنذ الأيام الأولى للاحتلال الإسرائيلي عام 1967، كانت سياسة إسرائيل هي تجاهل الشريك الفلسطيني والسعي إلى التوصل لحلٍ عملي مع الأردن. ففي السبعينيات، تطور هذا إلى عملية تقويض أي إمكانية للانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة أو إنشاء دولة فلسطينية من خلال تعزيز النشاط الاستيطاني لتجزأة الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفصل المدن والقرى عن بعضها البعض من خلال إحاطتها بالمستوطنات اليهودية والتوسع بالبُنية التحتية الإسرائيلية للطرق والطرق السريعة والمياه والكهرباء والاتصالات والدوائر القانونية والإدارة ووسائل أخرى لدمج المستوطنات في إسرائيل.

صفقة ترامب تنم عن جهل وتنتهك القانون الدولي

بتفحص صفقة أو رؤية ترامب– أياً ما كان ترغبون في تسميتها- يجد المرء أنها تفتقر إلى الحد الأدنى من الفهم لتعقيد القضية الفلسطينية من جميع جوانبها منذ عام 1948 وحتى يومنا هذا، إذ تنم عن جهلٍ تام بالسياسات الدولية وتنتهك المبادىء الأساسية للاتفاقيات والقوانين الدولية بما في ذلك القانون الدولي العرفي الذي تطور وأصبح جزءاً من السلوك والنظام القانوني الدولي منذ الحرب العالمية الثانية.

عشية إعلان ترامب عن صفقته، جادل البعض بأنه ينبغي على القيادة الفلسطينية عدم رفض الخطة بالمجمل بل انتظار صدورها والرد بإيجابية من خلال قبول مكوناتها الإيجابية والدخول في مفاوضاتٍ لتغيير مكوناتها السلبية. وقالوا إن على الفلسطينيين دحض تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق أبا إيبان عندما قال “الفلسطينيون لا يفوتون أي فرصة لتفويت الفرص.”

وقبل يومين من إعلان الخطة، كتبت الآتي في عمودي الأسبوعي في صحيفة القدس اليومية الناطقة باللغة العربية: “وأنا أدعو القيادة الفلسطينية الى عدم إعطاء هذه الهدية للإسرائيليين الذين يعتمدون على الرفض الفلسطيني للخطة، وأن يكون رد الفلسطينين بأننا… نرحب بالعناصر الإيجابية التي تضمنتها خطة الرئيس ترامب وندعو الأمم المتحدة والدول الكبرى بما فيها أمريكا الى عقد مؤتمر للسلام لتطوير خطة ترامب ومعالجة السلبيات التي تتضمنها من خلال مفاوضات جادة وعلى أسس قرارات الشرعية الدولية.”

بالنظر إلى ما كتبته آنذاك، يؤسفني القول بأني كنت مفرطاً بالتفاؤل، بل لنقل إلى حد السذاجة، بتوقعي نتائج إيجابية من عمليةٍ يهيمن عليها فريدمان وكوشنر وجيسون جرينبلات، المعروفون جميعاً بكونهم من مؤيدي المستوطنين والسياسات اليمينية لحكومة نتنياهو. كان هذا أحد الأشياء القليلة التي كتبتها وندمت عليها، لأن صفقة ترامب محكومٌ عليها بالفشل ورؤية تنعدم فيها الرؤية، بل هي وثيقة كتبها مؤيدو الاستيطان مع مدخلاتٍ من المستوطنين اليهود المتعصبين أنفسهم، كما تزخر بالتعابير والمصطلحات الأيديولوجية التي يستخدمها اليمين الإسرائيلي.

تعامل فريق ترامب- كوشنر مع الفلسطينيين بتعالٍ وغطرسة، إذ قللوا من شأن تطلعاتهم الوطنية واحترام الشعب الفلسطيني لذاتهم وكرامتهم وظنوا أنه من الممكن استخدام احتياجاتهم المادية للضغط عليهم وابتزازهم. فقد اعتبروا الفلسطينيين من المسلمات بكونهم شعباً مهزوماً على أتم الاستعداد للاستسلام. وعليه، تستند “صفقة” ترامب، البعيدة كل البعد عن الصفقات، على افتراض أن الفلسطينيين الفريق الخاسر وأن للفريق الفائز الحق في إملاء شروط التسوية بدلاً من التفاوض عليها.

مطالب بقبول الواقع الحالي

لا يملك فريق ترامب بقيادة كوشنر أي خلفيةٍ بالدبلوماسية أو العلاقات الدولية، فجميعهم ينحدرون من عالم المال والأعمال والعقارات. فقد أعلن كوشنر أننا في عام 2020، وليس عام 1967، وأن حل الصراع ينبغي أن يستند إلى أساس الواقع على الأرض اليوم وليس ما كان وقتها! بعبارةٍ أخرى، قال إنه يتعين على الفلسطينيين التخلي عن جميع اتفاقيات السلام التي تم الاتفاق عليها مسبقاً والمتفاوض عليها، وجميع قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة والقانون الدولي، وأن يقبلوا فقط بواقع اليوم.

يتمثل الواقع الذي يقترحه كوشنر بقبولنا بتجزئة إسرائيل للأراضي الفلسطينية من خلال بناء المستوطنات وفرض قيودٍ على الحركة ودمج المستوطنات في إسرائيل. هذا ما يقترحه كحل، بدلاً من وصفه بالمشكلة التي يجب التعامل معها وحلها. وبالتالي، فإن جوهر خطة ترامب يتمحور حول جعل ما كان من المفترض أن يكون مؤقتاً أمراً دائماً، بدلاً من الاعتراف ومعالجة مشكلة يجب حلها عبر المفاوضات على أساس المعايير المتفق عليها دولياً والقانون الدولي ومبادىء قرارات مجلس الأمن الدولي. بل إن تسمية هذه الخطة بالحل السياسي تجعلها أسوأ من الواقع الحالي، لأنها تعني أنه لم يعد هناك احتلال وأن الفلسطينيين يجب أن يكونوا سعداء بالتخلي عن أرضهم وحقوقهم الوطنية والعيش في ظل احتلالٍ مستمر ليس سوى نظام فصلٍ عنصري.

حتى وإن لم يتم تنفيذها بالكامل، فقد منحت خطة ترامب إسرائيل الضوء الأخضر لتحويل الاحتلال المؤقت إلى ضمٍ دائم، وبالتالي تحقيق هدفها الحقيقي المتمثل بتغيير نموذج حل الدولتين. فهي تهدف لتركنا في براثن دولة فصل عنصري حيث يتمتع البعض فيها بحقوق بينما يحرم البعض الآخر منها. وفي حال كانت تلك هي القاعدة، فلن تكون وصفةً للسلام بل وصفةً لصراعٍ أزلي يكرس الاستمرار. إن فكرة أن الفلسطينيين سيوافقون على العيش إلى الأبد دون حقوق لن تنجح.

وفي حال تم الضم، سيكون هذا تحولاً مزلزلاً، ذلك أن الركن الأساسي في النظام الدولي القائم على القوانين ينص على عدم الاستيلاء على الأراضي بالقوة. ويتجسد هذا المبدأ في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 الذي اعتبر مرجعية لعملية السلام التي بدأت بمؤتمر مدريد وجميع المفاوضات التي تلت ذلك.

ووفقاً لخطة ترامب، ستضم إسرائيل حوالي 30% من الضفة الغربية، المفككة والمجمعة بسبب المستوطنات. وبالتالي، ستكون ما تُسمى بالدولة الفلسطينية مجموعة من قطع الأراضي المبعثرة والمحاصرة من قبل إسرائيل بالكامل، وسيتم ربط هذه الأجزاء من الأراضي بجسور وأنفاق تخضع للسيطرة الإسرائيلية، وسيقرر جنود الاحتلال الإسرائيلي من يتحرك حول ما يسمى بالدولة الفلسطينية. وعليه، يمكن لمركبة عسكرية واحدة في أي من هذه الأنفاق أو الجسور أو الطرق أن توقف أي اتصالٍ أو حركة بين المناطق الفلسطينية التي تشكل ما يسمى بالدولة، وستكون جميع المخارج من الأراضي الفلسطينية من وإلى العالم الخارجي تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية. وعلى هذا النحو، سيستمر الجيش الإسرائيلي في السيطرة الكاملة على الحياة اليومية وحرية الحركة للفلسطينيين ضمن ما يسمى بالدولة المستقبلية.

وعلى الرغم من أن الخطة تتحدث عن إقامة دولةٍ فلسطينية في هذه المنطقة المجزأة بعد أربع سنوات، إلا أنها تمنح اعترافاً فورياً بالسيادة الإسرائيلية على المستوطنات من جهة، بينما تقدم من جهةٍ أخرى قائمة طويلة من الشروط التي يتوجب على الفلسطينيين الوفاء بها قبل إنشاء دولتهم المزعومة. وعلاوةً على ذلك، تمنح الخطة إسرائيل الحق في تقرير ما إذا كان الفلسطينيون قد استوفوا هذه الشروط. الجواب معروفٌ مسبقاً: لن تعترف إسرائيل قط بأن الفلسطينيين مستعدون لإقامة دولة، ولن يكون هناك أبداً دولة فلسطينية على أساس رؤية الضم وتطبيع الاحتلال هذه. أما بالنسبة للقدس، فلا داعي للقول بأن القدس هي صميم الصراع. فعلى الرغم من إعلان ترامب بأن القدس “خارج نطاق النقاش” واعتقاده المضلل بقدرته على ذلك وبكونه ما زال يقترح خطة سلامٍ مقبولة، فلن يقبل أي زعيم فلسطيني حلاً دون أن تكون القدس العربية عاصمةً لفلسطين والتمتع بالسيطرة والسيادة الكاملة على الحرم الشريف.

النضال الفلسطيني من أجل السلام والعدالة مستمر

هذه الخطة هي استسلامٌ كامل لسياسة الاحتلال الإسرائيلي الأبدي وإقامة دولة إسرائيل الكبرى على كامل أرض فلسطين التاريخية مع إنكار وجود الفلسطينيين وحقوقهم بشكلٍ كامل.

تتعدى المخاطر التي تشكلها خطة ترامب الضم والاحتلال الدائم والقضاء على حل الدولتين، بل الخطة هي وصفةٌ لنظام فصلٍ عنصري وستؤدي إلى صراع مستمر مصحوبٍ بالعنف وسفك الدماء من كلا الجانبين. فمجرد الإعلان عنها شجع المستوطنين الإسرائيليين المتعصبين على تصعيد هجماتهم ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم. والمطلوب بشكلٍ عاجل هو استئناف عملية المفاوضات في ظل الشرعية الدولية المتمثلة في القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة كمرجعيةٍ لها.

في خطابه أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 11 فبراير 2020، وصف الرئيس عباس، على نحوٍ ملائم، خطة ترامب بكونها “صفقة أميركية-إسرائيلية استباقية جاءت لتصفية القضية الفلسطينية. إن الخطة تكافىء الاحتلال بدلاً من محاكمته على ما ارتكبه خلال عقود من الجرائم ضد شعبنا وأرضنا. هذه الخطة لن تجلب السلام أو الاستقرار إلى المنطقة. وبالتالي، لن نقبلها وسنواجه تنفيذها على الأرض.”

بهذه الكلمات عبّر عباس عما يشعر به ويفكر فيه كل فلسطيني. نحن نجونا من جميع محاولات تصفية قضيتنا على مدار أكثر من قرن، وسنواصل نضالنا من أجل السلام والعدالة بكرامة مع الاعتراف بالقيم الإنسانية العالمية للعدالة وحقوق الإنسان لكل إنسانٍ على وجه الأرض، بما في ذلك جيراننا، الإسرائيليون.

إن رفض خطة ترامب ما هو إلا رفضٌ لإنكار الرواية الفلسطينية، وإنكار حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وإنكار حق الفلسطينيين في العيش بسلام وأمن وكرامة على أرضهم.

“الآراء الواردة في هذه المقالة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر فنك”.