واليوم يبلغ عدد الفلسطينيين في القدس حوالي 300 ألف فلسطيني. فالتاريخ الذي لا يرحم علمهم أن سنواتٍ من الحرب والتمييز تعني أن من يترك أرضه وداره سيعاني الأمرين، إن لم يكن من المستحيل، استعادتهما. وبالتالي تتلخص الاستراتيجية الفلسطينية في الوقت الحالي بالصمود، وتتمثل الفكرة بالآتي: إلى أن يتغير ميزان القوى في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن أفضل ما يمكن أن يفعله الفلسطينيون هو التشبث بأرضهم.
ركزت إسرائيل، منذ احتلال الأراضي الفلسطينية في يونيو 1967، كثيراً من جهودها وقوانينها وممارساتها على محاولة توحيد القدس والسيطرة عليها، كما حاولت في الوقت نفسه تقليص أي دورٍ لسكان المدينة الفلسطينيين. ومن المؤكد أن إعلان البيت الأبيض في 6 ديسمبر 2017 الإعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، مخالفاً بذلك عادةً دبلوماسيةً راسخة منذ سنوات، سيؤدي دون أدنى شك إلى إشعال التوترات، فضلاً عن المخاوف بشأن التمييز بين القدس الغربية (الإسرائيلية) والقدس الشرقية (الفلسطينية).
فقد بدأت الإجراءات القانونية الإسرائيلية في 27 يونيو 1967، عندما وسعت اسرائيل بشكلٍ إنفرادي حدود القدس الشرقية وضمت القدس الشرقية المحتلة إلى اسرائيل.
ولكن على الرغم من أن إدارة ترامب اعترفت بكامل القدس “دون تحديد” عاصمةً لاسرائيل، إلا أنها لم تلغِ القرارات السابقة بعدم الاعتراف بالحدود التي ضمتها اسرائيل عام 1967. كما أن جميع بلدان العالم لم تعترف يوماً بضم حدود المدينة أو بأيٍ من القوانين الأخرى التي حاولت جعل المدينة المحتلة جزءاً من دولة إسرائيل.
أصدرت اسرائيل قوانين مدنية في القدس وعممتها على الفلسطينيين الذين أدرجوا في إحصاءٍ رسمي للسكان أجري في المدينة بعد احتلالها. وبالتالي، مُنح المقدسيون الشرقيون إقامةً دائمة في إسرائيل، ليتم تصنيفهم بحمل بطاقات هوية زرقاء ولوحات سيارات صفراء مماثلة لتلك الموجودة في إسرائيل. كما بات الفلسطينيون في القدس مؤهلين للانضمام إلى مؤسسة التأمين الوطني ويخوّل حصولهم على مساعداتٍ إجتماعية مدى الحياة، بدءاً من مساعداتٍ للأطفال وكبار السن ووصولاً إلى الرعاية الصحية، والتعويضات عن البطالة وحتى تعويض أسرهم عن تكاليف الدفن.
وبطبيعة الحال، ينبغي على الفلسطينيين دفع مجموعة متنوعة من الضرائب الشخصية وضرائب العقارات للحصول على هذه المنافع الاجتماعية. وهذا بالرغم من أن الأحياء العربية في القدس الشرقية بالكاد تحظى بأيٍ من المنافع التي تحظى بها الأحياء اليهودية سواء في القدس الغربية أو القدس الشرقية.
وفي أغسطس 1980، أقرت إسرائيل قانونها الأساسي “القدس عاصمة إسرائيل،” الذي أعلن أن كامل القدس “عاصمة إسرائيل الموحدة والأبدية.” دفع هذا بآخر بلدين كانت سفاراتهما في القدس- غواتيمالا وجمهورية الدومينيكان- إلى نقل سفارتيهما إلى تل أبيب. ومنذ ذلك الحين، لم يعد هناك أي وجودٌ لأي سفارة أجنبية في القدس.
وفي القدس الشرقية، أطلقت اسرائيل مشروعاً استيطانياً ضخماً في محاولةٍ لتوطيد هذا التوحيد أحادي الجانب ولتصبح إمكانية أن تكون القدس الشرقية يوماً ما جزءاً من دولة فلسطين المستقبلية أمراً شبه مستحيل. وتقدر منظمة بتسيلم الاسرائيلية الرائدة في مجال حقوق الانسان وجود 280 ألف يهودي يعيشون في المستوطنات غير القانونية في القدس الشرقية منذ عام 1967.
وفي الوقت نفسه، رفضت إسرائيل الموافقة على أي خططٍ محلية للتقسيم للعرب في القدس الشرقية، مما يضمن تقريباً تجميد الإسكان، بحكم الأمر الواقع، للفلسطينيين. بل إن خطط التقسيم الموافق عليها ضرورية للبناء في منطقةٍ محددة.
إلا أن نمو الأسر الفلسطينية أجبر الكثيرين على بناء غرفٍ إضافية، وطوابق إضافية، بل وفي بعض الأحيان منازل جديدة على أراضيهم ليسكن فيها المتزوجون حديثاً.
ردت إسرائيل على هذا العمران بحملة هدمٍ ازدادت حدتها في السنوات الأخيرة. ففي عام 2016، هدمت إسرائيل، وفقاً للسجلات، 123 منزلاً في القدس الشرقية. كما هُدم 89 منزلاً آخر في الأشهر العشرة الأولى من عام 2017.
وتمثلت إحدى المناورات الحكومية الأخرى بتقليص أعداد الفلسطينيين في المدينة، حيث وافق المسؤولون الإسرائيليون سراً على خطةٍ لخفض أعداد الفلسطينيين إلى ما لا يزيد عن 28% من السكان. فقد وصف وزير السياحة الاسرائيلي الراحل رحبعام زئيفي المناورة بـ”التحول البطيء.” وكان زئيفي قد اغتيل على يد فلسطينيين في العام 2001 خارج غرفته في فندقٍ اسرائيلي بني في القدس الشرقية المحتلة. وتجدر الاشارة إلى أن إسرائيل سحبت وضع الإقامة الدائمة من 230 ألف فلسطيني منذ عام 1967.
وعلى صعيد آخر، خُنقت القدس الشرقية، التي كانت يوماً ما مركزاً للاقتصاد الفلسطيني، ببناء جدار الفصل العنصري الاسرائيلي الذي جعل التنقل بين القدس الشرقية وغيرها من المدن الفلسطينية في الضفة الغربية أمراً غاية في الصعوبة. وعلى الرغم من أن الفلسطينيين من القدس يمكنهم السفر إلى باقي الأراضي المحتلة، إلا أنه لا يُسمح للفلسطينيين من باقي الضفة الغربية بزيارة القدس بحرية، إذ تبرز الحاجة إلى تصريحٍ لدخول المدينة وحتى في حال الحصول عليه، يستغرق عبور الحواجز وقتاً طويلاً ناهيك عن الشعور بالإذلال الذي يتعرض له الفلسطينيون. كما لا يسمح لأي فلسطيني من باقي الأراضي المحتلة باستخدام سيارتهم لدخول القدس.
تُسمى واحدة من المناطق القليلة المتبقية في شرق المدينة والتي لم يتم استعمارها بعد بمنطقة “أي 1،” والتي تقع بين مستوطنة معاليه أدوميم والقدس الشرقية. وقد حدد الفلسطينيون والمجتمع الدولي هذه المنطقة باعتبارها منطقة حيوية لضمان وجود دولةٍ فلسطينية مستقبلية متاخمة. وقد رفضت الولايات المتحدة وغيرها من الدول أعضاء المجتمع الدولي محاولات اسرائيل، بنجاحٍ وبشكلٍ قاطع، استيطان هذه المنطقة حتى الآن، خوفاً من أن تؤدي هذه الخطوة إلى انهاء حل الدولتين.
بيد ان اسرائيل رفضت التراجع، إذ صرح رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في مناسبةٍ سياسية في مستوطنة معاليه ادوميم أن الاف الاسرائيليين سينتقلون قريباً إلى منازل جديدة. وقال خبراء بالخرائط إن الموقع الوحيد الذي يمكن أن يصلح لاستيعاب الآلاف من المستوطنين هو منطقة “أي 1.”
كما اتخذت إسرائيل أيضاً عدداً من الخطوات لتهيئة الظروف لهذه المستوطنة الجديدة، بما في ذلك هدم روضة أطفال تم بناؤها بتمويلٍ من الاتحاد الأوروبي لأبناء السكان البدو الذين يعيشون في المنطقة، الذين يعيش الكثير منهم هناك منذ عام 1948. وفي أوائل نوفمبر، صدرت أوامر بهدم المنازل المؤقتة لسكان جبل البابا ومخيمات بدوية أخرى، مما سيؤثر على منازل نحو 300 فلسطيني.
وفي ذات الوقت ومع هذا الاتجاه باستيطان منطقة “أي 1،” وضع المشرعون الإسرائيليون قانوناً جديداً من شأنه أن يُقسّم سياسياً حدود بلدية القدس إلى جانب ضم إسرائيل أحادي الجانب للقدس. ومن أجل استبعاد مناطق من القدس مثل مخيم شعفاط للاجئين وبلدة كفر عقب، اللتان تقعان خارج حدود جدار الفصل العنصري الاسرائيلي، تريد إسرائيل تطبيق خطة القدس الكبرى. وستضيف الخطة ثلاثة تجمعات استيطانية رئيسية في الضفة الغربية إلى مدينة القدس، مع إستثناء المناطق الفلسطينية الهامة في شعفاط وكفر عقب. ولا تزال الخطة مجرد حبرٍ على ورق ولم تتم الموافقة عليها بعد.
كما أدت محاولة إسرائيلية في عام 2016 لتركيب بوابات إلكترونية عند مدخل المسجد الأقصى المتنازع عليه إلى ردود فعلٍ غاضبة واحتجاجاتٍ متواصلة من قِبل الفلسطينيين، مما أجبر إسرائيل في نهاية المطاف على إعادة النظر بالأمر.
واليوم يبلغ عدد الفلسطينيين في القدس حوالي 300 ألف فلسطيني. فالتاريخ الذي لا يرحم علمهم أن سنواتٍ من الحرب والتمييز تعني أن من يترك أرضه وداره سيعاني الأمرين، إن لم يكن من المستحيل، استعادتهما. وبالتالي تتلخص الاستراتيجية الفلسطينية في الوقت الحالي بالصمود، وتتمثل الفكرة بالآتي: إلى أن يتغير ميزان القوى في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن أفضل ما يمكن أن يفعله الفلسطينيون هو التشبث بأرضهم.