ماجد كيالي
على خلفية انسداد خيار الدولة المستقلة باتت الساحة الفلسطينية، في الداخل والخارج، تشهد نقاشات موسعة بشأن جدوى الاستمرار بهذا الخيار، في واقع تستمر فيه إسرائيل بتعزيز الاحتلال والاستيطان والتهويد ومصادرة الحقوق، وتأكيد ذاتها كدولة يهودية.
وكانت الحركة الوطنية الفلسطينية أمضت 47 عاما من عمرها في تبني خيار الدولة المستقلة إلى جانب إسرائيل (منذ عام 1974). ومضى خمسة عشر عاما على المرحلة الانتقالية للحكم الذاتي، التي تضمنها (اتفاق أوسلو) (1993) ومدتها خمسة أعوام، من دون أن يعرف أحد متى أو كيف ستنتهي.!
الآن ثمة حلقات نقاشية وكتابات، داخل الأرض المحتلة وخارجها، يطرح فيها ضرورة تجاوز هذا الخيار، والانفتاح على خيارات أخرى، كخيار الدولة الواحدة، أكانت على شكل دولة ثنائية القومية أو دولة المواطنين أو دولة ديمقراطية علمانية. وثمة خيارات أخرى تستبطن في هذا النقاش، كخيار الكونفدرالية مع إسرائيل والأردن، أو خيار كونفدرالية ثلاثية (الأردن ـ فلسطين ـ إسرائيل).
وبسبب غياب الهيئات التشريعية ومؤسسات صنع القرار اللازمة لتفحص الخيارات السياسية والتقرير بشأنها، وبسبب المزايدات الفصائلية، وتدني مستوى الديمقراطية وتغليب الروح الشعاراتية في الخطابات السياسية على حساب التفكير العقلاني والواقعي، فإن هكذا مناقشات تتضمن إشكاليات وصعوبات عديدة، أهمها:
1 ـ إن المعضلة الأساسية للساحة الفلسطينية لا تتوقف على خيار بعينه فقط، على أهمية ذلك، وإنما هي ترتبط، أيضا، بالوسائل النضالية المتاحة لتجسيد هذا الخيار أو غيره، وطريقة إدارة الكفاح من أجل الوصول إليه بأقوم وأقصر ما يمكن، بمعنى تقليل الخسائر. فمن الواضح أن الحركة الفلسطينية لم تستطع، خلال أكثر من خمسة عقود، من تحقيق الإنجازات التي تتناسب مع التضحيات الكبيرة التي بذلها الشعب، ليس بسبب موازين القوى والمعطيات المختلة لصالح العدو فقط، وإنما بسبب ضعف البني الذاتية، وضعف إدارة الصراع مع العدو، وتدني القدرة على المزاوجة بين خيارات عدة. فالبني الذاتية والإدارة والوسائل المناسبة تلعب دورا كبيرا في تجسيد أي خيار، بتوسيع الخيارات الضيقة، وتطوير الخيارات الناقصة (بدينامياتها اللاحقة). وتلعب دورا كبيرا في تقليل الخسائر، بأقل تقدير. هكذا لعب العامل الذاتي (البنية والإدارة) دورا كبيرا في إخفاق مختلف الخيارات التي تبناها الفلسطينيون، من المقاومة إلى التسوية، ومن الانتفاضة إلى المفاوضة، ما يفسّر حقيقة أن كلفة نضال الفلسطينيين ومعاناتهم، البشرية والمادية والمعنوية لا تتناسب مع العوائد المرجوّة إن لم تكن على الضدّ منها.!
2 ـ بمعزل عن البعد النظري والرغبات، فمن الناحية العملية يبدو أن ثمة شرعية لكل الخيارات المطروحة من خيار التحرير إلى خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع وصولا للدولة الاتحادية، أو الكونفدرالية الثلاثية، أو ثنائية القومية أو الديمقراطية العلمانية. ففي العمل السياسي، وفي الصراعات الشاملة والمعقدة والممتدة، لا يمكن التعويل على أو الارتهان لخيار بعينه، وإنما ينبغي الانفتاح على جميع الخيارات، على أن توصل إلى النهاية المتوخاة، وهي في الموضوع الفلسطيني تتعلق بتقويض تجلّيات المشروع الصهيوني، باعتباره مشروعا استعماريا واستيطانيا وعنصريا، ذو بعد سياسي وظيفي. بمعنى أن كل الخيارات ينبغي أن تصبّ في هذا الاتجاه، على المدى البعيد، ولو بشكل متدرج.
وبديهي أن ذلك يتطلب عدم المفاضلة بين الخيارات، فالفلسطينيون لا يملكون ترف هكذا مفاضلة، فضلا عن التنازع الداخلي بشأنها، لأن ذلك لن ينتج إلا استمرار الواقع، أي إعادة إنتاج النكبة وترسّخ المشروع الصهيوني بتجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية. ما يعني أنه لا ينبغي وضع هدف الدولة مقابل هدف الدولة الديمقراطية العلمانية، ولا هذين الخيارين مقابل الدولة الثنائية وبالعكس، لأن العامل المقرر هنا لا يتوقف على ما نريده نحن فقط، فهذا الأمر مرهون بموازين القوى وبالمعطيات الدولية، وبما يحدث في جبهة العدو الداخلية. ومن الواضح أنه من دون انقلاب في وعي الإسرائيليين ومن دون تغير ملموس، لصالح العرب، في موازين القوى، ومن دون تغير وضع العرب أنفسهم فإن الباب سيبقى مسدودا أمام كل الحلول طوباوية كانت أو أقل طوباوية. وإذا كان الهدف تقويض الصهيونية بمؤسساتها وتجلياتها فإن الوصول لهذا الهدف البعيد يحتاج لتدرجات وتوسطات، تمهد أو تقود إليه.
3ـ لا توجد أطروحة بين الأطروحات المتداولة (دولة ديمقراطية أو كونفدرالية أو دولة ثنائية أو دولتين لشعبين) لا تتضمن حلا مجحفا بحق الفلسطينيين، لاسيما وأنها كلها تنطلق من وجود إسرائيل ووجود جماعة قومية إسرائيلية، لذا تبدو المفاضلة بين هذه الأطروحات نسبية، وخاضعة لمعطيات ومتطلبات كل مرحلة، فالوضع يتعلق بالبحث عن عدالة نسبية وليس عن عدالة مطلقة. كما أن المسألة لا تتعلق بقرار ينهي الصراع إذ أن حل المسائل التاريخية لا ينتهي بقرارات واتفاقيات، فصراع على هذه الشاكلة يمكن أن يأخذ أشكالا متغيرة، ليست بالضرورة عنفيّة أو استئصالية، لذلك ليس ثمة شيء اسمه نهاية الصراع هنا.
4 ـ إن أي خيار فلسطيني، على الصعيد المستقبلي سيظل مرتهنا لمجمل المسارات والتطورات والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، وبالتالي بمستقبل التشكيلات والنظم السياسية القائمة أو القادمة. بمعنى إن مصير أي خيار سيرتبط بمسارات الانفصال وبالأحرى الاندماج السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المنطقة العربية، وبالخصوص في بلاد الشام والرافدين. مثلا من الصعب توقع استمرار الدولة الإسرائيلية أو المجتمع الإسرائيلي في جزيرة معزولة أو في غيتو في المنطقة، وكذا وجود مجرد دولة للفلسطينيين في الضفة والقطاع. فالتطورات الاقتصادية ومسارات العولمة والاندماج الاقتصادي تدفع باتجاه تكتلات أكبر ومنطقتنا لن تكون خارج هذه العملية على الأغلب. لكن هذا الأمر لا ينبغي أن يترك للفوضى والعفوية لأن ذلك قد يقود لمسارات معاكسة وسلبية، بمعنى أن الانفتاح على هذه الرؤية يفترض السيطرة على التطورات في المنطقة وتوجيهها نحو الاتجاهات الإيجابية. على ذلك فإن تعقيدات الوضع الفلسطيني تفترض إيجاد معادلات سياسية جديدة، ومبتكرة، لشق مختلف الطرق نحو الهدف المتمثل بتقويض المشروع الصهيوني، بتعبيراته الإيدلوجية العنصرية وبمظاهره العدوانية، وصولا لحل المسألتين الفلسطينية والإسرائيلية اللتين أوجدهما هذا المشروع في المنطقة.
ملاحظة
الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.