بمرور السنوات، باتت السلطة الفلسطينية أداة تحتاجها إسرائيل بشدّة لكبح التطلعات الوطنية الفلسطينية.
ماجد كيالي
أكد بنيامين نتنياهو مجددا إصرار إسرائيل على “كبح تطلعات الفلسطينيين لدولة مستقلة”. لكنه في الوقت نفسه، أكد “حاجة إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية”، بقوله: “نحن لا نريدها أن تنهار. نحن على استعداد لمساعدتها من الناحية الاقتصادية. لدينا مصلحة بأن تواصل السلطة عملها…إنها تقوم بالعمل نيابة عنا”.
رفض إسرائيل قيام دولة فلسطينية يكشف الوهم الذي سارت فيه القيادة الفلسطينية بعقدها اتفاق أوسلو. وهنا، لا تساؤلات لدينا نطرحها على هذه القيادة. لكن ما نتساءل حوله هو تصريح نتنياهو المتعلق بحرصه على عدم ترك السلطة الفلسطينية تنهار، وقوله إنها تعمل بالنيابة عن إسرائيل. التساؤل بطبيعة الحال يفرض نفسه لأن السلطة باتت حاجة إسرائيلية، حتى ولو سميت دولة. فهذه السلطة تقوم بأدوار تبدو فيها كوكيلة عن إسرائيل في السيطرة على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، بصورة مباشرة وغير مباشرة.
وفي الواقع، فقد أكدت تجربة العقود الثلاثة الماضية، وهو عمر السلطة الفلسطينية، أن فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، هي مجرد فكرة متخيّلة، أو كناية عن وهم، أو مغامرة غير محسوبة لدى القيادة الفلسطينية. وللأسف، فقد روّج لهذه الفكرة مثقفون فلسطينيون دون أن تكون فكرة الدولة متضمنة أصلا في نص اتفاق أوسلو.
تلك التجربة أكدت أن إسرائيل ليس لديها ما تقدمه للفلسطينيين سوى كيان بمرتبة حكم ذاتي محدود. وفي هذا الوضع، ستواصل إسرائيل التمتع بالهيمنة على الفلسطينيين من النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية والإدارية. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل أنه ينسحب على فرص الاستثمار في السلطة الفلسطينية.
وباختصار، فإن اتفاقات التنسيق الأمني الملحقة باتفاق أوسلو خلقت لإحكام السيطرة على فلسطينيي الأراضي المحتلة. وللمفارقة، فقد تملّصت إسرائيل من كلّ الاستحقاقات المطلوبة منها في اتفاق أوسلو منذ زمن طويل، وتمسكت فقط باتفاقات التنسيق الأمني.
من جهتها، فإن القيادة الفلسطينية فهمت الرؤية الإسرائيلية وعملت على أساسها، سيما في عهد الرئيس محمود عباس. والدليل على ذلك طيّ قرارات المجلسين الوطني والمركزي الفلسطينيين المتعلقة بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل. ورغم صدور العديد من القرارات منذ عام 2015 في هذا الخصوص عن هاتين الهيئتين اللتين تعتبران أعلى هيئتين تشريعيتين فلسطينيتين، فإن هذه القرارات بقيت حبيسة أدراج القيادة الفلسطينية.
وفي نفس السياق، ظلّت إسرائيل تعمل بلا كلل على تعزيز وتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية، لاسيما في القدس. كما أنها أقامت الجدار الفاصل والجسور والأنفاق لحصر الفلسطينيين في معازل متناثرة.
على ذلك، فإن مشكلة الفلسطينيين تكمن في أنّ قيادتهم ظلت ترفض الاعتراف بإخفاق خيارها المتمثل باتفاق أوسلو. ويزداد الطين بلّة عندما نعلم أنّ السياسات التي انتهجتها كسلطة أسهمت في تفكيك وحدة الشعب والأرض والقضية الفلسطينية. كما أن هذه السياسات همّشت منظمة التحرير، باعتبارها الكيان المعنوي الجامع للفلسطينيين.
وفوق كلّ ذلك، فقد أضعفت سياسات السلطة المجتمع المدني الفلسطيني في الداخل. وللمعلومية، فإن هذا المجتمع المدني كان قبل إقامة السلطة أكثر وحدة وتحرراً وجرأة في صراعه ضد إسرائيل، منه بعد إقامتها.
في المحصلة، بات فلسطينيو الأراضي المحتلة في مواجهة ثلاث سلطات. وتعتبر إسرائيل أولى هذه السلطات، وهي السلطة العليا بين النهر والبحر، من كل النواحي. أما السلطة الثانية فهي سلطة المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية. وتجدر الإشارة إلى تنامي هذه السلطة وأخذها لأشكالٍ نظامية وقانونية مؤخّرا، لا سيما مع تنامي مكانة اليمين القومي والديني في التحكم بسياسات إسرائيل وسياساتها الاستيطانية.
وتعتبر السلطة الفلسطينية السلطة الثالثة التي يواجهها فلسطينيو الأراضي المحتلة. وهذه السلطة مجرد سلطة على شعبها فقط، وليس لها سيادة على الأرض، ولا على المعابر. كما أن هذه السلطة لا تستطيع فعل شيء، لا برغبتها ولا بإمكانياتها، لحماية شعبها من اعتداءات الجيش الإسرائيلي وقطعان المستوطنين. ويظهر هذا العجز في الاعتداءات التي حصلت بصورة متكررة في القدس ونابلس وجنين ورام الله وحوارة وترمسعيا. وللمعلومية، فإن هذا العجز وسع من الفجوة بين هذه السلطة وشعبها.
السلطة الفلسطينية مرّ على تشكيلها ثلاثة عقود من الزمن، ضمنها عقدان تقريبا في ظل قيادة الرئيس محمود عباس، كرئيس للمنظمة والسلطة وحركة فتح. ورغم انكشاف موقف إسرائيل، وسدها الفرص أمام خيار الدولة الفلسطينية المستقلة، فإن القيادة الفلسطينية لم تفعل ما يفترض أن تفعله لتعزيز قوة وفاعلية المجتمع المدني الفلسطيني، وتأمين مقومات صموده. كما أنها لم تطوّر الكيانات والمؤسسات الوطنية الفلسطينية الجامعة أو تعيدها للحياة على أسس وطنية ومؤسسة وديمقراطية.
القيادة الفلسطينية لم تفعل شيئا لمراجعة أسباب إخفاق خياراتها السياسية، والتحول نحو طرح خيارات بديلة أو موازية، بدل التشبّث بخيار واحد هو خيار إقامة دولة مستقلة. وللعلم، فإن القيادة الفلسطينية لا تمتلك إمكانيات هذا الخيار أو غيره. وبات واضحاً أن خيار الدولة المستقلة الذي جرى اعتماده وفق اتفاق أوسلو أضرّ برؤية الشعب الفلسطيني لذاته، ولوحدته كشعب. كما أنه شوّش على طبيعة قضيته وشكل نضاله من أجل حقوقه.
قبل عامين، بدا أنّ ثمة ضوءاً في نهاية النفق مع إقرار إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، مع احتمال تنظيم انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني. ومع أنّ هذه الانتخابات لن تحل الأزمة الوطنية الفلسطينية، كونها أزمة بنى وخيارات وخطابات مستهلكة، إلا أنها كان يمكن أن تمهّد لخلق واقع يمكّن الفلسطينيين من تجديد حركتهم الوطنية. وللأسف، فإن التطلعات المترتبة على إجراء الانتخابات غابت عندما قرّر الرئيس الفلسطيني تأجيلها.
ومع ذلك، يواصل الشعب الفلسطيني كفاحه في ظروف صعبة ومعقدة وغير مواتية. وما زال هذا الشعب متشبثاً بأرضه وحقوقه. كما أن هناك أفراداً مستقلين، من نشطاء مبادرين، في كل الحقول، يحاولون كسر هذا الواقع، وإفهام إسرائيل أن ثمة ثمناً للاحتلال.
ورغم أن هذه المبادرات محصورة بأفق محدود وخرجت في ظل معطيات غير مواتية، إلا أنها محاولاتٌ جريئة لملء الفراغ وكسر التكلس السياسي المريع السائد في الساحة الفلسطينية منذ سنوات. ولعل هذا الوضع هو ما حاولت إسرائيل وأده في هجماتها الوحشية الأخيرة على مخيم جنين.
ملاحظة
الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.