وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

العلاقات التركية الأمريكية: قضية خاسرة؟

Turkey-Recep Tayyip Erdogan
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان يحضران حفل تسليم المقر الجديد لحلف شمال الأطلسي (منظمة حلف شمال الأطلسي) في بروكسل ، 25 مايو ، 2017. Photo AFP

على الرغم من عقودٍ من التحالفات منذ الحرب الباردة والحروب التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إلا أن العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية وصلت إلى الحضيض، مما يضر بالصورة العامة للبلدين.

فلم تكن العلاقات يوماً بين أنقرة وواشنطن خاليةً تماماً من التوتر. وعلى الرغم من أن كلاهما أعضاءٌ في حلف الناتو، إلا أن مشاعر الإمبريالية ومعاداة الأمريكيين كانت شائعةً بين الأتراك خلال الحرب الباردة. وأثناء ستينيات القرن الماضي، تعرض البحارة الأمريكيون من السفن البحرية التي رست في اسطنبول للهجوم في الشوارع، وهو اتجاهٌ كررته بعض الجماعات القومية في السنوات الأخيرة.

غير أن العلاقات الرسمية كانت تؤيد على نحوٍ تقليدي إرساء علاقاتٍ بين البلدين، إذ نادراً ما تصادمت مواقف تركيا العالمية بمواقف الولايات المتحدة، مثل تعزيز العلاقات الدافئة مع إسرائيل (حتى عام 2010)، ومعارضة النفوذ الروسي، وإرسال القوات إلى كوريا الجنوبية، والانضمام إلى التحالف الدولي في أفغانستان. كما دعمت القاعدة الجوية في انجرليك الحملات الجوية الجارية في الشرق الأوسط، وبغض النظر عن رفض أنقرة تأييد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، إلا أن الدولتان لطالما حافظتا على علاقاتٍ ودية.

تآكلت العلاقات مع تراجع سجل تركيا في مجال حقوق الإنسان. ففي يوليو 2016، اعترضت إدارة أوباما على قبضة الرئيس رجب طيب أردوغان المُحكمة بشكلٍ متزايد على الديمقراطية، وسيادة القانون وحرية التعبير بعد الانقلاب العسكري الفاشل في نفس الشهر وحملة التطهير اللاحقة، التي تم بموجبها القبض على مواطنين أمريكيين.

الأرقام متباينة، إلا أنه وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، يوجد ما يصل إلى 12 مواطن أمريكي في السجون التركية، من بينهم القس المسيحى اندرو برونسون، الذي حُكم عليه بالسجن لعام بسبب تهمٍ تتعلق بالإرهاب، والعالم في ناسا سركان غولجي، المتهم بارتباطه بعلاقاتٍ مع رجل الدين التركي المنفي، فتح الله غولن، الذي يُتهم بكونه العقل المدبر لمحاولة الانقلاب من منزله في ولاية بنسلفانيا. كما استهدفت السلطات أيضاً الموظفين الأتراك العاملين في السفارة الأمريكية، فقد تم اعتقال أحد المترجمين في وقتٍ سابقٍ هذا العام، وفي أكتوبر تم احتجاز أحد الموظفين العاملين في إدارة مكافحة المخدرات.

فقد كان اعتقال برونسون موضع خلافٍ على وجه الخصوص، سيما عندما اقترح أردوغان في سبتمبر الماضي إمكانية مبادلة برونسون بغولن. إلا أن مذكرة الاعتقال التي صدرت بحق ضابط الاتصال الذي خدم لفترةٍ طويلة في القنصلية الأمريكية في اسطنبول كانت القشة التي قسمت ظهر البعير. وعليه، أغلقت الولايات المتحدة خدماتها أمام العامة وجمدت جميع خدمات تأشيراتها لغير المهاجرين أمام الأتراك. ردت تركيا بالمثل، حيث أصدرت خطاباً كرر بشكلٍ حرفيّ تقريباً الإعلان الأمريكي ومنعت الأمريكيين من الحصول على تأشيرة دخول للبلاد بمجرد وصولهم إلى تركيا.

ألقى أردوغان باللوم على السفير الأمريكي لدى تركيا، جون باس، لتحريضه على الواقعة وقال إنه لم يعد يعترف به كممثلٍ للولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك، تراجعت الحكومة التركية في وقتٍ لاحق ودعت السفير لمحادثاتٍ رسمية.

وعلاوة على ذلك، كان لأزمة التأشيرات ثغرات، إذ لا يزال بإمكان الأتراك الحصول على تأشيرةٍ لدخول الولايات المتحدة من خارج تركيا، ويبدو أن بإمكان المواطنين الأمريكيين دخول تركيا طالما لم يسافروا مباشرةً من الولايات المتحدة الأمريكية. فخلف الكواليس، ينطبق على الأزمة قول “أسمع جعجعةً ولا أرى طِحناً.”

ومع ذلك، يكمن جوهر هذا الخصام في النظرة التركية للمعايير المزدوجة الأمريكية فيما يخص هذه القضايا. فقد صاغ أردوغان، مراراً وتكراراً، محاكمة جميع أولئك المعتقلين بتهمٍ تتعلق بالإرهاب باعتبارها مجرد سيادة للقانون. كما أغضبته الطلبات الأمريكية بالتدخل في الاجراءات التي يتم اتخاذها ضد هؤلاء الأمريكيين، في حين رفضت واشنطن تلبية الطلب التركي بتسليم غولن. وإلى جانب ذلك، هاجم علناً النداءات الامريكية بإعادة النظر فى محاكمة المواطنين مزدوجي الجنسية، الذين تعتقد واشنطن انهم اتهموا بشكلٍ غير عادل، مشيراً الى أن تركيا ليست مجبرةً على طلب الإذن لمحاكمة مواطنيها. ويقول مسؤولون أمريكيون إن الافتقار إلى وجود أدلة منعهم من التصرف بحرية في التحقيق بقضية غولن، مما يمنع رفع قضيةٍ ضده وبالتالي، تعطيل عودة الدفء إلى العلاقات. ومع وجود مثل هذا الاختلاف بين البلدين حول تعريفهما لسيادة القانون، تبقى العلاقات بينهما غير ودية.

وعلاوةً على ذلك، هاجم حرس أردوغان حشداً من المتظاهرين خلال زيارته الرسمية لواشنطن، الأمر الذي حصل على ما يبدو بعد التشاور مع الرئيس. ونتيجةً لذلك، أصيب تسعة أشخاص، وبعد مطالباتٍ برد فعلٍ من المشرعين الأمريكيين، أصدر المدعون العامون الأمريكيون أوامر توقيف بحق 12 من حرس أمن أردوغان، مما أثار رد فعلٍ غاضبٍ من قِبله.

وفي أعقاب الحادث، جمدت الولايات المتحدة الأمريكية صفقة بيع مسدساتٍ لقوات الحرس الرئاسي التركي بقيمة 1,2 مليون دولار. ردت الحكومة التركية بالقول إنه سيتم تزويدهم بالأسلحة من صناعة الأسلحة المحلية المتنامية في البلاد. اندلع العنف مجدداً، وهذه المرة من قِبل حرس أردوغان الشخصيين، أثناء إلقاءه خطاباً في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي أمريكا، تم تفسير هذا باعتباره تعبيراً جسدياً وغير إعتذاري لتنمر أردوغان وسياساته العنيفة.

ويبدو أن الأيام التي كان يُنظر فيها إلى تركيا باعتبارها شريكاً موثوقاً يُعتمد عليه في الشرق الأوسط باتت معدودة. وعلاوة على ذلك، مع شراء تركيا لصورايخ روسية مضادة للطائرات من طراز إس- 400، وهو نظامٌ للأسلحة يتعارض مع شركائها في حلف الناتو، أرسلت تركيا إشاراتٍ بأن القيود التي فُرضت عليها لبناء شراكاتٍ خارج قاعدة حلفائها التقليديين، باتت من الماضي. حتى أن وكالة الأنباء الرسمية التركية نشرت رسماً تصويرياً على موقع تويتر، في أعقاب الصفقة، يُظهر حرفياً استهداف الطائرات الأمريكية، وتعداد جميع الطائرات الأمريكية التي يمكن لمنظومة الصواريخ إسقاطها.

من جهتهم، استخدم الأمريكيون أيضاً عضلاتهم العسكرية، بشكلٍ غير مباشر، للضغط على الأتراك. ففي الشهر الماضى، منعت واشنطن باكستان من إرسال مدربين لطائرات اف -16 الامريكية الصنع إلى تركيا، حيث ادت عملية التطهير التي تلت محاولة الانقلاب التي وقعت العام الماضي الى تعريض قدرة القوات الجوية التركية، على المدى القصير، للخطر.

وبالرغم مما ذكر آنفاً، إلا أن الأخبار لم تكن سيئةً بالمجمل، فقد اتسمت العلاقات المتدهورة بين البلدين بلحظاتٍ عرضية من الدفء الدبلوماسي. ففي أعقاب زيارة وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس في أغسطس 2017، أفاد الجانبان أنهما أجريا حواراً بنّاءً خالٍ من القضايا التي عرقلت العلاقات الثنائية في العام الماضي.

كما تجنبت الولايات المتحدة أيضاً الأضرار التي لحقت بالعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي. فبعد رفض تركيا السماح بزيارة برلمانيين ألمان إلى قاعدة انجرليك الجوية، سحبت المانيا طائراتها وافرادها العسكريين من القاعدة، التي تعدّ نقطة انطلاق رئيسية للحملة ضد تنظيم الدولة الاسلامية. ومع ذلك، لا تزال الطائرات الامريكية متمركزةً في القاعدة.

كما حرصت الولايات المتحدة على تهدئة المخاوف التركية، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الامريكية مع الاكراد، مما قد يؤثر على العمليات العسكرية التى تقوم بها واشنطن في المنطقة. فقد وعدت الولايات المتحدة أنقرة بالشفافية حول توفيرها للأسلحة والدعم للميليشيات الكردية في سوريا، حتى أنها وافقت على استعادة الأسلحة من الأكراد بمجرد الانتهاء من الحملة ضد داعش. بيد أن البنتاغون لم يعطِ أي اشارة حول كيفية نزع السلاح من الجماعة المسلحة فى سوريا.

فتركيا، التي لطالما كانت تخشى التحركات الكردية نحو الاستقلال سواء بالقرب من أو داخل حدودها، أبدت غضبها من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين الآخرين لتسليحهم وحدات حماية الشعب الكردية وقوات سوريا الديمقراطية، الكردية أساساً. فوحدات حماية الشعب الكردية متحالفة مع حزب العمال الكردستاني، المُدرج على قائمة المنظمات الإرهابية من قِبل معظم الدول الغربية. كانت هذه الشراكة ضروريةً على وجه الخصوص، إلا أن رفض الولايات المتحدة قبول الخطة المدعومة من قِبل تركيا لاستعادة مدينة الرقة السورية من أيدي تنظيم الدولة “داعش” (الذي كان سيستغرق عدة أشهرٍ أخرى)، كان بمثابة الصفعة في وجه أنقرة. والأهم من ذلك، تعتقد تركيا أن الأسلحة الأمريكية المتطورة التي قُدمت للأكراد في سوريا ستجد طريقها إلى تركيا، مما سيعرض حياة القوات التركية للخطر. وبالنظر إلى تبجج بعض الجماعات الكردية بعلاقاتهم مع حزب العمال الكردستاني، لا تبدو هذه المخاوف عاريةً عن الصحة.

وعندما قام مقاتلون أكراد بتحرير الرقة في أواخر أكتوبر 2017، حمل بعضهم لافتةً كبيرة تحمل صورة الزعيم الأيديولوجي لحزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، الموجود حالياً في سجن تركي، في الساحة الرئيسية في الرقة. وعليه، بذل القادة الأتراك كل جهدٍ يُذكر لإلقاء اللوم على الولايات المتحدة فيما يتعلق بالتهديد الذي يشكله تنامي القوة العسكرية الكردية. وفي 20 أكتوبر، قال أردوغان، رداً على رفع صورة أوجلان، إن الحادث “يضر بشدة” بالعلاقات الأمريكية التركية.

وبينما لا تلوح في الأفق أي مؤشراتٍ على قرب انتهاء أزمة التأشيرات أو حتى استعداد أي من الطرفين التوصل إلى حلٍ بشأن القضايا العالقة، بدءاً من القضايا الجنائية وصولاً إلى دعم الأكراد، تدخل العلاقات التركية الأمريكية عالم المجهول.