أتى الربيع العربي بآمال كثيرة للمنطقة العربية ومن بينها وصول الشباب إلى السلطة وإمكانية انتخاب القادة بحرية وإخضاعهم للمساءلة. في تونس وليبيا ومصر ما قبل السيسي، وعلى الرغم من استمرار تهميش الشباب واقتصار دورهم على المجتمع المدني والإعلام الاجتماعي، تم تنظيم الانتخابات الحرة وتسلم ممثلو الشعب زمام الحكم. مع ذلك، لم يطَل مد الربيع العربي المنطقة كلها وشهدت بعض البلدان صدمة عكسية.
تستعد سوريا لإجراء انتخابات رئاسية في 3 حزيران/يونيو من العام 2014 غير أن الرئيس بشار الأسد سيكون الرابح المعتاد. وفي مصر، ترشح المشير عبد الفتاح السيسي للانتخابات الرئاسية المصرية التي ستُجرى في 26 و27 أيار/مايو وهو سيُنتخب رئيساً من دون أدنى شك. وفي الجزائر، توجه الناخبون إلى صناديق الاقتراع في 17 نيسان/أبريل وكالمعتاد مددوا ولاية رئيسهم المسن والمريض.
أُعيد انتخاب عبد العزيز بوتفليقة (77 عاماً) وحاز على 81.5% من الأصوات مقابل 12% لمنافسه الرئيسي علي بن فليس. كانت المشاركة ضعيفة ولم تتخطَّ 51.7% خصوصاً في العاصمة وفي المنطقة البربرية حيث بلغ معدل التصويت 1 إلى 4 أشخاص.
في صباح اليوم الانتخابي، وصل الرئيس إلى مركز الاقتراع على كرسي متحرك يجره أحد مساعديه ويرافقه إلى اليسار أخوه سعيد المتمتع بنفوذ كبير. أدلى الرئيس بصوته وعلى وجهه ابتسامة حاول بها إخفاء عجزه. لم يتحدث الرئيس لا إلى أتباعه ولا إلى المسؤولين في المركز ولم يتوجه إلى الصحافة. وكان ذلك ظهوره الأول منذ تعافيه من السكتة الدماغية التي أصابته في نيسان/أبريل من العام 2013.
عهد بوتفليقة
و”بوتف” يعد مجاهدا فقد شارك في حرب استقلال الجزائر عن فرنسا (1954-1962)، كما أنه فرد من المجموعة التي انقلبت على الرئيس الأول للبلاد أحمد بن بلة (في العام 1965). تسلم بوتفليقة حقيبة الخارجية الجزائرية وكان من أهم وزراء الخارجية العرب وتمكن من بناء علاقات صلبة مع مانديلا وعرفات وكارلوس الثعلب وآخرين. ومع توليه سدة الرئاسة في العام 1999، كانت البلاد لا تزال غارقة في الإرهاب ويعود له الفضل الأكبر في وضع حد للحرب الأهلية الجزائرية (1991-2002). وتعرض بوتفليقة للعديد من السكتات الدماغية في السنوات الأخيرة وفُقد الأمل مراراً بعودته إلى الحياة.
في عام 1994، عدّل الرئيس اليامين زروال الدستور من اجل حظرالتمديد للرؤساء لأكثر من ولايتين؛ ولكن بوتفليقة أعاد تعديله في العام 2008 وألغى هذا البند وهو الآن في ولايته الرابعة بعد فوزه على خمسة مرشحين. وقد تولت الحكومة تنظيم هذه الانتخابات التي اعتبرها المراقبون المحليون والدوليون غير عادلة، على خلاف تونس وليبيا حيث تم تشكيل هيئة مستقلة عُنيت بالتنظيم.
وكان قد وجه بوتفليقه خطابه الاخير قبل عامين واعلن مدراء حملته بأنهم سيقومون بحملته بدلاً عنه، وهو ما حصل بالفعل. وقاد حملة بوتفليقة رئيس وزرائه السابق عبد المالك سلال الذي ترك المدرسة قبل التخرج والمعروف بلغته العنيفة وسلوكه غير الحسن، أما مؤيدوه الأساسيون فهم رئيس أركان الجيش، ورئيسا جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي (الحزبان اللذان يؤلفان أكثرية أعضاء المجلس النيابي)، أحمد قايد صلاح وعمار سعيداني وعبد القادر بن صلاح، بالإضافة إلى أحمد أويحي وهو نائب سابق (1995-8؛ 2008-12) والرئيس السابق للتجمع الوطني الديمقراطي (1999-2012)، والمستشار الخاص الحالي لبوتفليقة؛ عبد العزيز بلخادم وهو نائب سابق (2006-8) ورئيس سابق لجبهة التحرير الوطني (2005-13)؛ ولويزة حنون (التي تولت لفترة طويلة الأمانة العامة لحزب العمال وهي من المروجين لنظرية المؤامرة الخارجية على الجزائر والتي تحولت من معارضة شرسة لبوتفليقة إلى مناصرة له)؛ ناهيك عن شبكة قوية من حكام الأقليات.
عارض توفيق محمد مدين (المعروف بالاه الجزائر) وهو رئيس مديرية الاستعلام و الأمن المتمتع بنفوذ واسع، في بادئ الأمر ترشيح بوتفليقة، إلا أنه عاد عن موقفه.
وتدير جماعة بوتفليقة التلفزيون الوطني (وهو الأكثر شعبية في الجزائر) والعديد من وسائل الإعلام الأخرى كما أنها تتحكم بأجهزة الدولة كافةً.
لم تكن الانتخابات الجزائرية يوماً عادلة وشفافة فالتلاعب تحت الطاولة شائع جداً والجيش هو صانع الرؤساء. كان بوتفليقة قبل ما أصابه من سكتات دماغية قادراً على كف يد الجيش في بعض الأحيان ومنح السياسين وحكام الأقليات بعض الصلاحيات، إلا أن الكلمة الأخيرة تبقى للأوساط العسكرية (والمخابرات هي جزء من الجيش).
زاد مرض بوتفليقة من صعوبة الوضع وعلى ما يبدو أن الرأس المخطط هو شقيقه، سعيد، الذي له الكثير من العلاقات في مجال الأعمال كما تربطه علاقات قوية مع الخارج.
يشار إلى أن العلاقة بين سعيد وتوفيق محمد مدين سيئة ويعتقد الكثيرون بأن سعيد هو من دفع برئيس جبهة التحرير الوطني، عمار سعيداني، إلى شن هجوم إعلامي على رئيس مديرية الاستعلام والأمن وإلى المطالبة باستقالته، فتحول إلى كبش فداء: فبعد أيام قليلة على تعليقاته، أصدر بوتفليقة (أو المتحدثون باسمه) بياناً يدين فيه أي نوع من الهجوم على الجيش وتم التوصل إلى تسوية.
وللتهدئة من روع توفيق، وافقت جماعة بوتفليقة على إدخال قوة مضادة إلى القصر الرئاسي تمثلت في شخص أحمد أويحي. وهذا الأخير هو في حماية مديرية الاستعلام والأمن ولديه العديد من الصلاحيات، وهو يتولى بصفته مستشاراً شخصياً لبوتفليقة، إدارة الشؤون الرئاسية جميعها وخصوصاً ما يتعلق بسعيد. وقد يكون الأويحي في صدد التخطيط لخلق منصب نائب الرئيس فيتولاه هو لاحقاً.
وفي ولاياته الثلاث، منح بوتفليقة الجيش وحكام الأقليات في الجزائر امتيازات اقتصادية وسياسية عديدة. ويرى هؤلاء بقاءه في السلطة استمراراً لنفوذهم. أما الأشخاص من أمثال سعيد وأويحي، فلديهم مكاسب شخصية إضافية أي أنهم يتمتعون بكم أكبر من النفوذ والثراء. ويعتبر آخرون، كحنون مثلاً، بوتفليقة حارساً ضد المؤامرات الخارجية التي تحاك ضد الجزائر وضد تولي الإسلاميين الحكم. وتوافق تلاقي المصالح هذا على إبقاء الرجل العجوز في السلطة على الرغم من كل شيء.
الحملة الإنتخابية
انضم نائب سابق آخر إلى السباق الرئاسي, وهو علي بن فليس (2000-2003), وقد تمتع بن فليس بدعم بعض المجموعات الشابة بالإضافة إلى عدد من الأحزاب الإسلامية ولكنه كان يعلم بأنه عاجز عن التنافس مع بوتفليقة كما أنه لا يتمتع بالإمكانيات المالية نفسها؛ غير أنه رجل يتمتع بنفوذ واسع ليُسمع صوته، وكان قد بدأ يدين الغش قبل افتتاح صناديق الاقتراع.
لم يكن بن فليس الوحيد الذي انتقد النظام السياسي، فقد تم إنشاء حركة احتجاجية عُرفت باسم “بركات” (كفى!). ووجه المعارضون الآخرون لبوتفليقة انتقادات قاسية، فوسائل التواصل الاجتماعي غصت بالنكات التي استهدفته شخصياً والمقربين منه. أتت التعليقات من داخل النظام أيضاً، لذا حض الرئيس السابق زروال على تداول السلطة في رسالة وجهها إلى الشعب الجزائري. وأعرب النائب السابق مولود حمروش ( 1989-1991) عن استنكاره متهماً بوتفليقة والجيش بالإساءة إلى البلاد.
وأتت انتخابات العام 2014 في الجزائر في ظل اضطرابات إثنية دموية شهدتها وسط البلاد (غرداية)، واعتبرها النظام مؤامرة غربية. إشارة إلى أن الحدود مع مالي تشهد بداية صراع قبلي. وما الحرب في مالي وانقطاع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب والحرب شبه الأهلية في ليبيا التي يضاف إليها اضطراب الوضع في تونس إلا عوامل تسهم في مفاقمة الوضع. يشار في هذا السياق إلى الخطر الدائم الذي يطرحه الإرهاب، فالقاعدة والمجموعات التابعة لها ما زالت تستعمل الأراضي الجزائرية كقاعدة. كذلك، فالبطالة والفساد يثيران حفيظة الشباب، كما هو الحال في البلدان العربية الأخرى، والربيع العربي لن يلبث أن يحل.
قد ترشح بوتفليقة للرئاسة رغماً عن إرادة شريحة كبيرة من الجزائريين وبدعم من عصابة من النافذين.
و بات بوتفليقة الآن الرئيس الأطول حكماً في التاريخ الجزائري، الذي فاز في انتخابات العام 2014 ليقود بلاده إلى المجهول.