جلب استقلال الجزائر في 5 تموز/يوليو عام 1962 معه آمالاً كبيرة بين السكان بمستقبل أفضل، كما ظهرت انقسامات سياسية في صفوف المجموعات والفئات التي شكّلت حركة الاستقلال. وسعت جبهة التحرير الوطني إلى تصفية الحسابات مع الحركيين، الجزائريين الذين خدموا في الجيش الفرنسي وكانوا يعتبرون خونة؛ تم قتل حوالي 30,000 شخص منهم على الأقل. أصبحت جبهة التحرير الوطني، التي “احتكرت” حركة الاستقلال ودمجت كافة المجموعات الأخرى، محط أنظار الخصوم السياسيين.
وكادت الحكومة المؤقتة التي كانت تسعى إلى السلطة في مدينة الجزائر تتصادم مع جيش التحرير الوطني الجزائري، الجناح العسكري لجبهة التحرير الوطني، ومقره تونس والمغرب. هيمن جيش التحرير الوطني الجزائري، بقيادة الكولونيل هواري بومدين، ودعم أحمد بن بلة، أحد أبرز قادة جبهة التحرير الوطني، في سعيه ليصبح أول رئيس الجمهورية لدولة الجزائر المستقلة. اعتمد بن بلة مساراً اشتراكياً للبلاد وبدأ بإعادة إعمار الجزائر في هذا الاتجاه. ولم يؤدّ ذلك إلى إنهاء الاضطراب السياسي، حيث ثبت أن بن بلة غير قادر على السيطرة.
عام 1963، اندلعت ثورة في منطقة القبائل بزعامة حسين آيت أحمد، أحد القادة “التاريخيين” لجبهة التحرير الوطني. وما زاد الطين بلّة عام ذاته الأعمال القتالية مع القوات المغربية حول أجزاء متنازع عليها عند الحدود الغربية.
في حزيران/ يونيو عام 1965، قام بومدين، الذي أصبح وزيراً للدفاع، بخلع بن بلة في انقلاب غير دموي. وبهدف وضع حد للتنافس السياسي ومنع المعارضة، قام الزعيم الجديد بتقييد الحياة السياسية واعتماد حزب جبهة التحرير الوطني كحزب للدولة. سعى بومدين إلى حكم البلاد بمساعدة أقرب المقربين إليه، والذين عمل معهم في مدينة وجدة الواقعة عند الحدود المغربية أثناء حرب الاستقلال. كان بومدين ينوي إعادة بناء مؤسسات الدولة وإنعاش الاقتصاد المتضرر بالحرب وتعزيز مكانة الجزائر على الساحة الدولية. جاءت هذه الطموحات بالتزامن مع استثمار الموارد الطبيعية في البلاد. وسعى بومدين إلى زيادة دخل نفط الجزائر واستخدامه لتطوير البلاد، باعتبار الجزائر إحدى القوى الدافعة وراء منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك).
عام 1971، قام بتأميم مصالح شركات النفط الأجنبية. كما أسس شركات حكومية أخرى حققت نمواً أيضاً. كما أطلق برنامج تصنيع طوحاً لخلق دولة رفاهية للوفاء بوعود حركة الاستقلال. وفي الوقت ذاته، كان يتوجب عليه إعادة بناء مؤسسات الدولة، بدءً من المجالس المحلية والإقليمية. كما سعى إلى إعادة إحياء الحياة السياسية من خلال إطلاق ثورة زراعية تم فيها تشجيع الطلاب على التطوع للعمل في المناطق الريفية. لكن على غرار الإدارة الذاتية الأولى للعمال ضمن مؤسسات الدولة، سرعان ما اصطدمت قاعدة الحركة “الثورية” بقيود حكم مركزي سهّلت لظهوره إيرادات النفط المتنامية.
عندما توفي بومدين بشكل مفاجئ في نهاية عام 1978، كانت الجزائر دولة مزدهرة ظاهرياً. وكانت المجمعات البتروكيميائية الكبرى ومصانع الغاز الطبيعية والفولاذ والصناعات الخفيفة منتشرة على طول الساحل. وجد الكثيرون وظائف في الإدارات والشركات الحكومية المتنامية. وبالنسبة لمعظم الجزائريين، لم يكن الوعد بحياة أفضل قد تحقق بعد.
وكانت صورة الجزائر كقوة صناعية جديدة مضللة لأسباب عديدة. لم تكن أموال الشركات تأتي من النفط، وإنما من الاقتراض في الأسواق المالية الدولية. ولم يحقق التطور السريع لهذه الصناعات نتائج سريعة، فكم بالأحرى الاقتصاد المتكامل المكتفي ذاتياً إلى حد ما. كما ساهم “منطق” اقتصاد النفط في إعاقة التطور الفعلي. في الواقع، أصبح يهيمن على النظام السياسي صاحب النفوذ الأكبر على إنفاق عائدات النفط في المشاريع الصناعية ومؤسسات الخدمات الاجتماعية والاستهلاك. وأصبحت التنافسية والإدارة الفعالة في السوق العالمية للمنتجات الصناعية أقل أهمية من السيطرة على هذا الدخل.
وعلى المدى القصير، مكّن ذلك القادة الحكوميين من الإنفاق لشراء الاستقرار السياسي، كما هو الحال في دول الخليج الغنية بالنفط. إلا أن موارد الجزائر كانت أقل بكثير، حتى مع الأخذ في الاعتبار احتياطات النفط الطبيعي الهائلة التي سرعان ما استبدلت النفط كمصدر أولي للعائدات.