كان الجنرال الشاذلي بن جديد غير معروف نسبياً كسابقه؛ وقد حاول إحداث نوع جديد من التوازن كرئيس للدولة. كان يتوجب تحرير قسم أكبر من دخل الدولة لتلبية طلبات المستهلكين، وهذا يعني خفض وإعادة هيكلة قطاع الصناعة في الدولة. ومن الناحية السياسية، كان جدول أعمال بن جديد الانتصار على الخصوم والتيارات الإيديولوجية المختلفة. كما جدّد التشديد على العنصر الإسلامي في مفهوم القومية الجزائرية، والذي يمكن استخدامه كأداة في مواجهة التيارات اليسارية في جهاز الدولة والمجتمع. لم ينتج عن ذلك سوى زيادة حدة التوترات: اشتباكات بين مجموعات مختلفة من طلاب الجامعة.
عام 1980، خرجت مظاهرات تنادي بالاعتراف بالهوية والثقافة البربرية في منطقة القبائل. فقامت السلطات بقمع الاحتجاجات، غير أنها لم تقدم أية سياسات جديدة للتخفيف من حالة التوتر. وكمحاولة لتعزيز مصداقيتها الإسلامية واستيعاب أية معارضة محتملة من هذه الزاوية، أدخلت الحكومة قانون أسرة متحفظاً. كان هذا القانون الذي ينظّم الأحوال الشخصية للرجل والمرأة يعتمد على الشريعة الإسلامية، وينص على العديد من عدم المساواة تطال المرأة، بما في ذلك تلك المتعلقة بالزواج، حيث يُفرض على المرأة أن يرافقها محرم ذكر، هذا بالإضافة إلى قوانين الميراث (التي تم تعديلها عام 2005). أدى ذلك إلى احتجاجات كبيرة من قبل حركات نسائية شملت نساء مقاتلات من حركة الاستقلال. ونظراً إلى أن هذه الاحتجاجات لم تشمل سوى مجموعات ناشطة محددة كانت على ما يبدو غير قادرة على حشد فئات كبيرة من المجتمع، اختارت السلطات تجاهل هذه الأصوات في معظمها.
بهذه الطريقة، تم إخفاء إشارات اختلال التوازن السياسي والاقتصادي عوضاً عن معالجتها بإصلاحات منهجية. وعوضاً عن أن يكون محرك بناء الوطن، كان حزب جبهة التحرير الوطني مجرد مؤسسة يتنافس فيها اليساريون والإسلاميون والليبراليون.
اتضح خلال سنوات قليلة أن هذا الوضع لم يؤد إلى الاستقرار. ونظراً إلى أن القيادة لم تتمكن من تأجيل مسار الأحداث إلا عن طريق اللجوء إلى إيرادات قطاع النفط، أدى هبوط أسعار النفط الشديد في منتصف الثمانينيات إلى الوقوع في أزمة. وعوضاً عن اعتبار الجزائر قوة اقتصادية جديدة، كانت عبارة عن بلد يعاني من أزمة ديون دولية. في المقابل، كانت تدابير التقشف مجازفة سياسية.
في تشرين الأول/أكتوبر عام 1988، اندلعت أعمال شغب واسعة النطاق في مدينة الجزائر ومدن رئيسية أخرى. ونزل المتظاهرون، ومعظمهم من الشباب، إلى الشوارع وقاموا بهدم المباني العامة وغيرها من رموز الدولة. فتدخل الجيش وأعاد فرض النظام، بعد أن لقي المئات مصرعهم. وانتهز الرئيس بن جديد الفرصة لتحييد معارضيه السياسيين في حزب جبهة التحرير الوطني وأعلن عن إصلاحات واسعة النطاق.
وفي شباط/ فبراير عام 1989، تم إقرار دستور جديد وضع حجر الأساس لنظام التعددية الحزبية وحماية الحريات المدنية. كما تم استبعاد كل إشارة إلى الاشتراكية. ومن خلال هذه الخطوة السياسية التي كانت مفاجِئة بالنسبة إلى أطراف عديدة، أمل الرئيس بن جديد تمهيد الطريق للتحرر الاقتصادي. كان من شأن ذلك أن يتيح له معالجة الدين الخارجي وتعزيز مصداقية الدولة على الصعيدين الخارجي والداخلي. وبالأحرى، كان الغرض من هذه الممارسات الديمقراطية تكريس مبدأ “فرق تسد”. وما كان ينقص هو قاعدة دعم واضحة ومنصة سياسية للقيادة بحد ذاتها.
تجلى ذلك في الانتخابات الحرة الأولى للمجالس البلدية والإقليمية عام 1990. تلقى حزب الدولة، جبهة التحرير الوطني، ضربة موجعة من حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وقد كان ذلك لافتاً للنظر، لأن الجماعة الإسلامية تأسست قبلها بعام واحد، وتشكلت من شبكة من المجموعات المحلية والتيارات الإسلامية المختلفة التي تحالفت لدعم القيادة الثنائية لعباسي مدني، أستاذ جامعي، وعلي بلحاج، إمام متطرف. ونجحت هذه المنظمة الشعبية في حشد مجموعات اجتماعية مختلفة كانت تفتقر كلها إلى القدرة على النفاذ إلى أجهزة الدولة. وانضم أئمة مساجد غير رسمية إلى مهندسين وغيرهم من ذوي الشهادات الجامعية الذين لم يتمكنوا من إيجاد عمل وتجار صغار ليس لهم روابط سياسية أساسية مع مجموعات ناخبين استهوتهم فكرة النظام الإسلامي أو بكل بساطة الرغبة في إنهاء النظام القائم.
على الرغم من اعتقال قادة هذا الحزب بعد الاحتجاجات التي تلت فصل الصيف، حقق حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ نصراً جديداً في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية في كانون الأول/ديسمبر عام 1991، إذ حصل على نسبة 47% من الأصوات وأغلبية المقاعد، وذلك بفضل النظام الانتخابي؛ وكانت هذه إشارة للجيش للتدخل. وفي كانون الثاني/يناير عام 1992، ألغت القوات المسلحة الانتخابات وأجبرت الرئيس بن جديد على المغادرة، لأنه كان على ما يبدو ينوي عقد صفقة مع الإسلاميين. وبالتالي، اتخذت القوات المسلحة إجراءات سريعة ضد حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فتم حظره واعتقال المئات من أعضائه في مخيمات في الصحراء الكبرى.