تتألف النخبة الحاكمة الغامضة في الجزائر، إلى حدٍ كبير، من فئتين مجزأتين بشكلٍ كبير: الجيش الذي تُسيطر عليه دائرة الاستعلام والأمن (المخابرات الجزائرية) سيئة السمعة، والائتلاف الحكومي بقيادة حزبين سياسيين؛ التجمع الوطني الديمقراطي وحزب التحرير السابق، جبهة التحرير الوطني برئاسة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. ويعتقد أن حلفائه في بيروقراطية الدولة، الجيش وجبهة التحرير الوطني، نجحوا في تهميش قيادة دائرة الاستعلام والأمن الراسخة، بعد أزمة الرهائن في عام 2013 في منشأة للغاز في منطقة عين أميناس الواقعة في الصحراء الكبرى بالقرب من الحدود الليبية.
ومع ذلك، لم يتم الكشف بالكامل عن خلفية الغارة التي شنها الجهاديون، والتي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 38 مدنياً و29 مسلحاً. غير أن أزمة الرهائن والهجوم المعاكس المثير للجدل الذي شنته دائرة الاستعلام والأمن على المهاجمين كان له تداعيات فورية على صراع السلطة الجاري داخل نظام البلاد، كما حدد مسار التحول المريب في القيادة الذي حدث- مرةً أخرى- خلف الأبواب الموصدة. فقد شرع حلفاء بوتفليقة بتجريد دائرة الإستعلام والأمن- التي عرفت خلال الحرب الأهلية التي اندلعت بالتسعينيات بعملياتها العنيفة لمكافحة الإرهاب- من سلطتها. غير أنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كان هذا التحول الأخير في السلطة سيحقق طموح الجيش بلعب دورٍ قيادي في السياسة الجزائرية.
الاستبداد الجزائري ثنائي القطب
تعود جذور تشتت النظام إلى جناحٍ سياسي وعسكري إلى حرب استقلال الجزائر في خمسينيات القرن الماضي. فقد تم إما نفيّ القادة السياسيين في جبهة التحرير الوطني إلى القاهرة أو حبسهم في فرنسا، بينما عمل الفدائيون المسلحون للحركة داخل الجزائر الفرنسية. وفي عام 1957، هزم جيش التحرير الوطني، الذراع العكسرية لجبهة التحرير الوطني، شر هزيمة بعد حملةٍ لا هوادة فيها لمكافحة التمرد شنها الجيش الفرنسي، وهي حملةٌ أجبرت أيضاً جيش التحرير الوطني على التوجه إلى المنفى.
وفي عام 1960، استولى العقيد هواري بومدين على “جيش الحدود،” وهي قواتٌ تابعة لجيش التحرير الوطني متمركزة في تونس والمغرب. وبعد وقتٍ قصير من إعلان فرنسا انسحابها الكامل من الجزائر، همش بومدين قادة جبهة التحرير الوطني المنفيين في القاهرة وشكل تحالفاً استراتيجياً مع أحمد بن بلة، أحد كبار سياسي جبهة التحرير الوطني. ومباشرةً بعد الانسحاب الفرنسي في عام 1962، توجه جيش التحرير الوطني بقيادة بن بلة وبومدين إلى العاصمة الجزائر وبسطوا سيطرتهم الفعلية على الدولة المستقلة حديثاً. أصبح بن بلة أول رئيسٍ للجزائر، بينما عيّن بومدين نائباً للرئيس ووزيراً للدفاع. وبالتالي، تحوّل جيش التحرير الوطني إلى جيش البلاد، الذي حمل اسم الجيش الوطني الشعبي.
خلال رئاسة بن بلة، تطور الجيش ليصبح لاعباً سياسياً رئيسياً ووسع من سلطته تدريجياً.
كان هذا حتى قبل أن يُنظم بومدين إنقلاباً عسكرياً عام 1965، ويُطيح ببن بلة ويعزز قبضة الجيش بشكلٍ أكبر على مؤسسات الدولة وجبهة التحرير الوطني. وفي ذلك الوقت، كان بومدين قد أبرم بالفعل اتفاقاً غير رسميا لتقاسم السلطة بين الجيش الوطني الشعبي وجبهة التحرير الوطني، وهو الوضع الراهن الذي حافظ عليه النظام إلى حدٍ كبير حتى يومنا هذا.
ومنذ ذلك الحين، يخوض الجيش وجبهة التحرير الوطني صراعاً عنيفاً مستمراً تقريباً للسيطرة على الأجندة السياسية للبلاد وامتياز الوصول إلى الاحتياطيات الضخمة للنفط والغاز. ونتيجةً لذلك، فالصراعات شائعة ويمكن أن تتحول إلى عنفٍ، كما أظهرت العقود القليلة الماضية. وإلى حدٍ ما، يسعى الجناحان الرئيسيان في النظام إلى تحقيق ذات الأهداف، أي تأمين الامتيازات وبسط سيطرة شاملة على عائدات النفط والغاز. ومع ذلك، في أوقات انخفاض الإيرادات أو حدوث فراغٍ في السلطة، يزداد الصراع من أجل السيطرة.
الحرب الأهلية الجزائرية
تسببت وفاة بومدين عام 1978 بحدوث مثل هذا الفراغ في السلطة، مما أعاق البلاد لسنوات. وقد أعيق دور الجيش الوطني الشعبي المُهيمن داخل النظام في الثمانينات عندما تسبب الانخفاض الهائل في عائدات النفط والغاز بأزمةٍ سياسية، تبعها انتفاضة شعبية عام 1988. وأدى التحول الديمقراطي الذي أعقب ذلك إلى ظهور حزب إسلامي متطرف، الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وفوزها بالجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية لعام 1991. وقبيل الجولة الثانية من التصويت في يناير 1992، شن الجيش انقلاباً عسكرياً وحظر الجبهة الاسلامية للإنقاذ واستعاد السيطرة على الحكومة والرئاسة الجزائرية. اختبىأ الجناح المتطرف للجبهة الاسلامية للإنقاذ وبدأ بشن حرب عصاباتٍ ضد الدولة.
قُتل ما يُقدر بـ150 ألف شخص خلال الحرب الأهلية التي أعقبت الانقلاب العسكري عام 1992. وقد تم تهميش جبهة التحرير الوطني على نحوٍ فعال من قبل قيادة الجيش في حين أصبح الجيش الفصيل الرئيسي بالتزكية للنظام. استمر ذلك إلى أن قام اليمين زروال، الذي عيّن رئيساً عام 1994، بتمهيد الطريق لعودة الأحزاب السياسية إلى السياسة الجزائرية. وفي عام 1997، فاز حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي تأسس حديثاً بالإنتخابات البرلمانية وشكل تحالفاً مع جبهة التحرير الوطني. وقد استكملت عملية تجديد اتفاق تقاسم السلطة بين الجيش والجناح السياسي للنظام بعد أن أوقف الجيش حملته وشرع النظام بعملية مصالحة من خلال تأييد العرض الرئاسي لعبد العزيز بوتفليقة، وزير الخارجية الجزائري السابق المنفيّ، و”مرشح النظام بالإجماع.”
ومنذ انتخابه عام 1999، تمكن بوتفليقة من الحفاظ على توازن معين للقوى بين جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي، ودائرة الاستعلام والأمن، الوحدة العسكرية التي تطورت كأقوى فرعٍ للدولة بعد الحرب. فقد مكنتها حملتها العنيفة لمكافحة التمرد خلال تسعينات القرن الماضي من إدارة والسيطرة على الصراع، بينما حول رئيسها محمد مدين، المعروف باسم الجنرال توفيق، الوحدة إلى لاعبٍ رئيسي في السياسة الجزائرية.
تحديث الجيش الوطني الشعبي
واليوم، يعتبر الجيش الوطني الشعبي واحداً من أقوى القوات العسكرية في العالم العربي. ويُقدر عدد القوات بـ512 ألف جندي جاهز للقتال و400 ألف جندي احتياط، كما يعمل الجيش الوطني الشعبي على تطوير معداته منذ عام 2005. ففي الستينيات، مهد بومدين الطريق أمام ميليشيات جيش التحرير الوطني للتحول إلى جيش وطني مركزي، حيث حصل على دعمٍ قوي من الاتحاد السوفيتي. وعلى الرغم من سياسة الجزائر الخارجية غير المنحازة، حافظت الجزائر على علاقاتٍ وثيقة مع موسكو. فقد تم تدريب الضباط الجزائريين من قبل الاستخبارات السوفييتية (كاي جي بي)، وتم تجهيز الجيش الوطني الشعبي بشكلٍ حصري تقريباً من قِبل تجار الأسلحة السوفييت، الذين لا يزالون مزودي المعدات العسكرية الرئيسيين للجزائر.
وعلى الرغم من أن الجيش الجزائري لم يشارك أبداً في حربٍ كبيرة أو تدخلٍ على أراضٍ أجنبية – باستثناء الاشتباكات القصيرة مع المغرب في عامي 1963 و1976- فقد حافظ النظام على عقيدة ضرورة وجود جيشٍ قوي وعصري. وفي أوائل العقد الأول من القرن العشرين، بدأ بوتفليقة تحديثاً شاملاً للجيش الوطني الشعبي. وقد سمح ارتفاع إيرادات النفط والغاز في الجزائر لبوتفليقة رفع الإنفاق العسكري. ففي عام 2005 وحده، بلغت ميزانية عملية شراء الأسلحة 7,5 مليار دولار، في حين لم تتجاوز في السابق الـ100 ألف دولارٍ سنوياً. ومنذ ذلك الحين، أصبحت البلاد أكبر مشترٍ للسلاح في افريقيا، إذ تبلغ ميزانيتها السنوية أكثر من 10 مليارات دولار.
وعلى الرغم من انخفاض عائدات النفط والغاز في السنوات الأخيرة، حافظت الجزائر على هذا الإنفاق العسكري المرتفع، وتواصل تحديث جيشها. ولا تزال روسيا الشريك الرئيسي للمبيعات العسكرية للجزائر، حيث تزودها بالطائرات المقاتلة من طراز سوخوي سو-30 إم كي أي ودبابات القتال الرئيسية من طراز تي-90 وغواصتين من فئة كيلو. ومع ذلك، تقوم البلاد اليوم بتنويع مشترياتها، وتشتري المعدات العسكرية من الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا وألمانيا.
وفي الوقت نفسه، تسعى إلى تعزيز صناعاتها المحلية من الأسلحة، إذ تقوم بإبرام عقودٍ مع شركة فينميكانيكا الإيطالية لتصنيع طائرات أغوستاوستلاند العمودية في الجزائر. كما تم توقيع صفقات مماثلة تصل قيمتها إلى 10 مليار دولار مع ألمانيا. تشتمل هذه على فرقاطتين من تصنيع شركة ثيسنكروب مارين سيستمز، فضلاً عن تجميعهما الجزئي في الجزائر، ومصنع للدبابات الخفيفة (مدرعات فئة فوكس)، الذي سيتم بناؤه كجزء من مشروع مشترك مع الشركتين الألمانيتين رينميتال ومان، ومصنع لتصنيع مركبات دايملر للشرطة. كما قامت عدة شركات ألمانية ببيع معدات إلكترونية مثل أجهزة الإرسال اللاسلكية إلى الجزائر لتمكين الجيش الوطني الشعبي من تشديد سيطرته على حدوده الجنوبية.
وقد سمح التهديد الإرهابي من بقايا الحرب الأهلية للجيش الجزائري بجذب الدعم الدولي لحربه على الإرهاب، في حين نجحت دائرة الاستعلام والأمن بقيادة بوتفليقة في استخدام هذا التهديد للدفاع عن قبضتها على السياسة الجزائرية. وعندما عارضت دائرة الاستعلام والأمن بشدة ولاية بوتفليقة الثالثة في عام 2009، ازدادت حدة الصراع العنيف بين الدائرة وعشيرة بوتفليقة مرة أخرى.
من المسؤول عن “السُلطة؟”
بعد تعرضه لسكتةٍ دماغية في مارس 2013، اختفى بوتفليقة بالكامل من الحياة العامة لعدة أشهر. فقد تضررت سمعته بشكلٍ كبير خلال ولايته الثالثة في منصبه، عندما بدأ يُنظر إليه، إلى حدٍ كبير، باعتباره دمية تحركها دائرة الاستعلام والأمن والوجه المدني للنظام العسكري بحكم الأمر الواقع. عزز غيابه هذه الرواية، ولكن سرعان ما انتقمت عشيرته.
ففي سبتمبر 2013، أعلن بوتفليقة عن تعديلٍ حكومي واسع النطاق واستبدل 18 وزيراً، بمن فيهم أولئك الذين عارضوا انتخاب الأمين العام الجديد لجبهة التحرير الوطني، عمار سعيداني. وبهذه المناورة استعاد السيطرة على حزبه والحكومة وشن هجوماً كاسحاً على دائرة الاستعلام والأمن برئاسة الجنرال توفيق.
وبعد تعيين رئيس أركان الجيش، أحمد قايد صلاح، نائباً لوزير الدفاع، قلص بوتفليقة سلطة دائرة الاستعلام والأمن عن طريق إلغاء سيطرتها على عدة وحداتٍ فرعية وإحالتها إلى رئيس الأركان، وهو منصبٌ يشغله حالياً حليف بوتفليقة. فقد كانت الدائرة الرئيسية المتضررة من هذا التغيير هي الشرطة القضائية، وهي وحدة مسؤولة عن التحقيقات المتعلقة بالفساد، بما في ذلك تحقيقات الفساد في العام 2010 المتعلقة بطريق السيار شرق- غرب، وشركة النفط والغاز المملوكة للدولة سوناتراش. ويعتقد أن الجنرال توفيق، الذي عارض بشدة ولاية بوتفليقة الثالثة في عام 2009، استخدم الوحدة لإضعاف الرئيس، حيث تم فصل اثنين من حلفاء بوتفليقة الرئيسيين في مجلس الوزراء في وقتٍ لاحق بتهم الرشوة المرتبطة بالتحقيقات. ومرة أخرى، انتقمت عشيرة بوتفليقة.
ففي أغسطس 2015، اعتقل الجيش عبد القادر آيت عراب، المعروف باسم الجنرال حسن، أحد رفقاء الجنرال توفيق والمدير السابق لوحدة مكافحة الإرهاب بالمخابرات الجزائرية. حُكم على الجنرال المتقاعد، الذي شارك في هجمات الجيش على محطة الغاز في عين أميناس عام 2013، بالسجن خمس سنوات بتهمة تدمير الوثائق وتجاهل الأوامر في محاكمة ٍعسكرية علنية. وقد اعتبره محاموه “ضحية مباشرة” للحرب بين العشائر على السلطة.
وبعد أسبوعين من اعتقال الجنرال حسن، نشرت الرئاسة بياناً مفاجئاً، أعلنت فيه عن تقاعد الجنرال توفيق الفوري بعد 25 عاماً من تلقده منصب رئيس المخابرات العسكرية في البلاد، مما شكل زلزالاً “للسلطة،” (le pouvoir) وهو مصطلحٌ غالباً ما يستخدمه الجزائريون للإشارة إلى النظام.
استبدل الجنرال توفيق بنائبه، عثمان طرطاق، المعروف باسم بشير، وهو حليفٌ آخر لبوتفليقة. وبعد فترةٍ وجيزة من تعيينه، أطلق طرطاق حملة تطهير حيث أقال أو أحال إلى التقاعد ما لا يقل عن 11 جنرالاً وأصبح اليوم رئيس مديرية المصالح الأمنية، وهي وحدة حلت محل دائرة الاستعلام والأمن عام 2016. وبصفته قائداً لوحدة مكافحة الإرهاب التابعة لدائرة الاستعلام والأمن، كان طرطاق شخصيةً رئيسيةً في حملة مكافحة التمرد الضروس التي شنتها القوات المسلحة خلال الحرب الأهلية والمسؤول عن تسلل الجماعة الإسلامية المسلحة (GIA) على نطاقٍ واسع، وهي منظمة إرهابية تقوم بشكل منهجي بإعدام الصحفيين، والفنانين والأجانب، وذبح المدنيين.
وبعد تطهير الجيش، يُعتقد أن عشيرة بوتفليقة اكتسبت سيطرةً واسعة على الدولة العميقة، على الرغم من أنه من غير الواضح بعد من قاد هذه الحملة، الرئيس نفسه أم قايد صلاح، الذي وسع قاعدة سلطاته في السنوات الأخيرة. وعلى الرغم من أن الصراع الداخلي على السلطة في النظام يبدو وكأنه أخمد الآن، إلا أن الصراع العنيف على خلافة بوتفليقة لا يزال مستمراً.