سيذكر تاريخ الشرق الأوسط الرابع من نوفمبر 2017 باعتباره اليوم الذي خطت فيه السعودية خطواتٍ بعيداً عن اتفاقات تقاسم السلطة التقليدية وطريقة الحكم، والذي من المحتمل أن يغيّر خطابها السياسي إلى الأبد.
فقد كان فندق ريتز كارلتون في الرياض، الذي يعدّ واحداً من أكثر الفنادق فخامة في العالم والمعروف بحدائقه الطبيعية الرائعة وأماكن الإقامة المُترفة، مسرح ما أطلق عليه العديد من المراقبين “أعظم زلزالٍ” يهزّ المملكة. فبعد الأحداث الأخيرة، لم تعد زخارف الفندق الفاخر أول ما يخطر في ذهن المارة على طريق مكة الخارجي.
إذاً، ما الذي حدث بالضبط، ولماذا؟
في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز نشرت في 23 نوفمبر، سأل الصحفي توماس فريدمان ولي العهد محمد بن سلمان (المعروف باسم مبس) عن سبب قيام السلطات السعودية بجمع حوالي 200 عضو من نخبة البلاد واحتجزاهم في فندق ريتز كارلتون حول مزاعم بتهمٍ تتعلق بالفساد وغسيل الأموال واختلاس أموال الدولة.
ووفقاً لمحمد بن سلمان، فإن الإدعاء بأن الاعتقالات استغلالٌ للسلطة للقضاء على منافسيه من أسرته ومن القطاع الخاص قبل أن يسلمه والده المريض، الملك سلمان، مفاتيح المملكة، “مزاعم سخيفة.” وبدلاً من ذلك، أصرّ على أن الاعتقالات جزءٌ من حملةٍ لمكافحة الفساد، إذ قال “عانى بلدنا الكثير من الفساد من الثمانينيات وحتى الآن. فبحسب خبرائنا، إن ما يقرب من 10% من جميع الإنفاق الحكومي يتم شفطه بسبب الفساد، من أعلى المستويات إلى أسفل. وعلى مر السنين أطلقت الحكومة أكثر من حربٍ على الفساد، ولكنهم فشلوا جميعاً، بسبب أنهم بدأوا من أسفل إلى أعلى.”
وأشارت تصريحاته اللاحقة للصحيفة إلى أن الاعتقالات، التي جاءت مفاجأةً للكثيرين، كانت في واقع الأمر نتاج عملٍ دؤوب منذ عام 2015، عندما تولى الملك سلمان العرش وعين محمد بن سلمان ولياً لولي العهد. كانت أوامره الأولى لفريقه هي جمع كل المعلومات عن الفساد في الأعلى. وأضاف “عمل هذا الفريق لمدة عامين حتى جمع المعلومات الأكثر دقة، ثم جاءوا بنحو 200 اسم.”
وقبل يومٍ من الاعتقالات، أصدر الملك سلمان مرسوماً تعهد فيه بملاحقة “بعض ضعاف النفوس الذين غلبوا مصالحهم الخاصة على المصلحة العامة، واعتدوا على المال العام دون وازع من دين أو ضمير أو أخلاق.” كما نصّب المرسوم محمد بن سلمان رئيساً للجنة العليا التي أنشئت للتحقيق، وإصدار أوامر القبض، والمنع من السفر، وكشف الحسابات والمحافظ وتجميدها. فقد منحه هذا المنصب صلاحياتٍ واسعة لملاحقة أي شخصٍ بغض النظر عن مكانته تنفيذاً لمهام اللجنة.
فقد وافق 95% من المعتقلين على تسويةٍ تنطوي على إعادة أموال الدولة- أي ما مجموعه حوالي 100 مليار دولار- وفقاً لما قاله محمد بن سلمان. كما أشار أيضاً إلى أن حوالي 1% من المتهمين تمكنوا من إثبات براءتهم وتم إسقاط قضاياهم، في حين نفى 4% التهم الموجهة ضدهم وقالوا إنهم مستعدون للتوجه إلى المحكمة.
ومن بين المعتقلين 11 من الأمراء، ووزراء ورجال أعمال أثرياء الذين كانوا في وقتٍ ما سفراء للمصالح التجارية للمملكة. ومن بينهم الأمير الملياردير الوليد بن طلال، ابن شقيق الملك ومالك الشركة الاستثمارية شركة المملكة القابضة، التي تستثمر في شركاتٍ عالمية مثل سيتي جروب وتويتر؛ وبكر بن لادن رئيس مجموعة بن لادن السعودية، والأخ غير الشقيق لزعيم القاعدة السابق اسامة بن لادن.
كما اعتقل أيضاً الأمير متعب بن عبدالله بتهمٍ تتعلق بالاختلاس والتوظيف الوهمي وإرساء عقود مشاريع مختلفة على شركاته بما في ذلك صفقة بقيمة 10 مليارات دولار لشراء أجهزة إتصال لاسلكي وملابس عسكرية مضادة للرصاص. فقد كان يعتبر الرئيس السابق للحرس الوطني القوي وابن الملك الراحل عبد الله المُفضل، يوماً ما منافساً على العرش. وعليه، فإن الإطاحة به تمنح محمد بن سلمان فرصةً لتوسيع سيطرته على جميع فروع الأمن في البلاد.
وبعد ثلاثة أسابيع من الحملة، يحاول المسؤولون السعوديون ومؤيديهم تبرير الاعتقالات باعتبارها جزءاً عادياً من “عملية التفاوض،” على غرار النهج الذي يتبعه المدعون العامون الغربيون مع المجرمين ذوي الياقات البيضاء.
ومع ذلك، تقول جماعات حقوق الإنسان إن المقارنة تتجاهل اختلافاتٍ حساسة، مثل الحماية القانونية للمتهمين والقضاء المستقل لأخذ المزاعم بعين الاعتبار. وبدلاً من ذلك، يبدو أن هذه المقارنات تشير إلى الرغبة في جمع الأموال كدافعٍ أساسي وراء الاعتقالات المفاجئة.
وقال الباحث في شؤون الشرق الأوسط لدى منظمة هيومن رايتس ووتش آدم كوغل “يبدو أن الأمر يتم بمكانٍ بعيد كل البعد عن أي شيءٍ يمثل عمليةً قانونية واضحة. ولو لم تقدم السلطات السعودية فرصة للدفاع الشرعي فإن ذلك قد يثير الشبهات حول العملية من الجهة القانونية.”
وأفاد موقع ميدل إيست آي، وهو موقعٌ إخباري ممول من قطر، بأن بعض كبار الشخصيات من المعتقلين تعرضوا للضرب والتعذيب المبرح أثناء اعتقالهم أو استجوابهم، حيث احتاج بعضهم للعلاج في المستشفى. وقد ادعى التقرير، الذي استند إلى تسريبات من داخل “البلاط الملكي،” أن بعض المعتقلين “يعانون من جروح بأجسامهم، من جراء أساليب التعذيب الكلاسيكية”. وزعم أن بعضهم تعرض للتعذيب للكشف عن تفاصيل حساباتهم المصرفية.
ووفقاً لبرنارد هيكل، أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة برنستون، فإن محمد بن سلمان “يحاول جعل الناس يدركون أنه لن يدير البلاد بالطريقة المعهودة، لأنه إذا فعل ذلك فلن يستطيع أن ينجح في تنفيذ رؤية 2030، [في إشارة إلى استراتيجية البلاد طويلة الأمد للحد من اعتماد الاقتصاد على النفط]. أعتقد أن هناك إدراكاً حقيقياً أنه كي ينجح، عليه أن يلوح بالعصا الغليظة”.
المخاطر كبيرة بالفعل بالنسبة لولي العهد البالغ من العمر 32 عاماً. فالسعوديون، بل العالم بأكمله، يراقبه، وهم منقسمون بين أولئك الذين يؤيدونه بالكامل ويصفون حملة الاعتقالات الأخيرة بـ”تطهيرٍ للفساد طال انتظاره،” وأولئك، وغالبيتهم من التقليديين، الذي يرون أن هذه الجرعة الأخيرة من “العلاج بالصدمة” ليست إلا استحواذاً على السلطة قبل تنازل الملك عن العرش، كما يُشاع.
وأياً كان الأمر، فإن ثمن مثل هذه التغييرات الجذرية باهظ، فولي العهد يعمل على تعزيز السلطة بطريقة لم تعهدها المملكة منذ أجيال. فقد حاول الملوك مؤخراً صياغة توافقٍ في الآراء بين جميع فروع العائلة المالكة، لخلق نظامٍ صعب المراس الذي كان في وقتٍ ما غير قادرٍ على اتخاذ القرارات. فكك محمد بن سلمان هذا النظام، ليقصيّ الجميع تقريباً ويقلب ديناميات الحكم في المملكة بشكلٍ جوهري.
وعلاوة على ذلك، فإن هذه الحملة المزعومة ضد الفساد ليست المبادرة الوحيدة التي أطلقها محمد بن سلمان. فقد شنّ أيضاً حملةً على الإسلاميين السياسيين، ودعا إلى كبح التطرف، وأعلن عن السماح للنساء بقيادة السيارات بدءاً من يونيو 2018، ورفع الحظر عن الحفلات العامة، ومن المتوقع أن تُفتتح دور السينما في جميع أنحاء المملكة في عام 2018.
وعلى الرغم من أن بعض المراقبين أثنوا على جهوده- إلى حد أنهم أطلقوا عليه اسم الربيع العربي السعودي، إلا أنه أثيرت مخاوف بشأن مدى ووتيرة الإصلاحات في مجتمعٍ بالكاد يعتاد التغيير التدريجي.
ومن خلال توطيده للسلطة، يبدو أن محمد بن سلمان يُقدم درجةً أكبر من الحرية الاجتماعية، إلا أنه يمكن أن يكون هناك بالتأكيد مساحة صغيرة للمعارضة في خضم هذا التحول الضخم.