هجرة الشباب من محافظة درعا تعود لمجموعة أسباب أساسية ترتبط بالنظام وإيران، وتشمل هذه الأسباب تجارة المخدرات والعوامل الأمنية والاقتصادية وغيرها.
يعيش أبناء محافظة درعا وضعاً إشكالياً صعباً يدفعهم إلى الهجرة من سوريا إلى أي دولةٍ أخرى توفر لهم أي وسيلة للعيش الكريم. وبينما انشغل العالم بمأساة الغواصة “تيتان“، فقدت المحافظة 77 من أبنائها إثر غرق مركب كان يقلّهم مع مهاجرين غير شرعيين آخرين من ليبيا باتجاه السواحل الأوروبية.
ومنذ عام 2011، تعد محافظة درعا واحدة من المناطق الفاعلة في الأزمة السورية. وانطلقت من هذه المحافظة شرارة الثورة السورية. كما شهدت أرضها العديد من التحولات في السيطرة بين الفصائل المتحاربة، كالجيش السوري الحر وفصيل النصرة. وحضر تنظيم “الدولة الإسلامية” هو على أرضها وقاتلته فصائل الجيش الحر وانكفأ مثل النصرة وتحول إلى خلايا نائمة مستندة على بعض الحواضن المجتمعية.
ومع هجوم النظام السوري والطيران الروسي على المحافظة في العام 2018، انتهت الفصائل المعتدلة بإقرار تسوية من نوع خاص مع النظام بوساطة روسية. وبموجب هذه التسوية عادت السيطرة “النسبية” للنظام على المحافظة. كما أنّ هذه التسوية أضعفت الفصائل دون أن تقضي عليها.
وأصبح المشهد في غاية التعقيد، فحضور النظام في المحافظة غير مكتمل، وغياب الفصائل غير مكتمل. أما إيران وحزب الله، فلم يستطيعا فرض سيطرتهما على الأرض مثلما حصل في مناطق أخرى من سوريا كدير الزور ومناطق ريف دمشق وبعض مناطق ريف حلب.
ومع ذلك، يبدو أن إيران لن تتخلى عن فكرة السيطرة في المحافظة الجنوبية المجاورة لإسرائيل والأردن وتعد عمقا للعاصمة دمشق.
وهنا، يحضر ملف هجرة الشباب من المحافظة بأعدادٍ يصفها مصدر مطلع لموقع فنك بـ “مرعبة”. ويعيد المصدر الذي فضّل عدم الكشف عن هويته هذه الهجرة لمجموعة أسباب أساسية ترتبط بالنظام وإيران، وتشمل هذه الأسباب تجارة المخدرات والعوامل الأمنية والاقتصادية وغيرها.
تفريغٌ ممنهج
المصدر الذي نمتنع عن ذكر اسمه لدواعٍ أمنية يرى أن العوامل الدافعة لأبناء محافظة درعا نحو الهجرة لا تنفصل عن بعضها البعض. ويعد التضخم المالي وانهيار سعر صرف الليرة وعدم توفر فرص العمل من أبرز تجليات تعقيد الوضع الاقتصادي الذي يدفع أبناء المحافظة للهجرة. وتجدر الإشارة إلى أن سعر صرف الدولار الأمريكي وصل إلى حوالي 13200 ليرة في يوليو 2023، علماً بأنه لم يزد عن 50 ليرة في عام 2010.
وبحسب المصدر، فإن النظام السوري يدعم المنتجات الزراعية القادمة من الساحل السوري الموالية له على حساب تلك المنتجات التي تنتجها محافظة درعا. وكما هو معروف، فإن هذه المحافظة تعتمد بشكلٍ أساسي على الزراعة، علماً بأن متطلبات القيام بعمليات الزراعة غير متوفرة في عمومها.
وعلى سبيل المثال، تعاني بعض المناطق من عدم توفّر المياه والسماد والكهرباء ووسائط النقل الآمنة. يضاف إلى ذلك ما تواجهه هذه المناطق من صعوباتٍ جمّة في العثور على سوق تصرّف فيها منتجاتها الزراعية. وبطبيعة الحال، فإن هذه الصعوبات عزّزت من تعاسة الأوضاع الاقتصادية في محافظة درعا وحفّز أبناء المحافظة بصورةٍ أساسية للبحث عن أيّ طريقة تتيح لهم الهجرة.
وإن كانت المصاعب التي تواجه الزراعة تعود بآثارها على عموم الناس في محافظة درعا، فإنّ هناك أسباباً أخرى تدفع فئة الشباب بشكلٍ خاص للهجرة. ولعل أحد أبرز تلك الأسباب عمليات التسوية التي أبرمها النظام في المحافظة.
وفي هذا الصدد، يقول الباحث السوري ماهر شرف الدين إن التسوية الأخيرة التي أعلنها النظام في يونيو 2023 وضعت آلاف الشباب في وضعٍ صعب. وملخص هذه التسوية يكمن في إمهال المتخلفين عن الخدمة العسكرية الإلزامية ستة أشهر للالتحاق بجيش النظام. كما تم منح المنشقين عن الجيش مدة شهر واحد لمعاودة الالتحاق به. وتنص التسوية على تزويد جميع المتخلفين والمنشقين بحق الحصول على إذن سفر يمكنهم من خلاله مغادرة سوريا في فترة المهلة المتاحة لهم قبل الانضمام لصفوف الجيش.
ويرى شرف الدين أن النظام وضع شباب محافظة درعا أمام خيارين، “فإما أن يلتحقوا بالجيش ليقاتلوا في صفوفه وإما أن يغادروا البلاد إلى الأبد”. وبحسب تعبيره، فإن النظام يريد الجنوب السوري “جسداً بلا عظام” لتتم السيطرة عليه. ويضيف: “إذا ما استمر الوضع الحالي على ما هو عليه في الجنوب السوري، بما يشمل أيضا محافظة السويداء والقنيطرة، فإن هذا الجنوب سيصبح جغرافيا خالية من الشباب”.
دورٌ إيراني
وفي قراءته لما يحدث في الجنوب السوري، يقول ماهر شرف الدين: “لا يقلّ الجنوب السوري أهميةً في المشروع الإيراني عن الجنوب اللبناني، بل إن الجنوب السوري أهم من الجنوب اللبناني. ففي الوقت يعتبر فيه الجنوب اللبناني منصةً لابتزاز إسرائيل، فإن الجنوب السوري يعد منصّةً لابتزاز الدول العربية وعلى رأسها السعودية“.
وفي هذا يتفق المصدر مع ما ذهب إليه ماهر شرف الدين. ويؤكد المصدر أنّ كلّ الضغوط التي تتعرض لها محافظة درعا والجنوب السوري بشكل عام يأتي في إطار “خطة ممنهجة تقف خلفها إيران”. ويقول المصدر: “لم تستطع إيران رغم التسويات أن تحكم سيطرتها على منطقة كاملة واحدة من عموم محافظة درعا بقوة السلاح. والآن، تسعى طهران للسيطرة على محافظة درعا عبر تفريغها من الشباب دون أن تحتاج لمعارك تعيد المشهد إلى المربع الأول”.
أما التسويات الأمنية، فيشير المصدر إلى أنها شملت شباباً تتراوح أعمارهم بين 18 و19 سنة. وهذا يعني أن هؤلاء كانوا أطفالاً عندما بدأت الثورة السورية وأعمارهم لم تخوّلهم للقيام بأعمالٍ معارضة للنظام. ويرى المصدر أن هناك عملاً ممنهجاً لتفريغ محافظة درعا لاسيما من فئة الشباب. وعلى هامش هذا التفريغ، يعاني شباب المحافظة الساعي للحصول على جواز سفر من الابتزاز المالي.
ويقول المصدر: “يتعرض أبناء درعا لابتزازٍ مالي كبير عندما يسعون للتسجيل على دور تقديم طلب الحصول على جواز سفر يتيح لهم مغادرة سوريا. ويضطر هؤلاء لدفع عشرة أضعاف التكلفة العادية للحصول على جواز سفرٍ لا يتيح لهم السفر إلى دول الهجرة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن دول الخليج لم تعد تستوعب العمالة السورية الموجودة، فكيف بأولئك الراغبين بالسفر إلى تلك الدول للحصول على عمل فيها! والأمر نفسه ينطبق على الأردن الذي يستضيف ملايين السوريين وكذلك لبنان ومثلهما تركيا. وهذه الأخيرة باتت تقوم بإبعاد السوريين الموجودين فيها إلى الشمال السوري”.
ويؤكد المصدر توجه عدد لا بأس فيه من شباب محافظة درعا إلى أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق للبحث عن العمل هناك. ويعتبر بعض هؤلاء الشباب أربيل محطةً أولى في رحلة البحث عن بلدٍ يجدون فيه فرصة للحياة.
ومن العوامل الأخرى التي تدفع الشباب للهجرة عمليات التصفية التي تشهدها المحافظة. وبحسب المصدر، فإن عمليات التصفية التي تشهدها المحافظة تقسم إلى نوعين. ويشمل النوع الأول عمليات تصفية التي تقوم بها فصائل محلية بحق شبابٍ سبق لهم الانتساب إلى فصائل أخرى أو أنهم متهمون بالقرب من الأمن العسكري أو الأجهزة الأمنية التابعة له. أما النوع الثاني من عمليات التصفية، فتقوم به أجهزة النظام السوري لأولئك المناوئين لها. وعلى هذا الأساس، يجد الكثير من الشباب أنفسهم إما عرضةً للاغتيال أو أن يطلب منهم القيام بعمليات اغتيال، ما يجعل خيار السفر إلى خارج سوريا بمثابة فرصة للنجاة من هذه الخيارات القاتمة.
بوابة الكبتاغون
شكلت الحدود السورية الاردنية من جهة محافظتي درعا والسويداء معبرا لتهريب المخدرات وعلى رأسها الكبتاغون باتجاه الأردن ومنه إلى السعودية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي. وفي هذا المجال، يجد المصدر خيطا رفيعا للربط بين المخدرات والهجرة.
ويقول في هذا الصدد: “جرت عادة المروجين على التغرير بالشباب الصغار السن لإيهامهم بأنّ المواد المخدرة حبوبٌ منشطة تساعدهم على السهر خلال المعارك. وبمرور الوقت، وقع الكثير من هؤلاء الشباب في فخ الإدمان، وهذا الأمر ينطبق على مقاتلي الفصائل ومقاتلي جيش النظام. بيد أن انتشار المخدرات انحسر بين الشباب مقارنة بفتراتٍ سابقة لأسباب متعددة منها توقف المعارك”.
ويعد الوضع الاقتصادي المتردي سبباً ثانياً أدى إلى انحسار تعاطي الكبتاغون في محافظة درعا. وعلى الرغم من أنّ ثمن حبة الكبتاغون أقل من ثمن علبة السجائر المحلية، إلا أن هذا الثمن يعجز المتعاطي عنه نتيجة الوضع الاقتصادي المتردي.
سببٌ آخر يشير إليه المصدر في تفسير انحسار تعاطي المخدرات وهو قيام مجموعات مجهولة باستهداف المتّهمين بترويج المخدرات. وأسفرت تلك العمليات لوقوع حالات اغتيالٍ كثيرة في المحافظة.
أما العامل الأهم الذي يكشف عنه المصدر بصورة حصرية لفنك فهو سيطرة تشكيلات الفرقة الرابعة التابعة للنظام على الحدود السورية الأردنية، وبشكل خاص المنطقة الحدودية المقابلة لمحافظة السويداء. وكما هو معروف فإن محافظة السويداء تعد امتدادا لمحافظة درعا. وقامت الفرقة بفرض سلطتها هناك لضبط الفوضى الحاصلة في تجارة المخدرات وتهريبها.
وفي هذا السياق، يقول المصدر: “الفرقة الرابعة منعت فوضى التهريب. وتم التحول إلى التهريب المنظم. والآن، بات هناك ضباط مسؤولون عن الطرق، وآخرون مسؤولون عن مرافقة الشحنات إلى قرب الحدود. وفي حال تعرّض المهرّب لأي إصابة أثناء عملية التهريب فإنه يتواصل مع نقاط طبية تابعة لوحدات الفرقة الرابعة لإسعافهم.
أي أن هناك عملية ضبط ليس لمنع التهريب، بل لمنع المتطفلين على التهريب. وعلى هذا الأساس، فقد أصبح التهريب عملاً مافيوياً شديد التنظيم ويخضع لتراتبية عسكرية”. ويؤكد المصدر منع الفرقة الرابعة دخول الأهالي لمساحات شاسعة من الأراضي الحدودية إلا بتصريحٍ منها.
هذا الضبط لفوضى التهريب، بحسب المصدر، عاد بمكتسبات للفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد. ويقول المصدر، في هذا الصدد: “سيطرت على الفرقة الرابعة على السوق. وبعد هذه السيطرة، تم التخفيض أجور عمال التهريب. ففي السابق، كان الشخص الذي يحمل حقيبة تزن 20 كيلو ويعبر بها الحدود زحفا ويلقيها ويعود يحصل على 14 ألف دولار. الآن ولأن السوق تسيطر عليه جهةٌ واحدة، فقد تم تخفيض أجر عابر الحدود من عملية التهريب الواحدة إلى 5 آلاف دولار”.
وسبق لمسؤولين أردنيين أن أعلنوا أكثر من مرة عن مسؤولية ميليشيات موالية للنظام بإدارة عمليات التهريب إلى الأردن. وفي هذا السياق، يقول المصدر: “مع قدوم الفرقة الرابعة إلى المنطقة، بدأنا نلاحظ دخول الطائرات المسيّرة على خط تهريب المخدرات والأسلحة إلى الأردن بواسطتها. وهذه المسيرات تتبع لحزب الله وميليشيات إيران، إلا أنها دخلت إلى المنطقة بمعية الفرقة الرابعة”.