خلال الشهرين الأخيرين، خرج اللبنانيون إلى الشوارع للاحتجاج على انهيار الاقتصاد والفساد المستشري. بالإضافة إلى المطالب الاجتماعية والاقتصادية، يُدين العديد من المتظاهرين أيضاً النظام الطائفي القائم منذ نهاية الحرب الأهلية في عام 1990، إذ بحسب قولهم سمح هذا النظام للنخبة السياسية بتطوير مجالات نفوذٍ موازية، ونشر التعصب في كل قطاعات المجتمع فضلاً عن سرقة المليارات من الأموال العامة، مما يقوض بناء مؤسساتٍ وطنية قوية وخدمات عامة فعالة.
يرتكز النموذج السياسي للبنان على التعددية الطائفية، حيث تعترف الدولة بـ18 طائفة دينية مختلفة: 12 مسيحية وخمس مسلمة ويهودية واحدة. وغالباً ما توصف البلاد بأنها “ديمقراطية توافقية” لأن نظامها السياسي يعتمد على تقاسم السلطة وفقاً للوزن الديمغرافي للمجتمعات المتنوعة. ووفقاً للعالم السياسي أرنت ليبهارت، فإن الديمقراطية التوافقية هي “حكومة من قبل كارتل النخبة مصممة لتحويل الديمقراطية ذات الثقافة السياسية المجزأة إلى ديمقراطية مستقرة.” قد يبدو هذا نموذجاً مناسباً للمجتمعات المنقسمة حيث تمثل الأحزاب السياسية ثقافات سياسية فرعية. في حالة لبنان، هذه الثقافات السياسية الفرعية هي الطوائف المختلفة.
يضرب النظام الطائفي جذوره بعمق في تاريخ لبنان، بيد أنه تم تكريسه بعد الاستقلال في عام 1943. أنشأ المسيحيون والمسلمون ميثاقاً وطنياً ليشكل دعامة دولةٍ مستقلة جديدة، ليعتمد هذا الميثاق على ثلاثة مبادىء: استقلال لبنان عن الدول العربية الأخرى وعن الغرب، والمساواة بين جميع اللبنانيين، والاعتراف بالهوية العربية للبلاد.
يرتكز الميثاق على تنازلٍ مزدوج: إذ كان على المسيحيين التخلي عن الحماية الغربية وقبول الهوية العربية في لبنان؛ بينما كان على المسلمين التخلي عن اندماجهم في أمةٍ عربية أعظم والقبول الكامل بوجود وشرعية دولة لبنان.
كما تم تعزيز هذا الميثاق أيضاً من خلال اتفاقيةٍ ترتكز حول توزيع وظائف الدولة من الفئة الأولى على أساسٍ طائفي. يشكل الموارنة المسيحيون غالبية السكان وبالتالي مُنحوا الرئاسة وجميع المهام الاستراتيجية في الجيش والشرطة والاقتصاد والأمور المالية والقضاء والتعليم.
أبرزت الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990 هشاشة هذه التسوية وضرورة تعزيز الهوية الوطنية اللبنانية. صدّق البرلمان على اتفاقية الطائف في نوفمبر 1989 من أجل إنهاء الصراع، إذ كانت تهدف إلى تصحيح الاختلالات الطائفية عن طريق تحقيق التكافؤ بين المسلمين والمسيحيين في البرلمان وتقليص وظائف الرئيس لصالح تشاركية أكبر. ومنذ ذلك الحين، يرأس مجلس الوزراء سُني يرشحه غالبية البرلمان المنتخب وليس الرئيس. بيد أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، حيث نصت الاتفاقية أيضاً، على المدى الطويل، على إنهاء الطائفية السياسية كهدفٍ أساسي ودعت إلى إنشاء دولة تعتمد على “الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة، والقضاء، والمؤسسات العسكرية والأمنية، والمؤسسات العامة والمختلطة، وفي المصالح المستقلة باستثناء وظائف الفئة الأولى وما يُعادلها وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة.”
لكن هذا لم يحصل على أرض الواقع. في الحقيقة، شهدت فترة ما بعد الحرب تفاقم الخصومات الطائفية، إذ أصبح المجتمع الديني الملاذ الأخير في سياق حالة عدم اليقين الاقتصادي وتعطّل الدولة.
وفي حين أن إحدى الحجج المقدمة لصالح التوافقية هي قدرتها على ضمان السلام والاستقرار في السياقات المجزأة، إلا إن القضية اللبنانية سلطت الضوء على نطاقها. يقوّض تقاسم السلطة الطائفي المواطنة ويعزل الأشخاص نحو طائفتهم. وفي لبنان، لا ينطبق النظام فقط على السياسة ولكن أيضاً على المسائل المدنية. ففي حال كان يُنظر إليه باعتباره حمايةً لحقوق المجتمعات، إلا إن الأخير يتم تطويره على حساب الحقوق الفردية، كما يتضح من قانون الأحوال الشخصية الذي يفرض 15 قانوناً مختلفاً على المواطنين، استناداً إلى انتمائهم الطائفي. وبالتالي، فإنه يشكك في مبدأ المساواة أمام القانون ويميز ضد المرأة بشكلٍ كبير.
كما تعيق الطائفية التعايش بين الجماعات الدينية المختلفة لأن التركيبة الديموغرافية تصبح السلاح السياسي الرئيسي للمطالبة بالسلطة. وفي سبعينيات القرن العشرين، تعرض النظام لانتقادات متزايدة من قبل المسلمين لأنه أعطى المزيد من الصلاحيات للمسيحيين على الرغم من تراجعهم ديموغرافياً. بالإضافة إلى ذلك، جعل هذا البلد – وما زال- هشاً للغاية أمام النزاعات الإقليمية واستغلال القوى الخارجية للمجتمعات.
ووفقاً للمتظاهرين، يمنح النظام الحالي الوظائف على أساس الانتماءات الطائفية والعلاقات الشخصية، بدلاً من الجدارة والكفاءات الفردية. فقد أبرزت الانتفاضة تطلعات جيلٍ شاب لم يعش حرباً أهلية، إذ يعبر الكثير منهم عن غضبهم تجاه نظام يبرر الفساد والمحسوبية بحجة حماية المجتمعات من بعضها البعض.
يقولون إن الوقت قد حان لإعطاء الأولوية للانتماء القومي على حساب الانتماءات الطائفية. ومع ذلك، فإن النظام القائم منذ عقود لا يمكن أن يسقط بين عشية وضحاها. ويبدو أن الأحزاب السياسية الرئيسية تدرك هذا وتحاول إعادة الاستقطاب الذي أعقب انسحاب القوات السورية في عام 2005، المتحالفة حول تحالف 8 آذار أو النظام الموالي لسوريا (الأحزاب الشيعية، أمل وحزب الله، إلى جانب التيار الوطني الحر) وتحالف 14 آذار أو التحالف المناهض للنظام السوري (خاصة حركة المستقبل التي يتزعمها الزعيم السني سعد الحريري والقوات اللبنانية وحزب الكتائب المسيحيين).
فقد مرت اثنتان من المجتمعات اللبنانية الرئيسية الثلاث بفترة “بزوغ نجمها ومن ثم أفوله،” حيث بزغ نجم السياسية المارونية لعقودٍ منذ الاستقلال وحتى عشية الحرب الأهلية، إلى أن هيمنت السياسة السُنية من نهاية الحرب إلى أن تم اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في عام 2005. وفي الوقت الراهن، يعد حزب الله أقوى الجماعات في البلاد. ومع ذلك، يتم تحدي هذه الهيمنة في الشوارع، حيث يطالب المتظاهرون، بمن فيهم الشيعة، بوضع حدٍ لنظام يدعمه الحزب بفعالية.
وفي حين أعربت أحزاب 14 آذار المسيحية عن دعمها للاحتجاجات، مما أثار مخاوف بين العديد من المتظاهرين من احتمال التورط المشترك، إلا أن حزب الله شكك في نزاهة الحركة الشعبية منذ البداية، مما يوحي بأنها نتيجة لمؤامرة دبرتها قوى أجنبية. ومع ذلك، أظهر الحزب أيضاً دعمه للمطالب الاجتماعية للمتظاهرين ليظهر وكأنه يناصرهم. وفي خطابٍ ألقاه في 11 نوفمبر، ذهب زعيم حزب الله، حسن نصر الله، إلى أبعد من ذلك حيث حث القضاء على التحلي “بالشجاعة” ومقاضاة المسؤولين الفاسدين، بدءاً بمن ينتمون إلى حزبه.