على الرغم من أنّ لبنان نال استقلاله في نهاية المطاف، فإنّ مجتمعاته المتعددة كانت منقسمة فيما بينها، وكانت الحالة السياسية المضطربة تهدد بإحباط المشروع الوطني.

كتبه: C.R. Pennell أستاذ سابق في تاريخ الإسلام والشرق الأوسط, جامعة ملبورن أستراليا
حرره: إريك برينس
الاستقلال
خلال الحرب العالمية الثانية، ظل لبنان تحت الحكم الفرنسي بإدارة نظام فيشي المتحالف مع ألمانيا النازية. وفي يونيو 1941، اجتاحت القوات البريطانية القادمة من فلسطين الأراضي اللبنانية لحماية خطوط إمدادها إلى العراق، وذلك عقب محاولة الانقلاب التي قادها رشيد عالي. وعندئذ أعلن الجنرال شارل ديغول، قائد قوات فرنسا الحرة المتحالفة مع بريطانيا، أنّ لبنان سيحصل على استقلاله، بيد أنّ استمرار الانتداب تحت إدارة حكومة فرنسا الحرة أثار استياء القوميين اللبنانيين.
لذلك، في 8 نوفمبر 1943، وبعد انتهاء الانتخابات، أعلنت الحكومة اللبنانية الجديدة إلغاء الانتداب. لكن هذا القرار لم يتم بالتنسيق مع حكومة فرنسا الحرة، مما دفع ممثليها المحليين إلى اعتقال أعضاء مجلس الوزراء اللبناني. وإلى جانب الاحتجاجات الشعبية، تعرّض الفرنسيون لضغوط كبيرة من حلفائهم للتراجع عن موقفهم. لذلك أفرجت السلطات الفرنسية عن المسؤولين اللبنانيين في 22 نوفمبر، معلنةً قبولها بالاستقلال الكامل للبلاد.
رغم الاستقلال، لم تسهم هذه التطورات في تحقيق الاستقرار السياسي في لبنان، فقد ظلّت الولاءات الطائفية والانقسامات المجتمعية تحدياً معقداً يواجه استقرار الدولة.
فمن بين الموارنة، برز إميل إده الذي فضّل توطيد العلاقات مع القوى الغربية، لا سيما فرنسا. أما كميل شمعون، الذي اشتهر بدوره في حركة الاستقلال عن فرنسا، فكان مؤيداً للولايات المتحدة. في المقابل، رأى بشارة الخوري، أول رئيس للبنان بعد الاستقلال، ضرورة توطيد العلاقات مع الدول العربية.
أما السنّة، فقد برز من بينهم رياض الصلح الذي تعود جذوره إلى مصر وفلسطين، وخدم والده في حكومة الملك فيصل الأول عندما اعتلى عرش سوريا عام 1920، وتميز الصلح بتوجهه القومي العربي وارتبط بالنخبة العربية على الصعيد العالمي. كما تميزت عائلته بصلاتها الوثيقة بالعديد من الشخصيات البارزة، إذ تزوجت إحدى بناته من شقيق الحسن الثاني ملك المغرب، بينما تزوجت أخرى بأحد الأمراء السعوديين النافذين.
وعُرف رياض الصلح بانفتاحه على التعاون عبر الانقسامات الطائفية والوطنية. أما عبد الحميد كرامي، الذي ينحدر من أسرة سنّية متدينة في طرابلس شمال لبنان، فقد كان قومياً عربياً أكثر ارتباطاً بالنخب المحلية.
الميثاق الوطني اللبناني
اتفق هؤلاء السياسيون اللبنانيون وغيرهم على حل المشكلة الطائفية من خلال تقاسم السلطة والإدارة السياسية في لبنان. فعقدوا اتفاقاً غير مكتوب عُرف باسم الميثاق الوطني والذي وضع أساس الاستقرار الداخلي في مواجهة الحياد الخارجي.
- سيكون لبنان وطناً مستقلاً ضمن حدوده الحالية
- ستتعاون حكومته مع الدول العربية مع الحفاظ على روابطه مع أوروبا
- ستشارك جميع الطوائف في الحكومة والإدارة على أساس نسبي
- ستُوزع مقاعد مجلس النواب على أساس 6 نواب مسيحيين مقابل 5 نواب مسلمين
لم يحل الميثاق الوطني محل التوافقات الدستورية الرسمية وشبه الرسمية التي نشأت في فترة ما بين الحربين العالميتين، والتي تنص على انتخاب مجلس النواب لرئيس الجمهورية لفترة واحدة مدتها 6 سنوات وسيكون دائماً مارونياً، وسيكون رئيس الوزراء دائماً سنّياً؛ وسيكون رئيس مجلس النواب شيعياً، وهكذا في بقية المناصب. وهكذا أصبح بشارة الخوري رئيساً للجمهورية، وأصبح رياض الصلح رئيساً للوزراء، وتولى اللواء فؤاد شهاب، الماروني، قيادة الجيش اللبناني.
ونتيجة لهذا النظام، استند الاستقرار الداخلي اللبناني إلى التوازن الداخلي بين الطوائف الدينية. كما كان تحقيق التوازن بين الدول العربية والقوى الغربية مهماً لاستقلال لبنان على المستوى الخارجي. وإذا ما اختل هذا التوازن بأي شكل من الأشكال، فقد تصبح هذه العلاقات محفوفة بالمخاطر، وهو ما حدث في الخمسينيات.
وعلى الصعيد الدولي، حاولت الحكومة اللبنانية الجديدة الحفاظ على توازن الميثاق الوطني من خلال الانضمام إلى جامعة الدول العربية التي تأسست حديثاً والأمم المتحدة عام 1945، الأمر الذي استلزم إعلان الحرب على ألمانيا. وقد نص ميثاق جامعة الدول العربية، جزئياً بسبب إصرار لبنان، على أنّها منظمة تعاونية وأنّ قراراتها ليست ملزمة للدول الأعضاء. واعترضت القيادة المارونية تحديداً على أي شيء يمنح الحكومات العربية الأخرى السيطرة على الشؤون والسياسة اللبنانية.
توازن محفوف بالمخاطر
مع اتساع نطاق الحرب الباردة، تزايد تردد السياسيين القوميين العرب تجاه العضوية القسرية في التحالف الغربي، فكان ذلك أحد العوامل الخارجية التي ساعدت في تقويض التنظيم الداخلي للميثاق الوطني.
وازدادت الوضع خطورةً بعد حرب 1948 بين الدول العربية ودولة إسرائيل الجديدة. ولم يكن الجيش اللبناني يمثل قوة كبيرة، فلم تشارك القوات اللبنانية إلا بشكل محدود. مع انتهاء الحرب، أصبح خط الهدنة بين إسرائيل ولبنان يتبع الحدود الدولية التي كانت تفصل بين لبنان وفلسطين.
وبمجرد انتهاء الحرب، بدأت أعداد هائلة من اللاجئين الفلسطينيين في النزوح إلى لبنان. وبحلول عام 1949، كان هناك ما يُقدّر بنحو 100 ألف فلسطيني في لبنان، وارتفع إلى العدد إلى نحو 235 ألفاً عام 1969، كان معظمهم من العمال والصيادين والفلاحين من الجليل والشريط الساحلي حول حيفا وعكا. استقر اللاجئون أول الأمر في 12 مخيماً تديرها الأونروا، ثم انتشروا في المناطق المحيطة، وتوسعت مدينة بيروت لتشمل مخيمات اللاجئين التي كانت غالباً ما تقع في الأصل على أراض قفر. وبحلول أواخر الستينيات، لم يكن يعيش في المخيمات سوى ثلث الفلسطينيين في لبنان، على الرغم من أنّ المخيمات ظلّت تشكّل النواة الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني في لبنان.
لكن الحكومة اللبنانية لم تكن داعمة للاجئين، فبحلول عام 1969، لم يكن هناك سوى 3362 عاملاً فلسطينياً في لبنان يحملون تصاريح عمل قانونية، وهو الأمر الذي لم يتوافق مع توقعات القوميين العرب في لبنان الذين روجوا لتوطيد العلاقات مع الدول العربية الأخرى.

لم يكن نزوح اللاجئين الفلسطينيين السبب الوحيد وراء تقويض الميثاق، بل كان هيكل لبنان نفسه هشاً للغاية. فقد حاول الرئيس الخوري، الذي كان فاسداً لا يهتم إلا بخدمة مصالحه، تغيير الدستور والسعي إلى تولي الرئاسة لولاية ثانية. فتعاون كميل شمعون مع الزعيم الدرزي الأبرز كمال جنبلاط على إيقافه. وفي سبتمبر 1952، تولى شمعون رئاسة البلاد من خلال التلاعب بالصراعات بين الزعماء السنّة.
وأخذ الاقتصاد في النمو مع استقرار العملة والتجارة الحرة، وازدهرت المصارف بفضل التدفقات النقدية الضخمة من الدول العربية. ومع ذلك، لم تكن الثروة موزعة بالتساوي، إذ ظلّ العديد من اللبنانيين فقراء. لكن هذا الاقتصاد الليبرالي دفع لبنان إلى التقرب من أوروبا والولايات المتحدة في وقت نادت فيه الثورة المصرية الاشتراكية بالوحدة العربية.
وبعد أزمة السويس عام 1956، والتي انحازت خلالها المملكة المتحدة وفرنسا إلى جانب إسرائيل، طالب رئيس الوزراء عبد الله اليافي بقطع العلاقات مع البلدين. فكان هذا عاملاً خارجياً آخر ساهم في تقويض الميثاق الوطني.
وفي عام 1957، تعهد الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور بإرسال الولايات المتحدة مساعدات اقتصادية وعسكرية إلى الشرق الأوسط لحماية حكومات المنطقة من تهديد عدوان الأنظمة المرتبطة بالشيوعية. وأصبح مبدأ أيزنهاور هذا سياسة تتبعها الحكومة الأمريكية منذ مارس 1957، وقد لاقت ترحاب كميل شمعون الذي رأته الحكومة الأمريكية حليفاً دائماً لها في الشرق الأوسط.
ومع ذلك، رأى الزعيم السنّي الأبرز رشيد كرامي والزعيم الدرزي كمال جنبلاط، واللذان كانا من أشدّ مؤيدي عبد الناصر والجمهورية العربية المتحدة، أنّ الدعوة إلى الدعم الأمريكي الصريح يُعد انتهاكاً للميثاق الوطني. ومع تصاعد التوتر، قام شمعون بتزوير الانتخابات النيابية، وكبح جماح الجماعات الناصرية، وحرص على خسارة المعارضين من الموارنة والسنّة، مما أدى إلى احتجاج قوى المعارضة في الشارع وأضعف وضع شمعون.
في فبراير 1958، أدى تشكيل الجمهورية العربية المتحدة إلى اقتراب النظام الناصري من حدود لبنان، فطلب شمعون المساعدة الأمريكية.
واتباعاً لمبدأ أيزنهاور، أرسلت الحكومة الأمريكية قوة صغيرة من مشاة البحرية، مما سمح لشمعون بإكمال ولايته الرئاسية. ورفض قائد الجيش، اللواء فؤاد شهاب، استخدام الجيش لحفظ النظام خوفاً من الانقسامات داخل قواته متعددة الطوائف. ومن خلال تجنب تفتيت القوة الوطنية الوحيدة، برز شهاب بصفته الرجل الوحيد القادر على تولي الرئاسة.