المقدمة
وفق نصيحة الأمريكان، كان لبنان قد أعلن الحربَ على ألمانيا في أوائل عام 1945، مما سمح له بأن يصبح أحد الأعضاء المؤسسين للأمم المتحدة (26 يونيو/حزيران عام 1945) وبأن يطلب تدخل هذه المنظمة في حال اعتداء دولة أخرى عليه. وقبل ذلك، كان لبنان واحداً من الدول المؤسسة لجامعة الدول العربية في مارس/آذار 1945. ولكن جلاء القوات الفرنسية عن الأراضي اللبنانية لم يتم قبل نهاية عام 1946؛ وقبل ذلك نشأت بعض الخلافات بين الدولة المستقلة الناشئة و “حاميتها” السابقة.
بقي الرئيس الأول للبنان بشارة الخوري في السلطة حتى عام 1952، عندما تنازل عن منصبه بعد إضراب عام شل أركان البلاد. والانتخابات التي أجريت قبل ذلك بعام، لصالح الخوري، كانت مزورة في الظاهر. وبُعيد الانتخابات بقليل، اغتيل رئيس الوزراء رياض الصلح خلال زيارة له إلى العاصمة الأردنية عَمَّان. ولم يقتصر تدهور الأوضاع على ذلك. فقد هزت الانقلابات العسكرية الجارتيْن سوريا ومصر، حيث تولى جمال عبد الناصر السلطة. وعلاوة على ذلك، تسبب قيام دولة إسرائيل في عام 1948، إلى جانب الحرب العربية الإسرائيلية اللاحقة، بنزوح ما يزيد على 100,000 لاجئ فلسطيني إلى لبنان (وأعداد أكبر إلى الأردن وسوريا)، ولكن الأهم من ذلك أنها غيرت الخريطة السياسية والديموغرافية للمنطقة بالكامل.
تأثير القومية العربية
عام 1952، خلف كميل شمعون بشارةَ الخوري. وخلال السنوات التي قضاها في السلطة (1952-1958)، عارض هذا المحامي الموالي لبريطانيا جمال عبد الناصر، وذلك بالبقاء على الموالاة للقوى الغربية، على الرغم من حملة السويس. ولكن تأثير عبد الناصر– الذي أنشأ في فبراير/شباط عام 1958 الجمهورية العربية المتحدة من خلال توحيد مصر مع سوريا – على اللبنانيين كان يزداد يوماً بعد يوم. فقد فتنت فكرة القومية العربية التي روَّج لها عبد الناصر الكثيرين في لبنان وسائر العالم العربي. وفي مايو/ أيار 1958، اغتيل نسيب المتني، الصحفي اللبناني الموالي لعبد الناصر. وفجّر مقتله تمرداً في لبنان. ورغم أن المتني كان مسيحياً مارونياً، إلا أن معظم المتمردين كانوا من المسلمين. واتخذ الجيش اللبناني، بقيادة فؤاد شهاب، موقفاً محايداً في الصراع، خوفاً من انتشار النار.
تقدمت لبنان بشكوى ضد الجمهورية العربية المتحدة إلى جامعة الدول العربية ومجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، متهمةً إياها بدعم التمرد. وحاولت جامعة الدول العربية التوسط في هذا النزاع، لكنها فشلت. وقرر مجلس الأمن (القرار 129) عدم وجود دليل على اتهام بيروت.
في 14 يوليو/تموز من ذلك العام، قام ضباط عراقيون موالون لعبد الناصر بانقلاب عسكري في بلادهم. اغتيل فيه الملك فيصل الثاني ورئيس وزرائه نوري السعيد. وفي زيارة له إلى دول أوروبا الشرقية صرح عبد الناصر أن “أي هجوم على العراق سيعتبر بمثابة هجوم على الجمهورية العربية المتحدة”. وفي اليوم التالي نزلت البحرية الأمريكية في لبنان لحماية الحكومة ومناهضة نفوذ عبد الناصر المتزايد في المنطقة.
في ظل هذه الأوضاع غير المستقرة تم انتخاب فؤاد شهاب، قائد القوات المسلحة اللبنانية، رئيساً للبلاد. ونجح شهاب في استعادة الهدوء دون استخدام العنف. وفي عام 1963، حدث انقلاب عسكري في سوريا وضع نهاية للجمهورية العربية المتحدة. وسرعان ما تلا ذلك قيامُ عدد قليل من الضباط اللبنانيين الموالين لسوريا بانقلاب في لبنان، إلا أنه فشل.
فؤاد شهاب
حاول شهاب توحيد البلاد، أو على الأقل تخفيف حدة التوتر بين الطوائف. كونه مسيحياً، كان يتمتع بعلاقة طيبة مع المسلمين (وليس بالضرورة مع المارونيين اليمينين). وقد شهدت فترة ولاية شهاب للبنان – والتي استمرت حتى عام 1964- عدداً من الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية غير المسبوقة. ومن بين المؤسسات الأخرى، أسس مصرف لبنان المركزي، وحاول تقليل الاختلالات الشديدة في الدخل، وذلك من خلال تطوير المناطق الريفية وإنشاء مؤسسات الضمان الاجتماعي. إلا أنه لم يغير نظام القوانين التي كرّست الطوائف الدينية كدعائم المجتمع. كما أنه لم يعدّل القوانين الانتخابية أو إدخال قانون علماني فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، مثل الزواج والطلاق والميراث. وظلت هذه الأمور تحت السيطرة الكاملة للسلطات الدينية.
طالما يحظر الدستور على الرئيس تولي منصبه لولايتين متتاليتين، فقد أصر شهاب على الالتزام بالدستور حرفياً، ولم يسعَ إلى إعادة انتخابه مرة أخرى، رغم أنه قد يحصل على تأييد غالبية أعضاء البرلمان. وخلفه شارل الحلو. إلا أن تعاليم شهاب استمرت تحت اسم “المدرسة الشهابية” – بهدف تعزيز وحدة لبنان الوطنية ومؤسسات الدولة، والتي ضعفت المرة تلو الأخرى بسبب التوترات الدولية والإقليمية.
حرب حزيران 1967
بعد شهاب، بدأ الضعف يتسلل إلى استقرار الدولة التي كان قد شرع ببنائها، شيئاً فشيئاً. أما من الناحية الاقتصادية، أبلى لبنان بلاء حسناً، ويرجع السبب إلى حد كبير إلى الطفرة النفطية والدور الذي لعبه لبنان كمركز مصرفي إقليمي. ولكن الصراعات التي شهدتها المنطقة، والتي لم يكن للبنان أي تأثير عليها، أدت حكماً إلى زيادة حدة التوتر بين المجتمعات (الدينية) في لبنان.
كان من بين هذه الصراعات الإقليمية حرب حزيران/يونيو 1967 (المعروفة أيضاً باسم حرب الأيام الستة). فهذه الحرب لم تغير فقط من ميزان القوى في المنطقة، وإنما أيضاً من خريطتها: احتلت إسرائيل الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية (منذ 1948، ولاحقاً انضمت إلى الأردن)، وقطاع غزة (كان يدار من قبل مصر منذ 1948)، وشبه جزيرة سيناء (مصر)، والأهم من ذلك كله بالنسبة للبنان وجيرانه، الضفة الغربية في الأردن ومرتفعات الجولان (سوريا). وكانت مرتفعات الجولان جزءً من الأراضي السورية، باستثناء شريط من الأراضي الجبلية المتنازع عليها على الحدود اللبنانية، وهي مزارع شبعا وبلدة الغجر. طالبت الحكومةُ اللبنانية بهذه الأراضي على أنها لبنانية بعد الانسحاب الإسرائيلي من معظم جنوب لبنان عام 2000، رغم أنها كانت تحت الحكم السوري منذ استقلالها. (انظر اسرائيل/حزب الله/لبنان: تجنب تجدد الصراع)
جلبت حرب حزيران/يونيو معها الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان (وأكثر بكثير إلى سوريا والأردن). واستقر العديد من اللاجئين في جنوب لبنان، بالقرب من الحدود الإسرائيلية. ونتيجة لذلك، كان الجيش الإسرائيلي يشن غارات متكررة على الأراضي اللبنانية لمهاجمة المخيمات الفلسطينية، حيث كان الفدائيون يشنون عملياتهم العسكرية داخل إسرائيل. وأثبتت القوات المسلحة اللبنانية عجزها عن السيطرة على المخيمات. وهنا عرض عبد الناصر التوسط بين الفلسطينيين والسلطات اللبنانية. وأسفر ذلك عن عقد اتفاق القاهرة عام 1969.