تؤكد معظم تحليلات الهزيمة العسكرية للدولة الإسلامية في العراق وسوريا في عام 2019 على أن الجماعة ستستمر في الوجود كتمردٍ ينفذُ عملياتٍ مثل شن هجمات الكر والفر وزرع عبواتٍ ناسفة بدائية وتنفيذ عمليات اغتيال. وفي حين أن هذه نقطة مشروعة على الرغم من أن حجم “الولادة من جديد” يميل إلى المبالغة، فإن السؤال الأكثر إثارةً للاهتمام هو كيف كان رد فعل الاتجاهات الفكرية المختلفة التي ظهرت من الجماعة على هذه الهزيمة.
يمكن تحديد ثلاث اتجاهات: الاتجاه “الإصلاحي/ المنشق” الذي يؤمن أن “المتطرفين” اكتسبوا نفوذاً كبيراً داخل تنظيم الدولة “داعش،” وأنصار “التوجه الغالب” الذين يتبعون إلى حدٍ ما خطوط الدعاية والإعلان الرسمية لداعش، والاتجاه “المتطرف” الذي يؤمن أن داعش انحرفت عن مواقفها المتشددة من خلال تقديم تنازلاتٍ للاتجاه “الإصلاحي/ المنشق.”
من بين هذه الاتجاهات المختلفة، يكون رد فعل “التوجه الغالب” على هزيمة الجماعة هو الأسهل تفسيراً. كما أنه الأقل إثارةً للاهتمام لأنه يتبع نفس الخط الذي تتبعه الكثير من التحليلات التقليدية: أي التأكيد على أن داعش “باقية،” وأن خسارة الأرض لا تعني النهاية الحقيقية للخلافة. هذا هو الخط الذي روجت له دعاية داعش لبعض الوقت.
الأكثر إثارةً للاهتمام هي ردود الفعل في المعسكرات “الإصلاحية/ المنشقة” و”المتطرفة.” كما اتضح، وقبل إعلان قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة في مارس 2019 الاستيلاء على آخر مناطق الباغوز في شرق سوريا من داعش، حيث تم إصدار كتابٍ مطول على الإنترنت بعنوان “كفوا الأيادي عن بيعة البغدادي،” الذي كتبه العضو السابق في داعش أبو محمد الهاشمي. فقد سبق له أن كتب النصيحة الهاشمية في صيف 2017 موجهةً إلى زعيم داعش أبو بكر البغدادي بينما كان لا يزال مع الجماعة في شرق سوريا. يعكس كتاب الهاشمي الجديد كيف أن الخسائر المستمرة لأعمال داعش والإجراءات الداخلية أسفرت عن ظهور معارضةٍ صريحة للبغدادي ضمن الاتجاه “الإصلاحي/ المنشق.”
عنوان كتاب الهاشمي هو تلاعبٌ بعنوان كتابٍ سابق سمي “مدّوا الأيادي لبيعة البغدادي،” الذي كتبه رجل الدين والباحث في داعش، تركي بن علي. ومن المفارقات أن بن علي يعتبراً نجماً في الاتجاه “الإصلاحي/ المنشق،” لأنه انتقد ما رأى أنه تحرك داعش نحو “التطرف” قبل وفاته في غارةٍ جوية شنتها قوات التحالف في عام 2017.
على الرغم من ذلك، يؤكد الهاشمي أن عمله لا يقصد به معارضة بن علي، بل يعكس ذروة المسار الذي كان بن علي سيتخذه. كما يوضح أيضاً أنه لا يعتقد أن داعش كانت تجربة سيئة بالمجمل. فعلى سبيل المثال، ينسب إلى الجماعة إحياءها لفهم الخلافة الإسلامية وإقامة الحدود على الجرائم الخطيرة التي تعتبر تجاوزاً لحدود الله. ويؤكد أن تحالفاً هائلاً من البلدان اتحد ضد داعش، وعلى هذا النحو لم يُمنح المشروع الوقت المناسب لتطويره بالكامل.
ومع ذلك، لا تنتقص هذه المحاذير من نقطة الهاشمي الرئيسية، وهي أن البغدادي وقيادة داعش قد شوهوا تراث أبو مصعب الزرقاوي وأبو عمر البغدادي، حيث كان الأخير زعيم داعش في العراق من 2007-2010، وعلى هذا النحو كان سلف أبو بكر البغدادي المباشر. كما يدين الهاشمي أبو بكر البغدادي وقيادة داعش على سلوكهم القمعي والاستبدادي، وخاصة سجن وقتل علماء حقيقيين حاولوا تقديم المشورة لهم. وبقدر ما كان لداعش جوانب إيجابية في ذلك، كانت هذه نتيجة عمل المؤمنين “الصادقين” والمجاهدين الذين، مثل الهاشمي، تم خداعهم في الاعتقاد بأن أبو بكر البغدادي كان خليفةً حقيقي. وإذا ما ظل أي من هؤلاء الأشخاص في داعش، فإن الهاشمي يحثهم على التمرد ضد البغدادي والجماعة، بحجة أن حاكماً قمعياً مثله لا يحق له أن يُطاع. وبالمثل، يحث خباب الجزراوي، العضو السابق في داعش من أصلٍ سعودي والذي كتب مقدمة عمل الهاشمي الجديد، أعضاء داعش الصالحين في مناطق خارج العراق وسوريا على التمرد ضد قادتهم إذا ما كانوا لا يزالون موالين للبغدادي.
أما بالنسبة للاتجاه “المتطرف،” المنفذ الأساسي المتبقي هو قناة النذير العريان على تطبيق تيلغرام، وهي أداة بثٍ للرسائل الرقمية. ويبدو أن القناة الأخرى، وحرض المؤمنين، غير نشطة في الوقت الحاضر. ومثل الهاشمي، لم تمتنع قناة النذير العريان من التعليق على الأحداث التي أدت إلى خسارة داعش النهائية للأراضي في سوريا. وفي تعليقٍ في أواخر ديسمبر 2018، أدانت قيادة داعش لاضطهادها “الموحدين” الحقيقيين في الوقت الذي اعتقدت فيه أن بإمكانها الاعتماد على الأفراد ذوي النوايا الطيبة الذين سيدينون الجماعة طواعيةً لفرارها إلى أراضي قوات سوريا الديمقراطية.
ومع ذلك، أسفرت المعركة الأخيرة في الباغوز عن تحولٍ مثير للاهتمام في رواية النذير العريان. ففي مقال نُشر في مارس 2019، انتهزت القناة الفرصة لإلقاء الضوء على الاتجاه “الإصلاحي/ المنشق،” بحجة أن روايتهم عن تمتع “المتطرفين” بنفوذٍ كبير أمرٌ مثيرٌ للسخرية في ضوء التنازلات التي قدمتها لهم قيادة داعش. في الواقع، تقول قناة النذير العريان، إن هؤلاء “الإصلاحيين/ المنشقين” كانوا عملاء مزروعين، وقد أثبتوا نفاقهم من خلال الفرار إلى محافظة إدلب في غرب سوريا وإلى تركيا بعد إدانتهم في السابق لبعض “المتطرفين” لفرارهم من اضطهاد داعش. أما فيما يتعلق بقتل “الأعضاء البارزين” من الاتجاه “الإصلاحي/المنشق،” كان ذلك بسبب أعمال الخيانة وليس بسبب آرائهم الفكرية.
في هذه الأثناء، يدعي النذير العريان أن قيادة داعش تخلت عن أتباعه، تاركين أولئك الذين يلتزمون بالعقيدة الحقيقية والمتهمين بـ”التطرف” والخيانة لتحمل مسؤولية الدفاع عن ما تبقى منها وعن شؤونها في الباغوز. المسار الصحيح للأعضاء الباقين هو إدراك طبيعة أولئك الذين تخلوا عنهم وإبداء الندم على الانحراف الإيديولوجي (الجهمية، على حد تعبير النذير العريان) الذي سقطت فيه داعش.
وعلى أرض الواقع، فإن أكبر التداعيات المحتملة لهذه النقاشات حول هزيمة داعش هي إمكانية ظهور جماعاتٍ متنافسة تخلف داعش. ومع ذلك، فمن غير المرجح أن يحدث هذا في الوقت الحالي. أولاً، فقد تمثل إرثٌ مهم لداعش بتدمير خصومه في العراق وسوريا. كما أنه من غير الواضح كيف سيبدو هذا المنافس وكيف سيجعل رؤيته أكثر جاذبية للمجندين المحتملين.
هناك أيضاً مسألة مدى وعي مناصري داعش في جميع أنحاء العالم بالنزاعات الداخلية التي اندلعت أساساً في العراق وسوريا ودوائر التيلغرام الصغيرة نسبياً عبر الإنترنت. عندما حدث الانقسام، كما هو الحال في غرب إفريقيا، تم ذلك في سياقٍ شهد مشاكل داخلية طويلة الأمد قبل تعهد الولاء لداعش. وفي هذه الحالة، كان “تطرف” وغرابة أبي بكر شكاو، وهو شخصية جذابة تجمع حولها أتباعٌ لتشكيل الجماعة التي قادها في الأصل، على خلافٍ مع داعش التابعة لغرب أفريقيا. وفي الوقت الحالي، بالكاد هناك أي أدلةٍ على تكرار هذه الظروف في أماكن أخرى خارج العراق وسوريا.