حسين الزعبي
ستة أشهر مضت على إعلان النتائج الرسمية للانتخابات البرلمانية العراقية وما زالت القوى السياسية تنتهج سياسة إغراق الخصوم في التفاصيل بغية تعطيل إنجاز الاستحقاقات الدستورية وأهمها تشكيل الحكومة.
هذا النهج بدا واضحا من قبل القوى الموالية لإيران والمنضوية في “الإطار التنسيقي”. ويضم الإطار -الذي يتزعمه رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي – القوى السياسية الشيعية وقادة الفصائل المسلحة التي لم تحقق في الانتخابات التشريعية الأخيرة ما حققته في الدورات السابقة. فهذه القوى ترفض أن تتشكل في البلاد حكومة يطلق عليها مقتدى الصدر، متزعم التيار الصدري الذي حاز على 73 مقعدا، حكومة أغلبية وطنية، من خلال تحالفه مع ائتلاف السيادة، صاحب المقاعد الأكبر سنيا، والحزب الديمقراطي الكردستاني الرابح الأكبر لمقاعد المكون الكردي في البلاد.
الإطار التنسيقي يرفض ما يذهب إليه الصدر ويرى فيه ضربا للمكون الشيعي، علما أن الكتلة الصدرية كتلة شيعية. ويصر الإطار، مدعوما من إيران، على تشكيل حكومة “توافقية” تشارك فيها كل القوى، وهو النهج نفسه الذي تشكلت وفقه الحكومات العراقية بعد العام 2003 والتي انتفض عليها الشباب العراقي في العام 2017 وأطاح بحكومة عادل عبد المهدي، وبناء على ذلك الحراك جرت الانتخابات البرلمانية الأخيرة وكانت انتخابات “مبكرة”.
المحكمة الاتحادية في البلاد شكلت بوابة واسعة لمحاولات التعطيل التي بدأت منذ الجلسة الأولى للبرلمان العراقي وكان محورها دور ومهام رئيس البرلمان الذي يتولى الجلسة الأولى، وعادة يتولاها أكبر الأعضاء سنا، ويتم من خلالها وفق الدستور انتخاب رئيس للبرلمان الجديد. إلا أنها لم تُنجز كما ينبغي، إذ أسفرت مشادات داخل البرلمان عن إصابة رئيس السن محمود المشهداني ونقله إلى المستشفى. وفي الجلسة نفسها، انتخب محمد الحلبوسي، المرفوض من قبل قوى الإطار، رئيسا للبرلمان، لتبدأ بعدها سلسلة متواصلة من القضايا المرفوعة أمام المحكمة الاتحادية منها ضد شرعية فتح باب الترشح لرئاسة الجمهورية وأخرى تتعلق بأهلية المرشحين ومنهم وزير الخارجية الأسبق هوشيار زيباري مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني المدعوم من التحالف الثلاثي “الصدر – السيادة – الديمقراطي الكردستاني” لتستمر معها البلاد في حكومة تسيير أعمال.
الثلث المعطل..
منصب رئيس الحكومة، الأهم في المشهد السياسي العراقي على اعتبار أن الدستور منحه صلاحيات واسعة تتقلص أمامها صلاحيات رئيس الجمهورية، فضلا عن أنه، وفق العرف السياسي المتبع في العراق بعد العام 2003، من نصيب المكون الشيعي، وهو أكبر المكونات السكانية في البلاد.
هذا المنصب جرت العادة أن يتم التوافق عليه شيعيا، بعد الحصول على موافقة ضمنية إيرانية، ثم يطرح على الأطراف الأخرى كـ “تحصيل حاصل”. إلا أن هذا المشهد لم يتكرر في هذه الدورة. فالمشروع الذي يذهب إليه الصدر لا يلتقي مع مشروع الإطار التنسيقي. ولأول مرة بدا أن إيران “أخفقت” حتى الآن على الأقل في ثني الصدر عن توجهه رغم الزيارات المتكررة لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني لبغداد بغية إنجاز تسوية داخل “البيت الشيعي”.
في الوقت نفسه، لم يستطع الصدر، بفعل التعطيل المستمر، من إنجاز الخطوة الأهم. كما أخفق الجميع حتى الآن في حسم منصب الرئاسة، الذي دخل أيضا في متاهات انقسام البيت الشيعي. ورغم أن العرف السياسي في البلاد جعل هذا المنصب من نصيب الأكراد، إلا أن تحالف حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي ينتمي إليه الرئيس العراقي الحالي، المنافس للديمقراطي الكردستاني، والمقرب تاريخيا من إيران أيضا، دخل في تحالف مع قوى الإطار وتحول إلى قوى معطلة لمشروع التيار الصدري من زاوية منصب الرئاسة. كما دخل من بوابة المحكمة الإدارية التي اشترطت، عبر تفسير بدا جديداً للنص الدستوري أن يكون انتخاب رئيس الجمهورية بأغلبية الثلثين حضوراً ونصاباً. ففي حال لم يحصل المرشح على 220 صوتاً من عدد الحضور، يمكن أن ينتخب بالأغلبية البسيطة شريطة أن يبقى نصاب الجلسة يمثل أغلبية الثلثين.
تفسير ذلك أنه في حال لم يحصل توافق بين كل القوى السياسية، بما في ذلك الحزبان الكرديان الرئيسيان (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني)، فإن أي مرشح لا يراد له أن يمر حتى لو كان مقدراً له الحصول على الأغلبية البسيطة يمكن أن يسقط في حال انسحبت كتلة سياسية، وهو ما يعني اختلال نصاب الجلسة.
وهذا ما يشكل عقدة كبيرة يصعب تخطيها من دون توافق مسبق. وعلى الرغم مما بدا انتصاراً لجماعة التحالف الثلاثي بشأن فتح باب الترشح، ترى النائب عن ائتلاف دولة القانون عالية نصيف أن «تصويت البرلمان ربما يكون شابه خرق قانوني كونه اعتمد النصف زائد واحد ولم يعتمد الثلثين». نصيف أضافت إن «بعض القوى السياسية ستذهب إلى المحكمة الاتحادية، للاستفهام بشأن المدد الدستورية، حيث انتهت تلك المدة، ولا يمكن إعطاء البرلمان مدة جديدة، ثلاثين يوماً”.
وفي حال تم الطعن أمام المحكمة الاتحادية مجدداً في غضون اليومين المقبلين، فإن المدد التي لم تعد دستورية سوف تتمدد بانتظار قرار «الاتحادية» الجديد. وفي حال أقرت الطعن، فإن قرار إعادة فتح باب الترشح لم يعد دستورياً، وهو ما يعني بقاء الوضع على ما هو عليه، وسيبقى الحزب الديمقراطي هو المتضرر الأكبر. أما في حال راعت «الاتحادية» للمرة الثانية التوازن السياسي المطلوب، فإن البرلمان سوف ينتظر نهاية «الإشعار الآخر» المرهون بالتوافقات والمساومات.
بانتظار القرار الإيراني..
الباحث في الشأن السياسي العراقي ميسم الجنابي يرى في حديثه لـ “فنك” أن الفوضى السياسية، والتي تحولت إلى فوضى دستورية يمكن أن تنتهي بكلمة واحدة توجهها إيران لقوى الإطار التنسيقي للتخلي عن سياسة التعطيل. إلا أن هذا، والكلام للجنابي، مرتبط بحسابات طهران قبل أي شيء آخر.
الجنابي يشير، في هذا السياق، إلى تناغم القوى المتحالفة مع إيران، ولاسيما المسلحة منها، مع الطروحات الإيرانية في تصريحاتها وأفعالها. ففي فترة ما، تحركت تلك الفصائل ضد الإمارات متهمة إياها بتزوير الانتخابات. وفي مرحلة لاحقة، تم التهديد بقصفها بالطائرات المسيرة، بل ذهبت بعض الطروحات إلى أن الطائرات المسيرة التي استهدفت الإمارات لم يكن مصدرها ميليشيات الحوثي اليمنية إنما الفصائل العراقية.
لكن ذلك التصعيد ضد الإمارات بدأ يتلاشى بعد أن زار المسؤول الإماراتي طحنون بن زايد إيران، لتتجه الأمور إلى محور آخر وهو تصعيد الاستهدافات “الطائفية” كما يصفها الجنابي، من خلال ضرب مقرات الأحزاب السنية، والترويج لوجود تشكيلات جديدة منبثقة عن تنظيم “الدولة الإسلامية” مثل “أشباح الصحراء” التي تبين أنها ليست أكثر من فقاعة إعلامية.
كل هذا برأي الجنابي يأتي في سياق إبقاء الحال على ما هو عليه، ريثما يخرج الدخان الأبيض من فيينا بشأن الاتفاق النووي الإيراني. فإن كانت المخرجات ملائمة تنطلق العملية السياسية في العراق وإن كانت لا تتوافق والرغبة الإيرانية، سيبقى العراق واحدة من الساحات التي يمكن أن تفجرها إيران عبر حلفائها إن كان في ذلك مصلحة لها، من دون نسيان المعطيات التي قد تفرضها الحالة الأوكرانية.
الجنابي يدلل على رؤيته بالانسجام الكامل بين الفصائل المسلحة في العراق مع صانع القرار الإيراني، بالأزمة الأوكرانية. فموقف إيران الأقرب لروسيا وجد انعكاسه في تصريحات قادة وإعلاميي الإطار التنسيقي التي تؤيد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وعلى سبيل المثال، ذهبت ميليشيات “عصائب أهل الحق” التي يتزعمها قيس الخزعلي إلى تعليق صورة ضخمة وسط بغداد، وبالقرب من مقرها، للرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع عبارة باللغة الانكليزية “نحن ندعم روسيا”، في مخالفة واضحة للمزاج الشعبي العام المؤيد لأوكرانيا، والمعارض كذلك للموقف الحكومي الساعي لتبني خيار “الحياد”، في محاولة لتجنب أي أضرار محتملة تسببها المواقف السياسية. وفي هذا الإطار، امتنع العراق، على المستوى الدبلوماسي عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي «يطالب روسيا بالتوقف الفوري عن استخدام القوة ضد أوكرانيا».
روسيا التي لاشك أنها تعلم من هو صاحب الكلمة الفصل على الأرض العراقية، استثمرت تلك الحالة المؤيدة لبوتين في أوساط حلفاء إيران، وأعلنت قنصليتها في البصرة جنوبي البلاد عن استمرارها بتلقي طلبات التطوع من مواطنين عراقيين للانضمام إلى صفوف الجيش الروسي للمشاركة في حرب أوكرانيا. وقالت القنصلية في البيان إنها «مستمرة بتلقي طلبات الانضمام إلى صفوف القوات المسلحة الروسية التي تقوم بعملية عسكرية ضد النظام النازي في أوكرانيا المدعوم من طرف أميركا وحلفائها من (دول) الناتو». وأضافت: «وبهذا الصدد، نود إبلاغكم أن القوات الروسية لديها القوة الكافية لحل هذه المشكلة. نشكركم على التفاهم والتضامن معنا». وتستبعد مصادر في البصرة فضلت عدم ذكر اسمها أن تكون هناك رغبة من المواطنين العراقيين في التطوع فعلاً للمشاركة في الحرب إلى جانب روسيا.
على المستوى الاقتصادي، أظهر البنك المركزي العراقي قدراً أكثر جرأة حين اقترح على الحكومة عدم إبرام أي عقود جديدة، وتعليق التعاملات المالية مع روسيا عقب فرض وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على موسكو.
وقال البنك في وثيقة رسمية صادرة عنه وموجهة إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء: «نود إعلامكم أنه بسبب الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، قامت وزارة الخزانة الأمريكية بفرض عقوبات على مؤسسات مالية واقتصادية روسية، لغرض الحد من قدرات روسيا في الحرب». وأضاف أنه وبهدف «حماية النظام المالي العراقي، فإننا نقترح التريث في الوقت الحاضر في إبرام أي عقود حكومية مع الجانب الروسي، والتريث في تحويل أي مدفوعات مالية من خلال النظام المالي في روسيا».
موقف البنك المركزي يعكس التوجه السياسي لحكومة تصريف الأعمال برئاسة مصطفى الكاظمي. فهذه الحكومة سعت منذ تشكيلها إلى وضع العراق على سكة تعيد الحياة إلى مفهوم الدولة الذي فقدته البلاد جراء التدخلات الخارجية وقوى الأمر الواقع المتمثلة بالفصائل المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة. وضمن هذا المشهد، يبقى الملف العراقي واحدا من أهم الملفات التي تنجز تفاصيله في عواصم القرار، عالميا وإقليميا، فيما يبحث المواطن العراقي عن قوت يومه في بلد يطفو على بحر من النفط.