تشير دراسات عدة نشرت مؤخراً إلى أنه من الصعب ـ وربما المستحيل ـ اليوم القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) نهائيا مهما كانت الوسائل المستخدمة في ذلك
في مقابلة مع صحيفة “غلوبال بوست” الأمريكية في الرابع عشر من الشهر الجاري، أشار وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند إلى عزم بلاده فعل ما يلزم لتدمير داعش، لكنه ذكر من بين ما ذكره أنه من غير الممكن “قصف أيديولوجية ما بالطائرات”. نعم، هذا في الحقيقة ما بات يتفق عليه كثيرون اليوم.
تشير دراسات عدة نشرت مؤخراً إلى أنه من الصعب ـ وربما المستحيل ـ اليوم القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) نهائيا مهما كانت الوسائل المستخدمة في ذلك، والسبب ـ حسب تلك الدراسات ـ ليس القوة العسكرية لهذا التنظيم وتمتعه بالموارد والعدة والعتاد فحسب، بل هو تلك الأيديولوجية التي أتى بها وعمل على نشرها وسيكون من الصعب استئصالها بقوة السلاح، حتى لو تم تدمير داعش عسكرياً ومالياً.
تقوم الدعاية الإعلامية المعلنة لداعش على بعث العصر الذهبي للخلافة الإسلامية التاريخية وإلغاء الحدود بين البلدان التي كانت تضمها تلك الخلافة آنذاك، بل و”فتح” بلدان أخرى وضمها إليها، في حين يدعي قادة التنظيم أن أراضي هذه الخلافة سيسودها “شرع الله”، وهو تعبير يعتبر جذاباً بالنسبة لكثير من المسلمين على أنها اختصار لمبادئ العدالة والمساواة، وعلى هذا الأساس تقوم داعش بتجنيد مئات الشباب من مختلف بقاع الأرض، وباستجرار التبرعات المالية لدعم تنظيمها وأجندته.
لكن تبقى الدموية المفرطة (من قطع للرؤوس ومشاهد الإعدام والقتل رجماً) التي تحرص داعش على إظهارها من خلال التسجيلات المصورة محل جدل وتساؤل بالنسبة للكثيرين، فبينما تسعى معظم الحركات الناشئة ـ عادةً ـ إلى تقديم نموذج أفضل من أجل استقطاب الأتباع، تسعى داعش إلى تسليط الضوء على ممارساتها الدموية كجزء أساسي من أجندتها الإعلامية.
وحسب باحثين في شؤون الجماعات الإسلامية فإن من أسس للفكر الشرعي الذي تتبناه داعش حالياً هم أربعة أشخاص مصريين: حلمي هاشم المكنى بـ”شاكر نعم الله”، وأبو مسلم المصري قاضي القضاة في داعش، وآخر يحمل نفس الاسم وكان ـ قبل أن يتم قتله ـ القاضي الشرعي لداعش في مدينة حلب، والرابع هو شخص يدعى أبو الحارث المصري. ويضاف إلى هؤلاء، شخص يدعى أبو شعيب، لكن الأخير انشق عن داعش مؤخراً وكال الاتهامات ضد أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم وتراجع عن كثير من فتاواه.
يكشف النظر في ممارسات أفراد التنظيم وقواعده مبالغة في الدموية والميول السادية، وهي ميول تعرضت للانتقاد حتى من بعض غلاة الفكر الديني المتطرف، إذ يذكر أن بعض قادة تنظيم القاعدة انتقدوا العنف الذي تمارسه داعش بحق المدنيين العزل، وهو ما أدى في مطلع هذا العام إلى إعلان الانفصال التام بين القاعدة وداعش.
الثأر
يشكل “الثأر” عنصراً أساسياً في بروباغندا داعش، فقادته يركزون على أن “دولتهم” سوف “تثأر” لكرامة الإسلام والمسلمين التي “استباحها الكفار”. وبالنسبة لداعش فإن عبارة “كفار” تتسع لكل من يخالفهم الرأي، بما في ذلك المسلمين السنة ممن يتبعون تفاسير تختلف ـ ولو قليلاً ـ عن تفسيرهم للشريعة الإسلامية.
ولدعم هذا العنصر في خطابهم، يركز منظرو داعش على “التهميش” الذي لحق بالسنة في بعض مناطق الشرق الأوسط الخاضعة لأنظمة “غير سنية”. كما يشيرون إلى حروب العراق وأفغانستان وفضائح سجن أبو غريب وغوانتانامو وإلى الشيشان وبورما على أنها قصص تعكس “اضطهاد المسلمين من قبل غيرهم”.
ففي سورية ـ على سبيل المثال ـ يستخدم مناصرو داعش الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد بحق المدنيين خلال الأحداث السورية كمبرر لوحشية أفراد التنظيم، رافعين شعار “الثأر” أو “القصاص” للمسلمين، مركزين على حقيقة انتماء الفئة الحاكمة في سورية إلى الطائفة العلوية التي يكفرونها، وعلى أن أغلبية من قضوا على أيدي النظام كانوا من السنة.
لكن إرهاب داعش طال أعداداً كبيرة من المسلمين السنة أنفسهم ولم يقتصر على غيرهم من الطوائف. وإلى جانب ذلك، فإن أقليات دينية مثل المسيحيين والأزيديين تعرضت لما يشبه الإبادة وبشكل دموي من قبل داعش بينما لم تكن أي منها قد انخرطت على نحو شامل في “اضطهاد” أو “تهميش” المسلمين السنة.
ويرى الباحث السياسي في جامعة يال الأميركية ستاثيس كاليفاس أن هذه المبالغة في العنف ليست عشوائية، وإنما الهدف منها هو إضعاف أعداء التنظيم وترسيخ حكمه في المناطق التي يسيطر عليها من خلال ترهيب الشعب، ويضيف كاليفاس: “إن أساس عنف التنظيم يأتي من السياسة وليس من الدين”. بينما يعتقد ثلة من الباحثين أن تنفيذ الإعدامات الدموية أمام عدسات الكاميرة ترمي إلى استفزاز الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية واستجراراه إلى المنطقة.
ويشرح الكاتب السياسي عبد الرحمن الراشد أهداف داعش من نشر التسجيلات المصورة الدموية بأنها تسعى إلى إظهار قدرة داعش على البقاء على سطح الإعلام وحصوله على أعلى الموضوعات التي تناقش، ويضيف أن التنظيم حقق هذا الهدف من خلال بشاعة التسجيلات والصور التي يبثها. “هدف هذه التسجيلات هو أن تصدم الناس بأقصى وأقسى ما يمكن من صور لقطع الرؤوس، وقتل المدنيين العزل جماعيا، وملاحقة النساء ورجمهن. لم يسبق حتى لتنظيم القاعدة، الذي قَص شريط العنف المصور، أن تمادى كما يفعل مقاتلو داعش”
وحسب الراشد فإن الهدف من هذه الدموية ليس التدليل على الشراسة فقط بل وإظهار أن هذا التنظيم قادر على “تجنيد المزيد من خلال التحدي، والتغيير، والترويج لتفسيره الخاص بالإسلام”.
وما انفكت داعش ترسخ أيديولوجيتها في المناطق التي تسيطر عليها بشتى الوسائل، وكان من آخر هذه الخطوات قيام التنظيم مؤخراً بابتداع مناهج دراسية جديدة استبدلت فيها كلمات مثل “الجمهورية العربية السورية” بـ”الدولة الإسلامية” وأزيلت منها جميع مفاهيم القومية والوطنية ليحل محلها الانتماء للدين فقط، والتأكيد على أن بلاد المسلمين هي البلاد التي يقام فيها “شرع الله”، وقد أعيد إخراج هذه المناهج بطريقة تلتزم حرفياً بتفاسير داعش للشريعة الإسلامية وتبرر كل ما تقوم به من أفعال.
وينظر الباحث السياسي مايكل كوبلو إلى الفكر الداعشي على أنه فكر ثوري يسعى إلى قلب الواقع الراهن وإلى التوسع المستمر، مما يجعله ـ أي هذا الفكر ـ قابلاً للنجاة والعودة إلى الحياة حتى بعد القضاء على الكيان الذي يمثله. ويشبه كوبلو أيديولوجية داعش “بالروح” في الروايات الخرافية والتي لا تفنى بموت الجسد الذي يحملها بل تنتقل إلى جسد آخر. “ستبقى (أيديولوجية داعش) متربصة في مكان ما حتى تتبناها مجموعة أخرى وتبعثها من جديد… المشكلة في خطاب أوباما الأخير هو أنه يضع أهدافاً لا يمكن تحقيقها.. لربما يكون ممكناً إبعاد داعش عن المشهد، لكن لا يمكن التخلص من الإطار الأوسع للمشكلة من خلال الضربات الجوية ولا حتى إنزال قوات على الأرض”.
لكن البعض يرى أن الحل في هذه المرحلة يكمن في التأسيس لنموذج فكري يتسم بالاعتدال ويشكل بديلاً لداعش وللأنظمة الإقليمية التي يرى كثيرون فيها السبب لظهور هذا النوع من الحركات المتطرفة، فحسب الكاتب السياسي عبد الحميد الأحدب، الحل هو في التأسيس “لعصر النور الفكري والديني الإسلامي العصري، وعصر النور العلماني الذي يرسي الحرية والمساواة واحترام كرامة الإنسان”.
أما مدير المركز القومي الأمريكي لمكافحة الإرهاب ماثيو أولسن، فيرى أن الحل الأمثل للقضاء على الحركات الجهادية وأولها داعش يتمثل بدمج السياسة مع العمليات العسكرية: “مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية هي عملية معقدة وطويلة المدى، والحل العسكري فقط غير مجد بل يجب أيضا إيجاد حلول سياسية بديلة، وهذا الأمر ممكن فقط في حال سقوط نظام بشار الأسد وتشكيل حكومة وحدة وطنية تشمل كل الأطراف المتصارعة، وبذلك تستطيع الولايات المتحدة فرض رؤيتها السياسية التي طرحها الرئيس باراك أوباما ومكافحة الخطر الإرهابي”.