تتنافس فرنسا وإيطاليا على قيادة المحاولات الدبلوماسية لتحقيق الاستقرار في ليبيا، بيد أن جهودهما من شأنها أن تزيد من تفاقم الصراع.
في مايو 2018، استضافت باريس محادثاتٍ ضمت العشرات من المندوبين ورؤساء الدول، فضلاً عن أربعة شخصيات ليبية متنافسة: فايز السراج، الذي يقود حكومة طرابلس المدعومة من الأمم المتحدة؛ واللواء خليفة حفتر، الذي يرأس السلطة المناوئة- الجيش الوطني الليبي المعلن ذاتياً في الشرق؛ وعقيلة صالح عيسى، رئيس البرلمان والمعارض للسراج؛ وخالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا. وعلى الرغم من أن المحادثات جمعت اللاعبين الرئيسيين في الصراع الليبي، إلا أن روما كانت غائبةً بشكلٍ ملحوظ: إذ كانت تتعامل مع أزمتها السياسية الخاصة، التي أشعلها تفكك الحكومة الائتلافية الإيطالية.
في مؤتمر باريس، وافق القادة الليبيون المتنافسون على إجراء الانتخابات بحلول 10 ديسمبر، والتي توقع الخبراء أنها غير قابلة للتنفيذ. وفي أغسطس، صرح السفير الإيطالي في ليبيا، جيوزيبي بيروني، للصحفيين أنه لا يريد إجراء انتخاباتٍ في ليبيا بأي ثمن. وعليه، أثار تصريحه احتجاجاتٍ في شوارع العديد من البلدات الليبية.
وقال عامر أبو دية، أستاذ العلوم السياسية في جامعة طرابلس، لصحيفة جلف نيوز: “سعى السفير لاستفزاز الشعب الليبي من خلال إثارة إرث إيطاليا الاستعماري في ليبيا.”
وعلى الرغم من تعليق بيروني، تأجلت الانتخابات الليبية عندما اندلعت اشتباكاتٌ عنيفة في طرابلس بنهاية أغسطس واستمرت لمدة شهرٍ كامل. أثناء القتال، قام وزير الداخلية اليميني المتطرف في إيطاليا، ماتيو سالفيني، بمهاجمة فرنسا.
قال سالفيني للصحفيين، “يجب على إيطاليا أن تدافع عن السلام والاستقرار في منطقة البحر الأبيض المتوسط ولا يجب أن يحل توغل الآخرين، الذين لا يفعلون ذلك سوى لأسباب اقتصادية، محل السلام.”
من جهته، شجع فشل فرنسا في تحقيق الاستقرار في البلاد إيطاليا على تنظيم مؤتمرها الخاص، الذي عقد في مدينة باليرمو في 12 نوفمبر. وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب قد أبدى وجهة نظره بالموضوع مؤيداً طموح إيطاليا إجراء محادثاتٍ عندما أشاد “بالدور القيادي لإيطاليا في تحقيق استقرار ليبيا وشمال إفريقيا،” في يوليو 2018.
ولكن كحال محادثات باريس، لم يساعد المؤتمر في باليرمو على استقرار البلاد، بل بالكاد خرج بوعدٍ من الجنرال خليفة حفتر بعدم مهاجمة الحكومة المنافسة في طرابلس. ومنذ ذلك الحين، اعترف المسؤولون الإيطاليون والفرنسيون بأن اختلاف المصالح هي المسؤولة عن التنافس الحاصل في ليبيا.
على صعيدٍ متصل، يفضل الإيطاليون التعامل مع حكومة الوفاق الوطني المدعومة دولياً في طرابلس. فقد وقعت إيطاليا على اتفاقيات مع حكومة الوفاق الوطني، والتي تسمح للميليشيات باعتراض قوارب المهاجرين وإعادتهم إلى مراكز الاعتقال المروعة في ليبيا. بل وصل الأمر إلى إرسال إيطاليا سفناً حربية لمساعدة المليشيات في هذه المهمة، وأرسلت قواتها للاحتراس من طرق التهريب في جنوب البلاد. وفي حين أن الهجرة هي القضية الإساسية، تمتلك روما أيضاً مصالح في تأمين أصول الطاقة المربحة في ليبيا.
لكن فرنسا لديها أهداف مختلفة، فالرئيس إيمانويل ماكرون، أولاً وقبل كل شيء، يؤيد استقرار الجنوب الليبي، حيث يستغل المهربون والجهاديون الحدود التي يسهل اختراقها مع السودان وتشاد والنيجر. فقد ألقت باريس بثقلها وراء ظهر حفتر وتعتقد أنه أفضل شخصٍ لمكافحة الإرهاب في ليبيا وتأمين دائرة اهتمام فرنسا بمنطقة الساحل.
بيد أن الجنوب الليبي هو نقطة التنافس الرئيسية بين إيطاليا وفرنسا، إذ حاولت كلتا الدولتين التوسط بشكلٍ منفصل لوضع حدٍ للقتال القبلي في الوقت الذي تستغل فيه الميليشيات لتأمين مصالحها. ومع ذلك، أدى عدم التنسيق بين فرنسا وإيطاليا إلى تفاقم التوترات المحلية.
بل إن زعيم قبيلة أولاد سليمان، وهي قبيلة بارزة في الجنوب، قد قال في أبريل 2018 أن الفصائل المختلفة في المنطقة تجري محادثاتٍ تحت إشراف فرنسا. وكان من المقرر أن تحل أهداف المحادثات محل اتفاق “الاستقرار” السابق الذي توسطت فيه إيطاليا في عام 2017.
من جهته، لاحظ ماتيو إيلاردو، وهو باحثٌ في المعهد النمساوي للسياسة الأوروبية والأمنية، أن روما وباريس “أعميتا بسبب طموحات الطراز الاستعماري،” وأن مبادراتهما في ليبيا “غالباً ما تتداخل أو تتنافس.”
كما تقول فيديريكا سايني فاسانوتي وبن فيشمان، المعلقين على الشؤون الليبية، إن المنافسة بين فرنسا وإيطاليا في ليبيا لها علاقة بالسياسة الأوروبية أكثر من كونها تتعلق بالمصالح المتباينة.
وكتبت فاسانوتي وفيشمان في فورين أفيرز: “يعتبر ماكرون نفسه – وفرنسا – حامل راية الاتحاد الأوروبي، مدافعاً عن القيم الليبرالية والتعاون الدولي في وقتٍ تتزايد فيه النزعة القومية الشعوبية.” وأضافا “من الطبيعي أن يرى [ماكرون] في الحكومة الإيطالية الجديدة تهديداً لرؤيته السياسية.”
النفور لدى كلا الحكومتين من بعضهما البعض آخذٌ في التزايد. ففي خطابٍ ألقاه في 21 يونيو، حذر ماكرون من أولئك الذين يكرهون أوروبا وقارن الشعبوية بـ “الجذام،” في انتقادٍ مبطن للحكومة الإيطالية.
سارع نائب رئيس الوزراء الإيطالي وزعيم حركة خمس نجوم، لويجي دي مايو، إلى الرد على هذا التعليق، إذ قال إن الجذام الحقيقي هو نفاق ماكرون الذي أدان سياسات الحدود الإيطالية لكنه لم يسمح لسفينة إنقاذ بها 600 مهاجر بالنزول في فرنسا.
لم تتوقف المشاحنات منذ الصيف الماضي، وفي 22 يناير 2019، استفز سالفيني الحكومة الفرنسية مرةً أخرى عندما قال إن فرنسا لا تهتم بإحلال الهدوء في ليبيا لأن مصالحها في مجال الطاقة تعارض مصالح إيطاليا.
بينما قال مسؤولٌ في مكتب ماكرون إن الاتهام لا أساس له من الصحة و”مثير للسخرية،” في حين حاول رئيس الوزراء كونتي التخفيف من الضرر الذي أسفرت عنه تصريحات سالفيني بإخبار المراسلين بأن العلاقات بين البلدين ما زالت قوية.
في حين أن هذا قد يكون صحيحاً، إلا أن العلاقات الدبلوماسية في تباعدٍ واضح، إذ تجلى ذلك بعد أن استدعت فرنسا نائب رئيس الوزراء الإيطالي، لويجي دي مايو، عندما اتهم فرنسا بنهب موارد أفريقيا من خلال الاستعمار وتوليد هجرة جماعية إلى أوروبا. ويحذر أبو دية، الأستاذ في جامعة طرابلس، من أن التنافس المستمر سيكون له عواقب وخيمة على بلاده.
وقال لجلف نيوز: “إن التنافس بين إيطاليا وفرنسا لا يشكل بأي حالٍ من الأحوال عاملاً إيجابياً يؤدي إلى أي تقدمٍ في العملية السياسية البطيئة في ليبيا،” وتابع القول “بل على العكس، فهي تغذي الانقسامات بين الليبيين.”