يمثل تهريب البشر والإتجار بهم والهجرة غير الشرعية بكافة تجلياتها مشكلةً مؤرقة للسودان، على كلا الصعيدين الداخلي والخارجي، وتشكل حجر عثرةٍ في علاقاته الاقليمية الدولية المأزومة اصلاً. نتيجةً لذلك، يتعرض السودان في عام 2018 لضغوط جدية للتعاون مع الاتحاد الاوربي والمجتمع الدولي في الحد من موجات الهجرة لأوروبا من وعبر أراضيه.
الملايين يتأهبون
تعاني الكثير من دول العالم من مشكلة الهجرة بطريقةٍ أو بأخرى، إلا ان معاناة السودان ثلاثية الابعاد، حيث يعتبر السودان مصدراً رئيسياً للمهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين من مواطنيه الاصليين ومقصداً للمهاجرين من دول الجوار وغيرها من الدول البعيدة، الهاربين من أوضاع أسوأ مما في السودان. كما يتخذه مئات الآلاف من الاجانب من السودان معبراً للنفاذ منه إلى دولٍ اخرى في طريقهم إلى الجنة الموعودة في أوروبا.
يعيش في السودان ما يقارب ثلاثة ملايين نسمة ممن يمكن أن يتعرضوا لمخاطر الإتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية. ويشكل اللاجئون الاجانب، خاصة من دولتي جنوب السودان و إريتريا، 900 الفٍ منهم فيما يبلغ عدد السودانيين النازحين محلياً بسبب الاضطرابات الامنية والحروب الاهلية حوالى 2,2 مليون شخص. ويحتل السودان المرتبة الثانية افريقياً، من بعد أوغندا، في استضافة اللاجئين الاجانب والمرتبة الثانية في عدد النازحين داخلياً من مواطنيها، بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
يضاف إليهم مئات الالاف من الشباب السودانيين من مناطق شمال ووسط السودان المستقرة امنياً من الذين انسدت الافاق امامهم جراء الاوضاع الاقتصادية المتدهورة ونسب البطالة العالية والتضخم المريع وانخفاض قيمه العملة الوطنية ومعاناة التهميش بسبب الحروب والعنف والاستبعاد الاجتماعي واشكال التمييز المختلفة. يُشكل جميع هؤلاء جيشاً جراراً من الحالمين بالهجرة الي أوروبا بحثاً عن حياةٍ افضل.
ويمثل السودان بحدوده المترامية البالغة 6700 كيلومتراً مع سبعة دولٍ يصعب إحكام السيطرة عليها، معبراً دولياً مفتوحاً لضحايا الإتجار وتهريب البشر والباحثين عن الحلم الأوروبي من دول الجوار الافريقي، وبخاصة الشباب الإريتري الفارين من الخدمة العسكرية غير المحدودة الامد في بلادهم والاثيوبيين الهاربين من الفقر. كما ينشط في تهريب البشر عبر الحدود الشرقية للسودان مواطنون سودانيون ينتمون لقبائل محلية متداخلة بين السودان واريتريا خاصة قبيلتي الرشايدة والبني عامر.
تهريبٌ أم تجارة؟
تقوم جميع عمليات الهجرة غير الشرعية التي يعمل فيها وسيطٌ أو وسطاء على تحقيق المنفعة المالية المادية المباشرة للوسيط، غير أن الباحثين والمنظمات الدولية المهتمة بالهجرة تميّز بين نوعين، هما عمليات تهريب البشرة وتجارة البشر من حيث العلاقة بين المهربين وزبائنهم أو ضحاياهم. فعلاقة المهرب بعملائه تقوم على التراضي والاتفاق فيما تعتمد علاقة تجار البشر بضحاياهم على الغش والاستغلال وإساءة المعاملة. تنتهي علاقة المهرب بزبائنه بنهاية العقد ووصوله الي مقصده، فيما تستمر علاقة تجار البشر بضحاياهم لوقتٍ طويل يتعرضون خلاله للاستغلال البشع وسوء المعاملة. ويحقق مُهرّب البشر مكاسبة المالية من نقل وايواء وتسهيل دخول المهاجرين غير الشرعيين لبلدٍ آخر وتزويدهم بالوثائق وغيرها من الخدمات، أما تجار البشر فيحققون مكاسبهم المادية من استغلال ضحاياهم وابتزازهم وذويهم وربما تشغيلهم في أعمال شاقة والدعارة والمخدرات وغيرها من الانشطة غير القانونية.
مسارات تهريب البشر من السودان
يعتبر تهريب السودانيين واللاجئين الاجانب عبر الحدود الشمالية الغربية إلى ليبيا أكبر وأهم مسارات الهجرة. فقد ساهم ضعف سيطرة الحكومة السودانية على بعض مناطق إقليم دارفور وغياب الدولة المركزية في ليبيا وانهيار الأمن وانتشار مناطق سيادة المليشيات في ليبيا منذ سقوط نظام القذافي في اكتوبر 2011، في تدفق آلاف المهاجرين الافارقة إليها.
وتشير تقاريرٌ للأمم المتحدة أن عدد مهاجري القوارب من ليبيا إلى أوروبا قد قفز من 15 ألف مهاجر عام 2012 الي حوالى 180 ألفاً عام 2016، قبل ان ينخفض بمقدار الثلث عام 2017. وقد مات غرقاً في البحر المتوسط أكثر من ثلاثة آلاف مهاجر سنوياً خلال السنوات الخمس الماضية في “قوارب الموت في البحر الابيض المتوسط.”
تنطلق نسبة كبيرة من هؤلاء من العاصمة الخرطوم ومدن شمال دارفور عبر الصحراء الكبرى في رحلاتٍ شاقة عبر دروبٍ غير مطروقة أودت بحياة الكثيرين منهم. تتم هذه الرحلات بقيادة مهربي بشرٍ يديرون اعمالهم من ذات المدن.
فقد صدم تقريرٌ مصور اعدته قناة سي أن أن الامريكية عن استرقاق وبيع مهاجرين افارقة بينهم سودانيون في ليبيا، الرأي العام العالمي. ونشرت الصحف السودانية تقارير عديدة عن اختطاف واحتجاز سودانيين كرهائن في ليبيا ومطالبة ذويهم بدفع فديةٍ لإطلاق سراحهم. وتمكنت شرطة الخرطوم من اعتقال بعض المُختَطِفين وهم يتسلمون الفدى في الخرطوم من ذوي المُختَطفين في اغسطس 2018.
ينطلق المسار الثاني من معسكرات اللاجئين الاريتريين والاثيوبيين شرقي السودان حيث يقيم اكثر من 100 ألف لاجئ، اغلبهم إريتريين؛ فيما يعيش في السودان اكثر من اربعة اضعاف هذا العدد من الاريتريين. ويعبر هذا المسار الحدود السودانية المصرية بمحاذاة البحر الاحمر بطرقٍ جبلية وعرة لا يعرفها إلا السكان المحليين وينتهي في شبه جزيرة سيناء في مصر لتبدأ منها محاولات العبور لإسرائيل حيث يعيش 35 الفاً منهم حالياً. وهذا المسار يسلكه في الغالب الاريتريون فقط، حيث ان معظم طالبي اللجوء السودانيين في اسرائيل قد دخلوا مصر بطرق شرعية ثم عبروا الحدود معرضين انفسهم لنيران حراس الحدود المصريين والاسرائيليين الذين قتلوا الكثير منهم. وقد تمكنت السلطات المصرية من اغلاق هذا المسار تقريباً منذ عام 2014 بعد أن احكمت إسرائيل اغلاق حدودها، اضافةٍ إلى أن تدهور الاوضاع الامنية في سيناء قد حد من عدد القادمين اليها.
لعبة الضغوط المزدوجة مع أوروبا
مع تصاعد موجة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عام 2013 نتيجةً لانهيار الاستقرار في ليبيا وسوريا، تنبهت أوروبا للدور المحوري للسودان كدولة مصدر ومعبر للاجئين خاصة الإريتريتين الذين تزايد عددهم في أوروبا من 14 ألفاً عام 2012 الى 37 الفاً عام 2014، وعدد مماثل تقريباً عام 2015 قبل ان ينخفض لاحقاً، لربما بتأثيرٍ جزئي من الاجراءات السودانية.
وبالرغم من المشكلات الامنية والسياسية والاقتصادية التي يسببها تدفق اللاجئين الاجانب على السودان، واستخدام اراضيه كمعبرٍ إلى ليبيا ثم أوروبا، إلا أن حكومة الخرطوم تمكنت بدهاء من تحويل اللاجئين لورقة قوية في مواجهة أوروبا للحصول على مساعداتٍ مالية مقدرة وفك طوق العزلة الدولية عنها.
فقد استخدمت الحكومة السودانية ورقة الرغبة الأوروبية الملحة في الحد من الهجرة غير الشرعية عبر اراضيها لتحسين موقفها السياسي التفاوضي مع الأوروبيين. تغيرت المواقف الأوروبية تجاه السودان تدريجياً في العقد الثاني من الالفية من المقاطعة والتضييق وتكرار الحديث عن أوضاع حقوق الانسان وضحايا الحرب في دارفور، إلى مرحلة التعاون والتفاهم مع حكومة السودان خاصة في قضية مكافحة الهجرة.
توج هذا التعاون بزيارة، نيفين ميميكا، مفوض التعاون الدولي في الاتحاد الاوروبي، للخرطوم في أبريل 2016 حيث اعلن عن منح الاتحاد الأوروبي مبلغ 100 مليون يورو لعامي 2016 و2017 لتنفيذ مشاريع لتحسين الأوضاع الاقتصادية وخدمات الصحة والتعليم في المناطق المتأثرة بالنزاعات والتي تستضيف اعداداً كبيرة من اللاجئين والنازحين وتشكل نقطة انطلاقٍ لمسارات الهجرة التي يستغلها مهربو وتجار البشر. كما وفر الاتحاد الاوروبي 60 مليون يورو أخرى للسودان لنفس الغرض في اكتوبر 2017، ثم 61 مليون اخرى عام 2018 خصصت لمكافحة الهجرة غير الشرعية والتغير المناخي. بالإضافة إلى ذلك، يستفيد السودان من برامج مساعدات أوروبي آخر في مجال الامن الغذائي.
كما طالبت الحكومة السودانية بأن تشمل المساعدات الأوروبية أيضاً تعزيز الأمن على الحدود بدعم مراكز الشرطة ومرافق الاحتجاز وتزويد السودان بطائرات ووسائل نقلٍ لدعم عمليات مكافحة تهريب البشر، وذلك في زيارةٍ قام بها ممثلو ست دول غربية مانحة للسودان في ابريل 2018.
جهود مكافحة تهريب البشر
صدر أول قانونٍ لمكافحة تهريب البشر في السودان عام 2014؛ حيث استضاف السودان في نفس العام مؤتمراً دولياً اشرفت عليه منظمة الوحدة الافريقية والمفوضية السامة للأمم المتحدة لشؤون الاجئين والمنظمة الدولية للهجرة.
فقد نشطت أجهزة الشرطة والأمن السودانية بشكلٍ ملحوظ بعد الاتفاق والدعم الأوروبي. وقدمت السلطات السودانية برهانها بتسليم ايطاليا مواطناً اريترياً يدعي مريد مدهاني، والذي يُعتقد انه اخطر مهرب بشر في يونيو 2016، إلا أن تقارير صحفية لاحقة اكدت ان السلطات السودانية قد سلمت الايطاليين شخصاً آخرا وان مريد مدهاني يعيش حراً في أوغندا. كما أوردت الصحف السودانية والأجنبية تفاصيل عن احباط العشرات من عمليات تهريب البشر والإتجار بهم طوال السنوات الاربع الماضية. وتمكنت وحدات قوات الدعم السريع، السيئة السمعة، من اعتقال مهاجرين غير شرعيين في الصحراء في طريقهم إلى ليبيا ليس فقط من السودان والدول المجاورة له فحسب، بل حتى من دول مثل النيجر والكونغو وجزر القمر وبنغلاديش وسوريا، وتخلل بعض هذه المحاولات اشتباكاتٍ دامية مع المهربين سقط في أحدها 19 قتيلاً من الطرفين.
لكن هذه الجهود يشوش عليها الفساد الذي ينخر في اجهزة تطبيق القانون، حيث رصدت العديد من حالات تواطؤ بعض العاملين في اجهزة انفاذ القانون مع مهربي البشر وتعاونهم مقابل المال. وقد اتهمت تقارير أمريكية سابقة الحكومة السودانية بالعجز عن ملاحقة موظفيها الذين يعتقد أنهم يشاركون في تسهيل عمليات تهريب البشر مقابل الحصول على المال وكذلك التقصير في ملاحقة المهربين.
وفي سبتمبر 2018، أعلن الفريق محمد حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، أن قواته ستكف عن ملاحقة مهربي البشر في الصحراء لأن المجتمع الدولي لا يعترف بجهودهم ولا يقدرها، الأمر الذي يعني انه يطالب بنصيب قواته من الدعم الاوروبي. ومع ذلك، قد تبطىء قوات الدعم السريع وتيرة بعض أنشطتها لبعض الوقت لممارسة الضغوط، ولكن من غير المحتمل أن توقفها بشكل تمام ذلك أنها جزءٌ من التزام الحكومة السودانية تجاه الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي؛ ولا شك في أن الإخلال بمثل هذا الالتزام سيقابل بالرفض، أو ما هو أسوأ من ذلك، وقف المساعدات المالية التي يحتاجها السودان بشدة.