الطريقة البراغماتية التي اعتمدها كيليتشدار أوغلو لاستمالة أصوات القوميين الأتراك ستهز صورته أمام الناخبين الراغبين بالتغيير.
نبيل محمد
يبدو أن استهداف اللاجئين السوريين بات الورقة الأخيرة التي يعلّق عليها مرشح المعارضة التركية كمال كيليتشدار أوغلو آماله للوصول إلى سدّة الرئاسة في تركيا.
هذا الاستهداف بات أكثر وضوحاً للشارع التركي مع اقتراب انطلاق الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التركية المقرر عقدها يوم 28 مايو 2023. وعلى سبيل المثال، تُظهر اللافتات المعلقة في عدّة ميادين رئيسية بمدينة إسطنبول صورة كيليتشدار أوغلو مع عبارة تدعو اللاجئين السوريين في تركيا لمغادرة البلاد علانيةً.
وعلى امتداد حملته الانتخابية، اعتاد كيليتشدار أوغلو في كلّ خطاب أن يهدد اللاجئين، سيّما وأن ترحيل اللاجئين يعتبر من النقاط المفصلية في برنامجه الانتخابي. والآن، باتت هذه النقطة المحور الأساسي لخطاب المرشّح المعارض والذي يتولى رئاسة حزب الشعب الجمهوري.
وكما هو معروف، فإن مرشح اليمين سنان أوغان لم يتمكن من الوصول إلى المرحلة النهائية من الانتخابات الرئاسية. وعلى ذلك، من المفترض أن يمنح داعمي أوغان صوتهم إما للرئيس التركي الحالي رجب طيّب إردوغان أو لكيليتشدار أوغلو بسحب ما يتوافق بشكلٍ أكبر مع برنامج المرشح اليميني الانتخابي.
ويحاول كيليتشدار أوغلو أصوات اليمين المتطرّف في البلاد بالخطاب المعادي لوجود اللاجئين والداعي لترحيلهم. وبطبيعة الحال، فإنّ هذا النوع من الخطاب قريبٌ ممن يمثّلهم أوغان. ومع ذلك، لم يختر أوغان توجيه مناصريه للتصويت لكيليتشدار أوغلو، بل دعاهم لدعم إردوغان لاعتباراتٍ سياسية.
موقف أوغان غير الداعم لكيليتشدار أوغلو جاء كنتيجة لتقارب حزب الشعب الجمهوري مع الأحزاب الكردية. يضاف إلى ذلك تحالف حزب الحركة القوميّة مع إردوغان، وهو الحزب الأساسي الذي تنتمي إليه عقيدة أوغان.
يأتي ذلك في وقتٍ واصل فيه كيليتشدار أوغلو تصعيد خطابه الداعي لترحيل السوريين. وفي فيديو نشره عبر صفحته في موقع تويتر قبل أيام، قال: “إذا كنتم تحبون وطنكم فقرروا! 10 ملايين سوري لم تكفِ. أيأتي 20 مليوناً آخرين؟”. وبطبيعة الحال، فقد لفت هذا التصريح الانتباه، سيّما وأنه استند على إحصائيات غير دقيقة. ووفق موقع الهجرة التركيّة، فقد وصل عدد اللاجئين السوريين المسجلين في تركيا حتى منتصف مايو 2023 إلى 3381429 لاجئاً.
خط كيليتشدار أوغلو السياسي
منذ انتسابه لحزب الشعب الجمهوري، كان كيليتشدار أوغلو وجهاً من الوجوه القيادية في الحزب. ويعود ذلك إلى تاريخه المهني الطويل الذي تنقّل فيه بين عدّة مناصب كان أهمّها مدير عام التأمينات الاجتماعية.
وبدأت تجربة كيليتشدار أوغلو في العمل السياسي عام 2002 بانتمائه لحزب الشعب الجمهوري. وفي نفس العام، تم انتخابه عضواً في البرلمان التركي. وفي عام 2007، أعيد انتخابه مرّةً أخرى. وفي عام 2009، رشحه الحزب لرئاسة بلدية إسطنبول، لكنه لم يحصل على الأصوات الكافية حينها للفوز وخسر لصالح مرشح حزب العدالة والتنمية قدير توباش.
وترأس كيليتشدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري منذ عام 2010، بعد استقالة قائد الحزب السابق السياسي المخضرم دينيز بايكال. ومنذ ذلك الحين، خاض الحزب أربعة انتخاباتٍ برلمانية في 2011 و2015 و2018 و2023 لم يتمكّن فيها من الانتصار على منافسه الأساسي حزب العدالة والتنمية.
التقدّم الأهم الذي حققه كيليتشدار أوغلو خلال رئاسته لحزب الشعب الجمهوري هو الانتصار بالانتخابات البلديّة عام 2019 في أهم المدن التركية والتي كان منها إسطنبول وأنقرة. وأبرزت تلك الانتخابات للساحة السياسية التركية أسماءً جديدة في الحزب، اعتُقِد شعبياً وإعلامياً أنه سيتم ترشيح أحدها للانتخابات الرئاسية الحالية. ومن تلك الوجوه أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، ومنصور يافاش، رئيس بلديّة أنقرة. ورغم كلّ التخمينات، فقد استقر الحزب على ترشيح كيليتشدار أوغلو للانتخابات الرئاسية الحالية.
ويعتبر حزب الشعب الجمهوري أقوى أحزاب المعارضة التركيّة وأكثرها جماهيرية، إذ يمثّل قيم العلمانية التركية التي أسسها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك. ويلتزم الحزب أربعة مبادئ أساسية يعتبرها محددات مشروعه السياسي الذي كان المسؤول عن إنشاء الجمهورية وهي “الجمهورية” و”الشعبوية” و”القومية”، و”العلمانية”. وقاد الحزب تركيا منذ تأسيسه وحتى 1950. وبعد ذلك، أصبح الحزب حزباً منافساً، لم تتح له الانتخابات المشاركة في الحكم إلا من خلال حكوماتٍ ائتلافية مع أحزاب أخرى.
وعارض كيليتشدار أوغلو السياسات الداخليّة والخارجية لأردوغان. ويتضمّن مشروعه السياسي حسب قوله إبعاداً لتركيا عن “الهيمنة الروسية”، وانفتاحاً على دول الاتحاد الأوروبي، وصلحاً مع النظام السوري. كما أنّ برنامجه يدعو لإعادة اللاجئين السوريين والأفغان إلى بلادهم.
وحقق كيليتشدار أوغلو تأييداً شعبياً من قبل مؤيدي حزبه، ومن قبل تيارات سياسية أخرى وخاصة في الأواسط الكرديّة. وتزايدت تلك الشعبيّة بعد المسيرة التي قادها لمسافة 450 كيلو متراً من أنقرة إلى إسطنبول، وأطلق عليها اسم “مسيرة من أجل العدالة”. وجاءت المسيرة اعتراضاً على اعتقال السلطة لشخصياتٍ تركية معارضة ولاتهام معارضين بالارتباط بمدبّري المحاولة الانقلابية، التي اتهمت السلطة التركية “حركة الخدمة” بقيادة فتح الله غولن بتدبيرها سنة 2015.
واعتبرت المسيرة حينها حراكاً مدنياً استثنائياً ومؤثراً، خاصة بعد إعلان زعيم حزب الشعوب الديمقراطية المسجون صلاح الدين دميرتاش تأييده لها. وهو ما أدى إلى تشكّل وجهة نظر مؤيّدة لكيليتشدار أوغلو بين بعض التيارات السياسية الكرديّة، التي يعتقد أنها دعمته في الجولة الأولى من الانتخابات الحالية.
انقسام المعارضة
في فبراير 2022، تشكّلت الطاولة السداسيّة في تركيا. وتضم الطاولة في صفوفها قادة ست أحزاب تركية معارضة. وإلى جانب كيليتشدار أوغلو، تشمل القائمة زعيمة حزب الجيّد ميرال أكشنار، وزعيم حزب السعادة تمل كرم الله أوغلو، ورئيس حزب الديمقراطية والتقدم علي باباجان، وزعيم حزب المستقبل أحمد داود أوغلو، ورئيس الحزب الديمقراطي غول تكين أويصال.
وبدأت الطاولة اجتماعاتها عام 2022 لتحدد مشروعها السياسي الموحّد في مواجهة حزب العدالة والتنمية في البرلمان وإردوغان في قصر الرئاسة. واتفقت الأحزاب على خط سياسي يهدف إلى إنشاء نظام برلماني معزز في تركيا.
واعتبرت الطاولة السداسيّة نقلةً نوعيّةً في العمل السياسي المعارض في تركيا. ووصفت بأنها أقوى تحالف سياسي معارض لإردوغان منذ وصوله للسلطة. وبني هذا الاعتقاد على فرضيتين، أولهما أنها تضم تيارات معارضة متباينة بأيديولوجياتها من العلمانية إلى المحافظة الدينية إلى القومية. وثانيها أنها تضمّ كبار قادة العمل السياسي المعارض الرافضين لأردوغان، ومنهم أكبر منشقين عن حزبه أي أحمد داوود أوغلو، وعلي باباجان.
ورغم الاتفاق على تشكيل جبهة موحّدة، إلا أن الخلافات الكثيرة كادت أن تؤدي إلى تشتت وانقسام هذه الجبهة. وكان أبرز تلك الخلافات قضيّة ترشيح منافس إردوغان في الانتخابات الرئاسية. وظهر هذا الخلاف للعيان في مارس 2023 عندما أعلنت أكشنار قرارها بترك الطاولة اعتراضاً على ترشيح كيليتشدار أوغلو. وقالت أكشنار حينها: “حزبنا عالقٌ بين كفي كماشة. نحن مجبرون على الاختيار بين الموت والملاريا”.
وبعد يومين من انسحابها، عادت أكشنار إلى الطاولة بعدما اشترطت أن يكون نائبا كيليتشدار أوغلو – في حال فوزه بالرئاسة – أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش. ويبدو أن أكشنار كانت ترغب بترشيح أحدهما إلى الرئاسة بدلاً من كيليتشدار أوغلو، على اعتبار أنّ هذا الأخير لا يلقى قبولاً لدى جمهور حزبها الجيّد. ويعرف هذا الحزب بتوجهه القومي اليميني، وهو حزبٌ منشق عن حزب الحركة القومية اليميني الموالي لأردوغان حالياً.
بعد الجولة الأولى من الانتخابات، صعّدت أكشنار أيضاً من الخطاب القومي. وربطت بين التصويت لكيليتشدار أوغلو وترحيل اللاجئين السوريين. وقالت: “انتخابات الجولة الثانية هي اختيارٌ بين من يتجنبون ترحيل السوريين، وبين من يخططون لترحيلهم خلال عامين”. وقصدت أكشنار بتصريحها مشروع كيليتشدار أوغلو الرامي لترحيل اللاجئين خلال عامين من تسلّمه للسلطة. ومع التصعيد الأخير في خطاب كيليتشدار أوغلو تجاه ترحيل اللاجئين بأسرع وقتٍ ممكن، فقد توازى خطابه مع خطاب أكشنار.
خطاب كيليتشدار أوغلو الذي استهدف اللاجئين بشدة خلال الأيام الماضية حقق تقارباً واضحاً مع رئيس حزب الظفر المعارض أوميت أوزداغ. ويشتهر أوزداغ بمواقفه اليمينيّة المتطرّفة ضد اللاجئين السوريين، وبتصريحاته التي تستهدفهم بين وقتٍ وآخر. ومن تصريحاته المثيرة للجدل أنّ اللاجئين السوريين “سيتسبّبون بحربٍ أهلية في تركيا”، وبأنهم “من أسباب الأزمة الاقتصادية في البلاد”، وبأنهم “يلوّثون الطعام الذي يأكلونه”.
من مناضل فقير إلى قومي متشدد
عاش كيليتشدار أوغلو بداية حياته في أسرة فقيرة. وحسب روايته عن طفولته، فإنه استعار مريول صديقه ليحضر حفلة مدرسيّة لأنه لم يكن يمتلك مريولاً. ومنذ البداية، كان مشروعه السياسي يحمل شعاراتٍ القضاء على الفقر، ومناصرة الضعفاء، وتغليب مبادئ التعددية والديمقراطية، إلى درجة أن تم وصفه إعلامياً بأنّه “غاندي تركيا”.
بيد أن التغيّر الواضح في خطاب كيليتشدار أوغلو مبنيٌّ على براغماتية سياسيّة تريد كسب الأصوات حتى وإن كان الثمن جعل ترحيل ملايين اللاجئين مشروعه للوصول إلى السلطة. وبطبيعة الحال، فإنّ هذا التحول يختلف بنيوياً عن شعارات محاربة الفقر والوقوف في صف الضعفاء. وهو أيضاً ما غيّر من وجهة النظر تجاهه حتى من قبل بعض الدوائر الغربية التي كانت ترى فيه رجلاً طيباً قادماً لتحقيق التغيير السياسي في تركيا. ومؤخراً بدأت بعض وسائل الإعلام الغربية تصف كيليتشدار أوغلو بأنه قومي متشدد.
وقبل سنوات، حاول كيليتشدار أوغلو الخروج من العزلة التي عانى منها حزبه خلال سنوات حكم العدالة والتنمية لتركيا. وتضمن مشروعه الانفتاح على بقيّة الأحزاب الأخرى، حتّى تلك التي تختلف كلياً بأيديولوجيتها عن حزب الشعب الجمهوري. وعلى هذا الأساس، كسب جزءاً من التيارات الإسلامية، وكذا من الكرديّة. ومع ذلك، فقد كان خلافه الأوضح مع التيار القومي الذي رفض في البداية ترشحه إلى الانتخابات. وكانت طريقة كيليتشدار أوغلو في جذب القوميين إليه هي تبنٍّ مطلق لخطابهم تجاه اللاجئين.
وتشير الوقائع إلى أن اعتماد هذا الخطاب وحده لا يكفي. وإلى جانب ملف اللاجئين، فإن هناك ملفات مرتبطة بالسياسات تجاه التيارات الكرديّة. كما أن هناك ملفات أخرى تتعلق بالسياسات الداخلية والخارجيّة.
ولم يحقق كيليتشدار أوغلو نجاحاً ملحوظاً على مستوى جذب القوى المحافظة الإسلامية. ويقتصر نجاحه الوحيد في جذب حزب السعادة الإسلامي. بيد أن حزب السعادة، وهو من الأحزاب الحليفة لكيليتشدار أوغلو في الطاولة السداسية، لا يستند إلى شعبية قويّة. ولطالما فشل الحزب في تخطي عتبة الـ 10% للوصول إلى البرلمان. ولم يدخله إلا بعد الخوض في تحالفاتٍ مع أحزاب كبرى أمّنت له مقاعد برلمانية.
ولا يلغي ذلك الحليف الإسلامي أن توجّه المحافظين دينياً في تركيا بعيدٌ بمعظمه عن كيليتشدار أوغلو. فهذا الأخير علماني الأفكار وينتمي دينياً للطائفة العلويّة، وهو ما قد يؤخذ بالحسبان بالنسبة للناخب المحافظ.
بين كيليتشدار أوغلو وأردوغان
أدرك أردوغان قبل كيليتشدار أوغلو بكثير أهميّة كسب أصوات جمهور الأحزاب اليمينيّة. ويظهر هذا الإدراك من خلال تحالف الرئيس التركي مع حزب الحركة القوميّة. وبدأ هذا التحالف على شكل تقارب منذ 2016. وتحوّل التقارب إلى تحالف معلن في 2018. وكسب أردوغان عدّة ملفات منها تحويل نظام الحكم في البلاد من برلماني إلى رئاسي، وهو ما أكسبه صلاحيات واسعة.
بدوره، لم يهمل أردوغان الحديث عن قضية إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، بل وكانت أقواله مرتبطة أحياناً بأفعال. وشهدت تركيا خلال الأعوام السابقة عمليات ترحيل للاجئين سوريين باتجاه الأراضي السورية، إضافة إلى توقيف إقامات الكثيرين منهم. وواصل إردوغان إطلاق الوعود بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. وترافقت تلك الوعود مع جملة “بعد توفير ملاذ آمن لهم في بلادهم”، وأحياناً دونها.
المرشحان تسابقا لاستمالة أصوات اليمين التركي. وتستمر حالياً المعركة الانتخابية بينهما لكسب المزيد من الأصوات قبل بدء المرحلة النهائية من الانتخابات. ويعمل كلٌّ منهما على الحفاظ على الأصوات التي حصل عليها في المرحلة الأولى، إضافة إلى كسب الأصوات المتأرجحة والقابلة لتغيير موقفها بناء على تطورات خطاب أطراف الصراع الرئاسي، أو تلك القادمة من مرشح آخر خسر في المرحلة الأولى.
أمام هذا المشهد، يبدو موقف بعض الناخبين الحائرين بين أردوغان وكيليتشدار أوغلو صعباً. فهم يرغبون بحدوث تغيّر سياسي في بلادهم التي يحكمها أردوغان منذ 22 عاماً. ويريدون التخلص من القبضة الأمنية المتزايدة، والسيطرة الرسميّة على أغلب وسائل الإعلام، وسهولة اعتقال المعارضين والناشطين السياسيين بتهم جاهزة. كما أنّ هناك من ينظر إلى التردّي الاقتصادي التركي خلال الأعوام الأخيرة كنتيجة لسياسات فاشلة قامت بها السلطة الحاكمة.
الفئة التي تريد إحداث التغيير لا بد وأن تفكر في كيليتشدار أوغلو. بيد أنها ستجد نفسها أمام بديلٍ تنقّل تدريجياً من علماني منفتح إلى قومي متعصّب وقادر على تغيير موقفه بسرعة كبيرة كسباً للأصوات بطريقة قد لا تكون مجدية. وعلى ذلك، فإن سيكون الاختيار صعباً بلا شك.