أثارت استثمارات قطر الأخيرة والجهود الإنسانية في لبنان وسوريا مخاوف بشأن نفوذها السياسي في المنطقة، خاصة مع الدول القوية مثل إيران وفرنسا وروسيا تركيا.
علي نور الدين
تسارعت الخطوات التي حاولت من خلالها قطر مؤخّرًا تعزيز حضورها في لبنان وسوريا، من خلال القيام بأنشطةٍ استثماريّةٍ متنوّعة، بالإضافة إلى تقديم بعض المساعدات الإنسانيّة والهبات. ورغم الطابع الاقتصادي والإغاثي الذي يحيط بهذه المبادرات، يبدو من الواضح أن كل ما يجري على هذا الصعيد أتاح لقطر لعب دور سياسي أكبر في البلدين.
هذا الواقع يطرح السؤال اليوم حول الديناميكيّة التي ستحكم علاقة قطر بأبرز الدول المؤثّرة في شؤون الدولتين، كحال إيران وفرنسا بالنسبة للبنان، وإيران وتركيا وروسيا بالنسبة لسوريا. أمّا الأهم، فهو أنّ الدولتين تعانيان من انسداد أفق التسويات والتفاهمات السياسيّة، بالإضافةِ إلى تعقّد وتشعّب الأزمات الاقتصاديّة، الأمر الذي يفتحُ الباب على السؤال عن أثر دخول قطر على جميع هذه الملفّات.
الحضورُ القطري الاستثماري المُستجد في لبنان
يُعد لبنان حاليًّا بيئة معاكسة، أو بالحد الأدنى غير جاذبة، للاستثمارات الأجنبيّة. فالانهيار المالي القائم اليوم لا يسمح للنظام المصرفي بلعب أيّ دور يخدم هذه الاستثمارات، كما هو الحال في أيّ اقتصاد طبيعي. أمّا الفوضى النقديّة، فترفعُ من مخاطر أي عمليّات استثماريّة وازنة، بسبب عدم ضمان توفّر العملة الصعبة بأسعارٍ مستقرّة على المدى المتوسّط.
في الوقت نفسه، ترتفع مخاطر أي علاقة تعاقديّة مع الدولة اللّبنانيّة، بسبب حالة التعثّر التي تعاني منها، وامتناعها عن سداد ديونها بالعملات الأجنبيّة منذ نحو ثلاث سنوات، دون إعادة هيكلة هذه الديون حتّى اللّحظة. كما ترتفع أيضًا مخاطر الأحداث الأمنيّة والانفجارات الاجتماعيّة غير المتوقّعة، بسبب ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وتهالك مؤسسات الدولة.
هذه الصورة السوداويّة، أبعدت –منذ أواخر العام 2019- جميع الصناديق والشركات العالميّة عن السوق اللّبنانيّة، إلى حد انعدام التدفّقات الاستثماريّة الأجنبيّة إلى لبنان بشكلٍ شبه تام. أمّا الدول، ففرملت كل استثماراتها المحتملة، بانتظارِ توقيع اتفاق الدولة اللّبنانيّة مع صندوق النقد، الذي يفترض أن يضمن سير لبنان على أساس خطّة تعافٍ واضحة.
وحدها قطر قررت السير بالاتجاه المعاكس تمامًا، عبر الدخول في استثمارات جديدة ووازنة، بمعزل عن تداعيات الأزمة الماليّة. فعلى سبيل المثال، في أواخر شهر كانون الثاني/يناير 2023، دخلت شركة قطر للطاقة رسميًّا كشريك بنسبة 30%، في كونسورتيوم التنقيب عن الغاز واستخراجه، في البلوكين 4 و9 اللبنانيين.
وجاء دخول شركة قطر للطاقة، المملوكة من الحكومة القطريّة، ليملأ الفراغ الذي ولّده خروج شركة نوفاتيك الروسيّة من رخصة الكونسورتيوم، وتنازلها عن حصصها بالكامل. أمّا شركاء شركة قطر للطاقة الحاليون في هذه الرخصة، فهما شركة “إيني” الإيطاليّة وشركة “توتال” الفرنسيّة، اللتان امتلكتا هذه الحصص منذ تلزيم البلوكين 4 و9 عام 2017، أي قبل حصول الانهيار المالي.
وكان من اللافت للنظر أنّ شركة قطر للطاقة كانت شركة الطاقة الدوليّة الوحيدة التي عرضت الحصول على الحصّة التي تنازلت عنها شركة نوفاتيك الروسيّة، مما يعني أنّ دخول قطر المستجد كشريك أنقذ الأنشطة البتروليّة في البلوكين 4 و9. ولم يكن ابتعاد شركات الطاقة الدوليّة الأخرى عن لبنان مسألة مرتبطة بحصص شركة نوفاتيك في البلوكين 4 و9 فقط، بل شمل جميع الأنشطة البتروليّة في لبنان منذ 2019، وفي جميع بلوكات النفط والغاز.
لم تقتصر الاستثمارات القطريّة الوافدة إلى السوق اللبنانيّة على قطاع الطاقة، بل شملت أيضًا قطاعي العقارات والفنادق، رغم محدوديّة الأرباح التي يحققها القطاع العقاري في لبنان اليوم. كما بدأت قطر خلال الفترة الماضية بجمع معلومات عن الوضعيّة الماليّة لعدد من المصارف اللبنانيّة المتعثّرة، تمهيدًا للدخول على خط شراء حصص فيها، خلال عمليّة إعادة هيكلتها.
مساعدات وهبات لمؤسسات الدولة اللبنانيّة
لم يقتصر الاهتمام القطري بلبنان على الجانب الاستثماري فقط، بل شمل كذلك تقديم رزم من المساعدات لمؤسسات الدولة اللبنانيّة، التي يعاني معظمها اليوم من شلل كامل نتيجة الأزمة الماليّة. فعلى سبيل المثال، عملت قطر على منح الجيش اللّبناني رزمًا متتالية من المساعدات النقديّة بالدولار الأميركيّة، لتمكين قيادة الجيش من توزيع جزء من الرواتب للعسكريين بالعملة الصعبة، بعد أن انهارت قيمة رواتبهم المقوّمة بالليرة اللّبنانيّة.
كما تقدّمت قطر على سائر الدول العربيّة والأجنبيّة الأخرى في حجم المساعدات التي قدمتها لمؤسسات الدولة الأخرى، في قطاعات التعليم والصحّة والإعلام والبيئة، بالإضافة إلى المساعدات الإنسانيّة الموجهة إلى المناطق النائية من خلال جمعيّة قطر الخيريّة. أمّا صندوق قطر للتنمية، فدخل على خط توزيع المخصصات النقديّة الشهريّة للاجئين السوريين، بالتنسيق مع المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وغالبيّة هذه المساعدات، جرى تقديمها بشكل مباشر للدولة اللّبنانيّة أو الفئات المستفيدة منها، بعيدًا عن آليّات التنسيق الدوليّة التي حاولت فرنسا والمملكة العربيّة السعوديّة فرضها، لتوحيد المساعدات وتقديمها بشكل جماعي للبنان. وبذلك كانت قطر تسعى إلى التمايزعن سائر الأطراف الدوليين في علاقتها مع لبنان، ربما لمحاولة تعزيز العلاقة الثنائيّة مع الدولة اللبنانيّة، من دون ربطها بحسابات الأطراف الأخرى.
مشاريع استثماريّة ومساعدات في الشمال السوري
لم يختلف الأمر في مناطق الشمال السوري، الواقع تحت سيطرة المعارضة المسلّحة. فمنذ أواخر العام 2022، بدأت قطر بالعمل على مشاريع استثماريّة في مجال العقارات والأبنية، لتلبية الطلب التجاري على المساكن، الناتج عن الكثافة السكّانيّة في هذه المناطق. كما بدأت قطر بالتنسيق مع الجانب التركي لإقامة مشاريع أخرى في مجالات التعليم والصحّة والصناعة وتوليد الكهرباء، بالاستفادة من وجود نقصٍ كبيرٍ في الرساميل والاستثمارات في هذه القطاعات.
في مجال المساعدات الإنسانيّة والإغاثيّة، أطلقت جمعيّة قطر الخيريّة في شباط/فبراير 2023 مشروع “مدينة الكرامة” في الشمال السوري، الذي يهدف إلى إنشاء مجمّعات سكنيّة قادرة على استيعاب 600 أسرة متضرّرة من الزلزال الأخير. كما أعلنت الحكومة القطريّة عن بدء شحن 10,000 وحدة من البيوت النقّالة والمقصورات التي تم استخدامها في كأس العالم، إلى الشمال السوري، بهدف إيواء اللاجئين الذين خسروا منازلهم في الزلزال.
وفي جميع هذه المبادرات، استفادت قطر من علاقتها المميّزة بالنظام التركي، الذي يتمتّع بنفوذ وحضور عسكري مباشر في شمال سوريا، بالإضافة إلى تأثيره على الميليشيات التي تسيطر على تلك المناطق. ولهذا السبب، مثّلت مشاريع قطر في شمال سوريا جزءًا أساسيًّا من التفاهمات التي عقدها أمير قطر تميم بن حمد مع الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، في لقائهما المباشر في شهر أكتوبر/تشرين الأوّل 2023.
مع الإشارة إلى أنّ قطر نفّذت في العديد من المراحل مشاريعها الإنسانيّة في شمال سوريا بالشراكة مع تركيا نفسها، كحال المشروع السكني الذي تم تنفيذه قرب مدينة الباب، الذي نفذّه الهلال الأحمر القطري مع الهيئة التركيّة لمواجهة الكوارث والحالات الطارئة.
وبينما سعت قطر من خلال هذه المشاريع إلى توسيع حضورها المباشر في الشمال السوري، استفاد الجانب التركي من قدرة هذه المشاريع على استيعاب جزء من اللاجئين السوريين داخل مناطق شمال سوريا، بدل زيادة أعداد اللاجئين السوريين داخل الأراضي التركيّة.
تعزيز الحضور السياسي في لبنان وسوريا
مع توسّع نطاق الاستثمارات والمساعدات الإنسانيّة، تعزّز الحضور السياسي القطري وتأثيره في كل من لبنان وسوريا. ففي لبنان، تمكنت قطر من لعب دورٍ بارز في مسار ترسيم الحدود البحريّة اللبنانيّة الإسرائيليّة، عبر مساعدة الولايات المتحدة في حلحلة العقد المتعلّقة بالمفاوضات. وهذا تحديدًا ما يفسّر زيارات الوسيط الأميركي في هذا الملف آموس هوكستاين إلى قطر، على هامش المفاوضات غير المباشرة التي أجراها في بيروت وتل أبيب، رغم أنّ شركة قطر للطاقة لم تكن قد استحوذت بعد على حصّة في البلوكين 4 و9.
وخلال شهر فبراير/شباط 2023، أطلقت قطر مع فرنسا ما عُرف باجتماع باريس الخماسي، الذي حضرته وفود دبلوماسيّة من كل من فرنسا وقطر ومصر والمملكة العربيّة السعوديّة والولايات المتحدة الأميركيّة. وهدف الاجتماع إلى خلق مجموعة عمل دوليّة بهدف التوسّط لحل الأزمة السياسيّة اللّبنانيّة وإنهاء الفراغ الرئاسي، ومن ثم الشروع بالإصلاحيّات الاقتصاديّة المطلوبة للخروج من حالة الانهيار المالي. وبهذا الشكل، عادت قطر لتكون أحد اللاعبين المؤثّرين في الملف اللّبناني، إلى جانب سائر الدول المؤثّرة التقليديّة.
في كل هذه الأدوار المرتبطة بلبنان، راهنت قطر على علاقاتها الممتازة مع الشركاء الغربيين المعنيين بالملف اللبناني، وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركيّة وفرنسا. كما استفادت من براغماتيّة ومرونة سياستها الخارجيّة، التي تسمح لها ببناء شبكة واسعة من العلاقات مع الغالبيّة الساحقة من الأطراف اللبنانيّة. وهذا تحديدًا ما يميّزها عن المملكة العربيّة السعوديّة، التي قاطعت خلال السنوات الماضية شرائح واسعة من القوى السياسيّة اللّبنانيّة، التي لم تجار المملكة في الملفّات السياسيّة الإقليميّة.
لكن في نفس الوقت، تحاول قطر عدم إثارة حفيظة المملكة العربيّة السعوديّة، عبر تفادي الدخول في تسويات أو تفاهمات قد تعاكس توجهات المملكة في الملف اللبناني. وهذا تحديدًا ما يفسّر حرص قطر على دعوة المملكة إلى اجتماع باريس الخماسي، رغم أن الاجتماع يحظى بغطاء غربي من خلال مشاركة الولايات المتحدة وفرنسا.
أمّا أهم ما في الموضوع، فهو قدرة قطر على الاستفادة من علاقاتها الإيجابيّة مع إيران، التي تملك تأثيرًا وازنًا على علاقات حزب الله الخارجيّة. وهذا تحديدًا ما يجعل الدول الغربيّة بحاجة إلى الوساطة القطريّة في العديد من الملفّات اللّبنانيّة.
على المستوى السياسي في سوريا، من المعلوم أن قطر تمتلك أساسًا علاقاتها الجيّدة مع فصائل المعارضة المسلّحة، فيما تساهم المشاريع والمساعدات القطريّة الجديدة بتعميق هذه العلاقة وتعزيزها. وتحاول قطر حاليًّا التمسّك بتحالفها التاريخي مع تركيا، وتعاونها مع أردوغان في جميع الملفّات السياسيّة المتعلّقة بالشأن السوري. لكن في المقابل، تحاول قطر الإفادة من وجودها في سوريا لفرملة اندفاع تركيا باتجاه التطبيع مع نظام الأسد، أو إبطاء مسار التطبيع هذا قدر الإمكان.
في النتيجة، من المتوقّع أن تستمر قطر بالسعي إلى تعزيز حضورها الاستثماري والاقتصادي في البلدين، خصوصًا أن ارتفاع أسعار الغاز أمّن لقطر فوائض ماليّة كبيرة، ما يدفعها للبحث عن المزيد من الفرص الاستثماريّة في جميع أنحاء العالم.
وبفضل فوائض ارتفاع أسعار الغاز أيضًا، ستتمكّن قطر من الاستمرار بتقديم المساعدات المباشرة في البلدين، وهو ما سيكرّس بدوره نفوذ قطر السياسي في المنطقة. ولهذا السبب بالتحديد، بات من الممكن تلمّس الدور القطري في تحريك العديد من الملفّات السياسيّة التي كانت عالقة خلال الأشهر الماضية، كما جرى في الملف الرئاسي اللبناني.