خالد محمود
رغم كل شيء، فإن لا شيء في الأفق المصري. غاب صوت السياسة، ليعلو صوت الاقتصاد.
بات بإمكان الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يستكمل خارطة الطريق للإصلاح الاقتصادي دون أي كلفة سياسية أو اجتماعية أو مخاوف أمنية على الإطلاق.
كما أن الوضع الداخلي لم يعد يمثل قلقا للرئيس العائد من توه من القمة الأوروبية الأفريقية، متجاهلا مساعي بعض الدوائر الغربية لربط نشاطه الخارجي بما يجري في الداخل.
قمة بروكسل
وكدليل على ذلك، تجاهل قادة الاتحاد الأوروبي دعوات وجهت لهم من 6 منظمات حقوقية محلية ودولية، بعدم الاحتفاء بالسيسي لدى مشاركته في قمة الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي ببروكسل، يومي 17 و18 فبراير 2022، على اعتبار أن السلطات المصرية تسعى إلى تحسين صورتها أمام العالم، بعدما تم تسليط الضوء في الأشهر الأخيرة على أزمة حقوق الإنسان في ظل ما وصفته بالحكم القمعي للسيسي.
ولم يجدِ تحذير الاتحاد الدولي للصحافيين للاتحاد الأوروبي من مساعدة النظام المصري “في تلميع صورته ومنحه حصانة دولياً بينما يواصل سياسة قمع الصحافيين”، أي صدى أيضا.
منظمة العفو الدولية اعتبرت بدورها زيارة الرئيس المصري إلى بروكسل تأتي وسط حملة قمع لا هوادة فيها ضد المدافعين عن حقوق الإنسان، وظاهرة الإفلات من العقاب على الجرائم بموجب القانون الدولي. وبحسب المنظمة، فإن على قادة الاتحاد الأوروبي التنديد علنًا بأزمة حقوق الإنسان والضغط من أجل إجراء تحسينات حقيقية.
وتحت عنوان: “لا تسمحوا لزيارة لبروكسل بأن تلمّع سجله الحقوقي السيء”، طالبت المنظمة قادة الاتحاد الأوروبي المطالبة بوضع حد للأزمة، بدءاً من الإفراج عن المدافعين، وغيرهم ممن سجنوا ظلماً، ووقف الاعتداءات على المنظمات غير الحكومية.
وقالت إنه على الاتحاد الأوروبي اغتنام زيارة إلى بروكسل لمراجعة أولويات الشراكة بين الاتحاد الأوروبي ومصر. ولفتت إلى ضرورة إعطاء قادة الاتحاد الأوروبي الأولوية لحقوق الإنسان والدعوة للإفراج عن المدافعين والمسجونين ظلماً، ووقف الاعتداءات على المنظمات غير الحكومية.
وفي الوقت الذي اعتبرت فيه المنظمة أن التساهل مع الرئيس يمنح شرعية له ولسياساته القمعية، فإنه لا بد لقادة الاتحاد الأوروبي دعم إنشاء آلية للرصد وتقديم التقارير عن مصر في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
حديث الاقتصاد
على نحو مفاجئ، اشتعل جدل نادر في مصر حول السياسات الاقتصادية الجديدة التي تعتزم السلطات اتخاذها، بعدما عمدت على مدى الأسابيع القليلة الماضية إلى تهيئة الرأي العام المصري لموجة جديدة من ارتفاع الأسعار.
أخذ الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس وزرائه مصطفى مدبولي على عاتقيهما، إعلام مواطنيهم بالضرورات الاقتصادية لغلاء معيشي جديد.
ويواصل ملايين المصريين تجرّع فاتورة الإصلاح الاقتصادي طويلة الأمد التي دشنها السيسي منذ توليه السلطة عام 2014. المصريون يقومون بذلك في صمت وبدون مظاهر احتجاج علنية على الرغم من تأثيرها المباشر على الأوضاع اليومية والمعيشية. ومع ذلك، أثار قرار أصدره البنك المركزي المصري بإلزام المستوردين بتقديم اعتمادات مستندية بدلا من مستندات التحصيل جدلا واسعا ما بين مؤيد ومعارض. ففي الوقت الذي رفض فيه بعض رجال الأعمال لهذا الإجراء، أصرّ محافظ البنك عليه باعتباره عملا سياديا غير قابل للنقاش.
واعتبر اتحاد بنوك مصر أن قرار البنك المركزي هو إجراء تنظيمي مصرفي صدر اتساقاً مع قرارات الحكومة لحماية الصناعة الوطنية والحفاظ على موارد الدولة السيادية، لكن مجتمع رجال الأعمال جادل بأن القرار سيؤدي الى أزمة اقتصادية حقيقية.
اللافت هنا أيضا أن هذه الضجة تستبق ارتفاعا متوقعا في أسعار بعض السلع، كان رئيس الحكومة المصرية الدكتور مصطفى مدبولي قد تحدث عنه.
في المؤتمر الصحفي الذي عقده، تحدث مدبولي، عمّا وصفه بنمو الاقتصاد المصري خلال الربع الثاني من العام المالي الحالي، لافتا إلى تسجيل نمو قدره 9.8% و8.3٪ في الربع الأول والثاني على التوالي، ليكون متوسط نمو النصف الأول من العام المالي اعتبارا من يوليو وحتى ديسمبر 9%. واعتبر أن هذا الرقم يوضح مدى تعافي الاقتصاد المصري وتسارع عملية النمو.
لكن أهم ما قاله هو أنه يجب على الحكومة والشعب تحمل فاتورة الزيادات المرتقبة في الأسعار. وأضاف: “لا بد من تحمل الطرفين لهذه الزيادات، فلا توجد دولة تستوعب هذا القدر من الزيادات وفاتورة التضخم بمفردها، فالدولة تحمل جزءا ويتحمل المواطن معنا جزءا آخر”.
بيد أن حديث المناصفة هذا، لم ينسحب بالضرورة على الحياة السياسية في البلاد بعد مرور 11 عاما على ثورة 25 يناير التي أطاحت بنظام حكم الرئيس الراحل حسني مبارك عام 2011.
وعلى سبيل المثال، فقد تحوّل المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين محمد بديع من رقم صعب في المعادلة السياسية قبل عام 2011، إلى مجرد سجين تنفي وزارة الداخلية إصابته بفيروس كورونا.
في بيان رسمي أصدرته مؤخرا، اعتبرت وزارة الداخلية أنه لا صحة لما تناولته بعض القنوات والصفحات الموالية لجماعة الإخوان بشأن إصابة بديع، مشيرة الى أنه “بإجراء الكشف الطبي على المذكور تبين عدم إصابته بفيروس كورونا”.
وتأكيدا لهذا النفي، نقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية المصرية عن مصدر أمني، أن كل ما تناولته القنوات والصفحات الموالية لجماعة الإخوان حول هذا الشأن، ليس له أي أساس من الصحة.
في البيانين لم تتخلَّ السلطات المصرية عن أمرين، وهما اعتبار مرشد الإخوان، إرهابي محكوم عليه، والثاني، وصف جماعة الإخوان نفسها بالجماعة الإرهابية، وذلك ردا على محاولات الجماعة الترويج لفكرة أن بديع مصاب في محبسه الحالي، حيث ادعت في بيان صحافي نشرته عبر موقعها الإلكتروني تدهور حالته الصحية.
لم يستغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن تتوقف الجماعة عن اللعب بورقة الوضع الصحي لمرشدها السابق البالغ من العمر 79 عاما.
لكن اللافت هنا هو أن هذا الخبر كان الوحيد الذي ارتبط باسم الجماعة على مدى الأيام القليلة الماضية بعد أسابيع من الترويج لفكرة انقسام الجماعة في الخارج وتوزع ولاءاتها بين قياديها الفارين الى تركيا أو بريطانيا، على نحو يشير إلى أن لا أحد ربما باستثناء السلطات الرسمية والجماعة نفسها، بات ينظر إلى الإخوان كتهديد حقيقي في الوقت الراهن.
قيادة “أنصار الشر” كما اعتاد السيسي أن يصفهم، فقدوا حاضنتهم الشعبية وباتوا مطاردين في شوارع أنقرة ولندن والدوحة، بعدما انحسر نفوذهم السياسي والإعلامي، ولم يعد للحديث عنهم تلك المساحة التقليدية.
في الجمهورية الجديدة، وهو الشعار الذي دشنه السيسي، تعبيرا عن توجهاته لإعادة بناء الدولة المصرية مجددا في مشروع طموح للغاية، بات الاقتصاد هو الشغل الشاغل، بينما تحتل السياسة وما يرتبط بها المرتبة الثانية.
في دولة بات الرئيس وحده هو الصانع الحقيقي للخبر، بعدما كادت النخبة السياسية المصرية التقليدية أن تتلاشى، لم يكن مفاجئا، أن يتمحور الجدل حول الأوضاع الاقتصادية فقط، على طريقة “عض قلبي ولا تعض رغيفي”.
سيطرة إعلامية
قبل عامين، رصد تقرير لوكالة رويترز إحكام السيسي الرقابة على صناعتي الترفيه والأخبار، وإنشاء مجلس تنظيمي جديد للإشراف على الإنتاج، بحيث أصبح المحتوى الإعلامي يخضع لرقابته.
وأحكمت الحكومة رقابة أشد صرامة وازداد تغلغلها أيضا في صناعة الترفيه، مقارنة بوسائل الرقابة في عهد مبارك، حيث عملت “الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية” التي أسستها الدولة منذ 2017 ، بكل همة ونشاط على تنفيذ قواعد الرقابة الحكومية. واشترت العديد من المنافذ الإخبارية وشركات للإنتاج التلفزيوني والقنوات التلفزيونية، ما أتاح لها سيطرة لا مثيل لها.
تتعرض وسائل الإعلام الإخبارية لتدقيق أكبر، بعدما أتاح قانون جديد لصناعة الإعلام عام 2018 لسلطات الدولة حجب حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي ومعاقبة الصحفيين على نشر الأخبار الكاذبة.
لكن مع ذلك، فإن السيسي يبدي مرونة في التعامل مع بقية الملفات التي تتمتع بحساسية عالية ووضع تاريخي ملتبس.
مؤخرا، أصبح المستشار بولس فهمي، رئيس المحكمة الدستورية العليا في مصر، أول قاض قبطي يتولى هذا المنصب الرفيع بدرجة وزير اعتبارا من 9 فبراير 2022.
القرار التاريخي يعيد إلى الأذهان تاريخا غاب في حقبة ماضية حينما كان رئيس الحكومة نفسه قبطيا قبل ثورة 23 يوليو 1952.
قنبلة الأحزاب
لكن ذلك كان مرتبطا بحياة سياسية نشطة، تتواجد فيها أحزاب قوية على صلة بالشارع المصري، تتصارع فيما بينها على الفوز بتأييده للوصول إلى السلطة.
الآن وقد تغير الوضع تماما، فقد بهتت الحياة الحزبية واعتراها الفتور، وفي أحسن الأحوال ماتت سريريا في انتظار إصدار شهادة وفاة رسمية، على نحو يطابق تماما ما كان إبان عهد مبارك ومرحلة ما قبل ثورة 25 يناير 2011.
بيد أن الأمر لا يرجع إلى عدم وجود أحزاب، فالحاصل أن “العدد بات في الليمون”، وهو تعبير مصري شعبي دارج، يسخر من هذه الكثرة العددية للأحزاب الراهنة.
بمرور الوقت تحولت الأحزاب السياسية إلى رقم مفزع، ومثير للجدل..
وفقا للهيئة العامة للاستعلامات، وهي جهة حكومية رسمية، فقد بلغ عدد الأحزاب في عام 2018، 104 مسجلة رسميا في نظام الدولة، ومعتمدة من لجنة الأحزاب.
وهذا رقم قياسي ربما لا يوجد له نظير في أي دولة أخرى، لكن تأثيره على الحياة السياسية في مصر حاليا يبدو منعدما، في مشهد يعيدنا مجددا إلى ما كانت عليه الأمور إبان عهد مبارك، باستثناء هذا الارتفاع الكبير وغير المبرر في عدد الأحزاب.
ورقة السيسي
في كل الأحوال، لا يمكن فهم الطريقة التي يفكر بها السيسي دون العودة إلى ما كتبه بخط يده قبل سنوات.
ثمة ورقة منسية كتبها الرئيس عام 2006، حينما كان في الكلية الحربية للجيش الأمريكي في ريف بنسلفانيا حول الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط.
كان السيسي آنذاك أحد الضباط الأجانب الذين تلقوا تدريباً خلال بعثة زمالة عسكرية..
الكولونيل المتقاعد بالجيش الأمريكي ستيف جيراس الذي عمل مستشارًا في هيئة التدريس هناك، وساعد السيسي نقل عنه قوله “كان يعتقد أن أيًا كان على هيكل الحكومة الاهتمام بالدين، أنتم يا رفاق لديكم وجهة نظر علمانية، وهذا لن ينجح أبدًا في الشرق الأوسط”.
في ورقته البحثية (النص الكامل) بتاريخ 15 مارس 2006، يعتقد العميد آنذاك “إن تغيير الأنظمة السياسية من حكم الفرد إلى الديمقراطية لن يكون كافيًا وحده لبناء ديمقراطية جديدة، لافتا إلى حاجة الشعوب والمؤسسات لمزيد من الوقت للتأقلم مع أنظمة الحكم الحديث وروحها العصرية”.
الرهان على الضغوط الأمريكية
يعتقد البعض أن بإمكان واشنطن دائما التأثير على مجريات الأمور في مصر..
لكن هذا لا يبدو صحيحا، حتى في ظل الجدل الدائر بشأن النفوذ الأمريكي المحدود على الجيش المصري عبر 1.3 مليار دولار تقدمها الولايات المتحدة كمساعدات عسكرية لمصر.
يعتقد محمد المنشاوي الكاتب المتخصص في الشؤون الأمريكية، أن واشنطن اليوم تتعامل تحت رئاسة جو بايدن بطرق لا تخدم إلا مصالحها وبصورة لا تختلف كثيرا عما حدث ويحدث منذ ثورة 25 يناير وحتى الآن. وبحسب المنشاوي، فإن واقعية واشنطن وسعيها إلى تحقيق مصالحها يجعلانها تحتفظ بعلاقات قوية مع من يحكم مصر، بطرق لم تتغير في جوهرها.
في المقابل، ثمة مخاوف من احتمال حدوث تطورات سلبية. وترى سلافة إبراهيم، وهي محاضرة مختصة في الشؤون الدولية بجامعة أنجلا روسكين، أنه بينما قد يتسامح الناس حاليًا مع فشل الدولة في تلبية المطالب الخدمية والحياتية مقابل الاستقرار السياسي على المدى القصير؛ فان استدامة العقد الاجتماعي الحالي تظل موضع شك على المدى الطويل.
وتعتقد سلافة، وفقا لدراسة جديدة نشرتها، أن هناك حاجة ملحة لسن عقد اجتماعي جديد في مصر – يكون شاملاً ومرنًا ومستدامًا على المدى الطويل؛ والأهم من ذلك أن “يعمل من أجل الفقراء” ويعالج مشاكلهم المستمرة وتطلعاتهم التي لم تتحقق.
وتقول: “تعاني المجتمعات الفقيرة من ضغوط متزايدة بسبب الإلغاء التدريجي للإعانات، وتدهور التعليم والخدمات الصحية، ومحدودية فرص الحراك الاجتماعي والتعبئة السياسية. ويؤكد الفشل في سن عقد اجتماعي جديد يفي بهذه المطالب عجز الدولة عن مواجهة “ثورة التوقعات المتزايدة” بعد الانتفاضات الشعبية، الأمر الذي أثار آمال الجمهور وأدى إلى إحباطات أعمق”.
وتخلص إلى أن “بات الضعف المتزايد للمجتمعات المحرومة وإحباطهم المتزايد بمثابة قنابل زمنية يمكن أن تعرض مستقبل أي نظام سياسي للخطر، بغض النظر عن مدى قمعه”.