وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

ترمب يُثير غضب عباس

يشعر محمود عباس، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس دولة فلسطين والسلطة الفلسطينية ورئيس حركة فتح، أكبر فصيل سياسي فلسطيني، بالغضب والسخط والاشمئزاز والاستياء في آنٍ معاً. فقد كان إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في ديسمبر 2017 بالاعتراف بالقدس عاصمةً لاسرائيل إلى جانب عزم الولايات المتحدة نقل سفارتها من تل أبيب إلى المدينة المقدسة، مجرد غيضٍ من فيض بالنسبة لعباس. بل إن ما أثار حنق عباس فعلاً هو رد فعل المجتمع الدولي، لا سيما الدول العربية والإسلامية منه.

فالبنسبة للمتفرج العادي، بدا أن المجتمع الدولي يتحدث بصوتٍ واحد تقريباً في إدانة قرار ترمب، فقد صوّت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بـ14صوت رافض للقرار مقابل واحد، بينما صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بـ128 إلى 9، ودعم التوافق الدولي، طويل الأمد، حول وضع القدس. بيد أن المراقب عن كثب يكتشف أنّ تصويتيّ الأمم المتحدة لم يكونا سوى جعجعةً لتصريحاتٍ مهيبة حول القضية، إلا أنهما لم يقدما سوى القليل لتصحيح المسار قُدماً.

ولم يذكر نص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي قدمته تركيا واليمن الولايات المتحدة بالإسم، بل أعرب عن “اسفه العميق للقرارات الاخيرة المتعلقة بوضع القدس.” فقد كان هذا التجاوز متعمداً وغاية في الأهمية، إذ أزال بدهاء تأثير أي إحتمالٍ بأن يكون القرار بمثابة منصة للمزيد من الإجراءات التي يتعين اتخاذها. كما أبلغ الجانب الفلسطيني، بكل وضوح، بقبول النسخة المخففة من القرار أو وضع دعم العديد من حلفائهم الرئيسيين على المحك، وإن كان ذلك معنوياً. وفي موقفٍ مألوفٍ جداً، قبلت القيادة الفلسطينية بالأمر قدر المستطاع، دون أن تخسر ماء الوجه فيما يتعلق بهذه القضية الحساسة لوضع القدس.

وبالرغم من مشاعر الغضب الشديد التي تُثيرها هذه القضية، واصلت القيادة الفلسطينية التعامل بحذرٍ مع الفرقعة الإعلامية الدولية، إلى جانب قبولها بالواقع السياسي والإنساني المتدهور، إلا أن الأمر لم يمر مرور الكرام في فلسطين.

فتعهد عباس الفوري بعقد إجتماعٍ للقيادة الفلسطينية لصياغة ردٍ على إعلان ترمب لم يحقق الهدف المرجو لما توقعه الشعب الفلسطيني المنهك. وحتى آنذاك، أشعل انتظار الفلسطينيين بفارغ الصبر تحول قوات الأمن إلى حفنةٍ من الشباب المحبطين نقاط التفتيش الاسرائيلية في أرجاء غزة والضفة الغربية، مما أسفر عن مقتل أكثر من 20 فلسطيني وجرح المئات.

وأخيراً، عقد عباس، في 14 يناير 2018، اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في رام الله. وفي خطابٍ طويلٍ جداً أمام الأعضاء الـ87 من أصل 109 ممن حضروا الجلسة، وبخ عباس ترمب ليواصل بعدها إعطاء دورسٍ للجماهير تتعلق بالدين وتاريخ الصراع. فقد أصبحت هذه الدروس سمة مشتركة من سمات خطابات عباس، سواء كانت في رام الله أم في الأمم المتحدة.

Palestine- Mahmud Abbas
الرئيس الفلسطيني محمود عباس يتحدث في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 20 فبراير 2018، في نيويورك. Photo AFP

ومن الجدير بالملاحظة غياب أي إشارةٍ حول الآلية التي تم بموجبها اختيار، وبقاء، أعضاء المركزي. وبالإضافة إلى ذلك، لم يتساءل أحد عن سبب انعقاد الاجتماع في رام الله، الأمر الذي حال دون حضور العديد من الأفراد والجماعات السياسية، وبخاصة منافسة فتح الرئيسية، حماس. وعوضاً عن ذلك، هتفت الجماهير وصفقت، في الاجتماع الذي بث عبر شاشات التلفاز على الهواء مباشرةً، كلما أثنى عباس على جمال مدينة رام الله.

وأشار سام بحور، المستشار في مجال السياسات لمنظمة شبكة السياسات الفلسطينية، وعضو أمانة مجموعة فلسطين للتفكير الاستراتيجي إلى أن “مسؤولية تفكيك حركة التحرير الوطني الفلسطيني لا يمكن أن تقع على عاتق محمود عباس لوحده، أو حتى فتح… فقد مُنح عباس مطلق الحرية من قِبل كل حزبٍ سياسي فلسطيني، ناهيك عن المجتمع الفلسطيني عموماً- من رفح إلى رام الله، ومن صفد إلى مخيم صبرا للاجئين في لبنان، ومن مخيم ماركا في عمّان إلى ماساتشوستس.”

واختتم المجلس المركزي اجتماعه في رام الله ببيانٍ ختامي أكد فيه أن الفترة الانتقالية التي نصت عليها الاتفاقيات الموقعة في أوسلو والقاهرة وواشنطن، بما انطوت عليه من التزامات لم تعد قائمة. ولكن كما توقع الفلسطينيون، انتقل المجلس بعد ذلك إلى تكليف مسؤولية العمل على تنفيذ قرارات الاجتماع إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي من المرجح أيضاً أن لا تفعل شيئا، تماماً كحال القرارات السابقة، مثل إنهاء التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، الذي لا يزال قائماً حتى يومنا هذا.

واعتبر قرارٌ آخر أن “الإدارة الأميركية بهذا القرار قد فقدت أهليتها وسيطاً وراعياً لعملية السلام، ولن تكون شريكاً في هذه العملية إلا بعد إلغاء القرار.” إلا أن هذا ليس إلا حبراً على ورق. بيد أنه بعد شهرٍ من ذلك، لا يزال هذا بالفعل واقع الحال، إذ أشارت أقاويلٌ سربت من دوائر النخبة أنّ محادثاتٍ سرية تجري حالياً فيما يخص “صفقة القرن” التي وعد بها ترمب، والتي تهدف إلى إنهاء قرابة الـ70 عاماً من الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.

فقد أعلن زياد فوزي البرغوثي، وهو رجل أعمالٍ معروف، في فبراير الجاري، وبكل صراحه، عبر منشورٍ له على الفيسبوك حمل عنوان “ما لم نسمعه من الرئيس،” أن عباس يكرر دوماً عبارات “المشروع الصهيوني، والتآمر الأمريكي، والخذلان العربي، والإنقسام الفلسطيني،” إلا أنه تجاهل “لماذا تجرأ الأمريكيون والغرب والإسرائيليون والعرب في هذا الوقت على استباحة حقوقنا وتاريخنا وقدسنا ومقدساتنا؟”. وفي محاولةٍ لطمأنة عباس، إذا ما اختار أخيراً التصرف، قال البرغوثي “أبناؤك لن يخذلوك ولن يقولوا لك اذهب انت وربك. ينتظرون منك ترتيب البيت الفلسطيني.”

إن هذه الفكرة بمناشدة الرئيس اتخاذ إجراءٍ حقيقي ليست بالجديدة. ففي 20 يوليو 2013، نشر المحامي الفلسطيني البارز، هيثم الزعبي، مقال رأي في صحيفة القدس بعنوان “مشورة دستورية هادئة إلى سيادة الرئيس الفلسطيني.” وهنا أيضاً، قدم مواطنٌ فلسطيني مشورةً مجانية لعباس، وهذه المرة فيما يتعلق بالحاجة الماسة إلى تعيين الرئيس نائباً له من أجل ضمان استمرار شرعية القيادة، وبخاصة بالنظر إلى حقيقة أن المجلس التشريعي الفلسطيني غير فعال.

وحتى تاريخه، لم يتم تعيين نائبٍ للرئيس، وهو أمرٌ لا يُثير الدهشة على الإطلاق. بيد أن ما يلفت النظر حقاً أن الشعب الفلسطيني، برغم اليأس والإحباط الذي يعانيه، لا يزال يُعلق الآمال على محمود عباس البالغ من العمر 82 عاماً.