وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تونس بعد عشرة أعوام من ثورة الياسمين

Jasmine Revolution
أشخاص يصطفون خارج مكتب البريد الرئيسي في ساحة محمد البوعزيزي، الذي تظهر على واجهته صورة البوعزيزي، وسط مدينة سيدي بوزيد وسط تونس، 27 أكتوبر 2020. Photo: Fethi Belaid / AFP

مات ناشد

غالباً ما تستعرض كتب التاريخ أفعال الرجال الفاسدين أو الأبطال لتسليط الضوء على أكثر اللحظات الفارقة في التاريخ، إذ تميل هذه الروايات إلى تبسيط الأحداث المعقدة وتعزيز الفهم الأولي للشؤون العالمية، بيد أنّ استذكار ثورة الياسمين من الاستثناءات الجديرة بالذكر.

ففي 17 ديسمبر 2010، صادرت الشرطة التونسية ميزان محمد البوعزيزي لعمله كبائعٍ متجول دون تصريح. كان البوعزيزي، البالغ من العمر 26 عاماً، يكافح بالفعل لإعالة والدته وإخوته الستة، وكان يُجبر في كثيرٍ من الأحيان على التضحية بأرباحه اليومية لدفع رشاوى للشرطة. لكن في مثل هذا اليوم حاول أن ينقذ مكاسبه من خلال طلب مقابلة والي بلدة سيدي بوزيد، وعندما رفض الوالي لقائه، أضرم البوعزيزي النار في جسده.

أشعل إحراق البوعزيزي لنفسه ضجةً على مستوى شعبي في تونس وتسبب بموجة صحوةٍ في جميع أنحاء العالم العربي. بعد أسابيع من الاحتجاجات، فر الديكتاتور التونسي زين العابدين بن علي إلى المملكة العربية السعودية في 14 يناير 2011. أثارت الأخبار تداعياتٍ متسلسلة شهدت اندلاع احتجاجات شعبية في مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا. وعليه، لم يعد العالم العربي إلى سابق عهده قط.

ولعقودٍ من الزمان، كان السخط يغلي بسبب تفشي الفساد وقمع الدولة والتدخل الأجنبي والتطرف. وبالنظر إلى الماضي، شكلت هذه المظالم الجماعية قنبلةً موقوتة، إلا أن البوعزيزي، ببساطة، من نزع فتيلها.

وبعد عشر سنوات، تمكنت تونس فحسب من الانتقال إلى الديمقراطية، أما دول “الربيع العربي” الأخرى فإما فشلت في إزاحة الأنظمة الاستبدادية أو وقعت في براثن حربٍ أهلية. واليوم، يشير المراقبون العاديون إلى تونس باعتبارها قصة النجاح الوحيدة في منطقةٍ مضطربة.

هذا التأطير يُجانب بعضاً من الحقيقة، فعلى عكس مصر، تستفيد البلاد من جيشٍ صغير غير مُسيس لا يحمل أي نوايا لتخريب العملية الديمقراطية. كما لا تمتلك تونس وفرة من الموارد الطبيعية مقارنةً بليبيا – وهو عامل يمنع تونس من أن تصبح ساحة معركة للقوى العالمية المتنافسة.

وعلى الرغم من هذه المزايا، تستحق تونس التقدير أيضاً، فقد انخرطت طبقتها السياسية ونقاباتها القوية والجهات الفاعلة في المجتمع المدني في حوارٍ بناء لإنقاذ العملية الديمقراطية. خاطرت التوترات الاجتماعية والاحتجاجات الجماهيرية بشكلٍ خاص بإخراج العملية الانتقالية عن مسارها بعد اغتيال اثنين من السياسيين الليبراليين من قبل الجهاديين في عام 2013؛ ولحسن الحظ، كانت الغلبة للعقلاء.

واليوم، باتت تونس دولةً ديمقراطية، لكن عقداً من الشلل السياسي فشل في معالجة المظالم الاقتصادية التي أجبرت البوعزيزي على إشعال النار في جسده، إذ ما يزال التفاوت الكبير في الثروة بين الساحل والداخل مصدر قلقٍ مُلّح، فالأخيرة تعتمد بشكلٍ تقليدي على تجارة البضائع المهربة من الجزائر وليبيا لدعم قطاعات كبيرة من السكان بسبب نقص الوظائف في القطاع الرسمي.

خلال حكم بن علي، سمحت الحكومة لتكتلاتٍ احتكارية مختارة بالسيطرة على جزءٍ كبير من سوق التهريب، إلا أن هذا الإقصاء سمح للعديد من اللاعبين بالاستفادة من التجارة عبر الحدود، بما في ذلك الجماعات المشبوهة المتورطة في تهريب الأسلحة والمخدرات.

وبالتالي، تُشكّل الحدود الليبية التي يسهل اختراقها تهديداً أمنياً كبيراً لتونس، حيث تجلى ذلك في أعقاب سلسلةٍ من الهجمات الإرهابية ضد السياح والسكان المحليين في عام 2015. وقع الهجوم الأكثر رعباً في العام التالي في 7 مارس 2016 في بلدة بنقردان جنوب تونس. في ذلك اليوم، حاول متشددون تونسيون متحالفون مع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الاستيلاء على المدينة من خلال مهاجمة مراكز الجيش والشرطة. وفي النهاية تم صدهم من قبل قوات الأمن التونسية الضعيفة. ومع ذلك، لم تكن السلطات على علمٍ بما إذا كان المسلحون قد عادوا من القتال في ليبيا، أو من صراعات إقليمية أخرى مثل العراق وسوريا.

في كلتا الحالتين، دفع التهديد الجهادي المحلي إلى جانب انتشار الميليشيات في ليبيا بتونس إلى قمع طرق التهريب، بل إن الحكومة التونسية حاولت تعزيز أمنها من خلال حفر خندقٍ ضخم على طول نصف حدود البلاد البالغ طولها 500 كيلومتر مع ليبيا. أوصد هذا الإجراء الأمني الباب أمام عدة طرقٍ للتهريب وأثار في نفس الوقت مشاكل اقتصادية في الداخل. ومن الجدير بالذكر هنا أن عواقب إجراءات مكافحة الإرهاب دمرت الاقتصاد، ودفعت المزيد من التونسيين للانضمام إلى الجماعات المتطرفة، أو الهجرة إلى الخارج، أو ببساطة “الترحم” على أيام نظام بن علي.

المفارقة مؤلمة، ففي عام 2011، اعتقد 8% فقط من التونسيين أن سقوط بن علي كان خسارةً للبلاد، بينما أعرب 12% عن تفضيلهم لقائدٍ استبدادي. لكن بعد سنواتٍ من الشلل السياسي، يعتقد عدد متزايد من التونسيين أن الديمقراطية غير فعالة في إنتشال الداخل من براثن الفقر.

جعلت هذه المشاعر المناهضة للثورة الشخصيات الرجعية أكثر جاذبيةً للتونسيين، بل إن خطاب عبير موسي – المسؤولة السابقة في الحزب الحاكم في ديكتاتورية بن علي – مقلقٌ على نحوٍ خاص. تشغل موسي اليوم منصب رئيسة الحزب الدستوري الحر المعارض، الذي تصدر استطلاعات الرأي في نوفمبر الماضي على الرغم من أنه لا يحظى سوى بـ17 مقعداً من أصل 217 في البرلمان.

فقد اشتهرت موسي بإدلائها بتصريحاتٍ مثيرة للجدل وشيطنة حزب النهضة الإسلامي المعتدل، التي تلومهم على المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، كما أنها تعشق النزعة التحريفية من خلال الادعاء بأن نظام بن علي كان ضحية “مؤامرة” لزعزعة استقرار تونس.

لمواجهة الحنين المتنامي إلى نظام بن علي، يتعين على الطبقة السياسية في تونس إيجاد طريقة لتحسين الاقتصاد. قد يتطلب القيام بذلك من تونس التعاون الوثيق مع الحكومة الليبية المعترف بها دولياً في العاصمة طرابلس، وفقاً لما ذكره حمزة المؤدب، الباحث غير المقيم في مركز مالكوم إتش كير- كارنيغي للشرق الأوسط.

حاولت تونس البقاء على الحياد من خلال تجنب التعاون الوثيق مع أي من الكيانين الحكوميين في ليبيا. لكن المؤدب يجادل بأن الحكومة التي تتخذ من طرابلس مقراً لها وتونس يجب أن تنشئا منطقة تجارة حرة تمتد على طول حدودهما المشتركة؛ ومن شأن ذلك أن يمكّن السلطات من مراقبة البضائع التي تمر إلى تونس بشكلٍ أفضل، ومنح التجار الأمن والثقة للانخراط في التجارة.

وفي هذا الصدد، يقول المؤدب، “الحياد لا يجب بالضرورة أن يعني السلبية، وقد بات واضحاً أنه حتى لو فشلت حكومة الوفاق في بسط سيطرتها على كل أنحاء ليبيا، فليس ثمة طرف بمقدوره انتزاعها من موقعها بوصفها الحكومة المُعترف بها دولياً والسلطة الأساسية في الشطر الغربي من البلاد.”

ويشير إلى أنه من المهم بنفس القدر أن تشجع الحكومة المجتمع المدني التونسي على بناء علاقاتٍ قوية مع نظرائهم الليبيين الذين تعاونوا تقليدياً في اقتصاد التهريب.

بيد أن التوقعات الاقتصادية لتونس لا تبدو مُبشرّة حتى وإن تم تبني هذه التوصيات على وجه السرعة، إذ تواجه البلاد مشاكل اقتصادية تاريخية ناجمة عن جائحة فيروس كورونا.

فقد دفعت الأزمة العالمية تونس إلى قبول قرض بقيمة 745 مليون دولار من صندوق النقد الدولي لموازنة ميزانيتها ومكافحة فيروس كورونا. يعد القرض غاية في الأهمية لازدهار تونس على المدى الطويل، لكن المنتقدين يخشون من أن الأموال مشروطةٌ بإجراءات تقشف لا هوادة فيها ستعاقب الفقراء بمجرد انحسار الوباء. الوقت وحده كفيلٌ بإثبات ما إذا كانت التخفيضات في المخصصات والإعانات ستدفع بالسكان إلى حافة الهاوية.

شرارة… كل ما يتطلبه الأمر شرارة!