وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تركيا وإيران: صراع بارد على أرض ساخنة

لرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان
الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان يعقدان مؤتمراً صحفياً بعد اجتماع مجلس التعاون التركي – الإيراني الأعلى في العاصمة الإيرانية طهران يوم ١٩ يوليو ٢٠٢٢. Ali Balikci / Anadolu Agency via AFP

حسين علي الزعبي

تتعارض المصالح التركية والإيرانية في أربع ساحاتٍ دولية هي العراق وسوريا وأذربيجان، فضلاً عن تصوّر الجانبين لعلاقات دول المنطقة مع إسرائيل. وقد يكون التنافس بين تركيا وإيران في مناطق تشتعل فيها النزاعات الداخلية، بيد أن التنافس الحاصل بين أنقرة وطهران لم يصل إلى مرحلة التعارض والاصطدام المباشر.

العراق على صفيح ساخن

يعتبر العراق واحدة من أهم ساحات المواجهة بين تركيا وإيران، سيّما وأن هاتين الدولتين لهما حضورٌ تاريخي داخل العراق وتداخل مع المكونات الديموغرافية والدينية لهذا البلد. وتحظى إيران بارتباطٍ وثيق مع شيعة العراق، سيّما وأن إيران تحمل إرث الدولة الصفوية التي تشكل العمق التاريخي والأيديولوجي الشيعي. أما تركيا، فلها إرثٌ تاريخي يربطها بسنّة العراق منذ ما قبل تأسيس الدولة العثمانية.

وسبق وأن تواجه الجانبان 12 مرة بين عامي 1514 و1823. وفي أغلب المعارك، كان العراق إما هدفا أو ساحة لتلك الحروب بفعل الجغرافيا والمصالح السياسية حينا وبفعل التحولات الدينية حينا آخر. ويظهر هذا البعد الديني بشكلٍ أكبر منذ إعلان الشاه إسماعيل الصفوي عن تبنّي المذهب الشيعي مذهبا رسميا في إيران، بعد أن كان المذهب السني، ذو التوجه الصوفي، هو السائد في البلاد.

ومنذ انتهاء هيمنة المكون العربي على صناعة القرار في الدولة العباسية، شكلت إيران وتركيا العامل الرئيس في رسم خرائط العراق الجغرافية والسياسية. هذا العامل عاد مرة أخرى للحضور بشكل قوي بعد الانسحاب الأمريكي من العراق وتركه لإيران لتكون صاحبة الفصل فيه.

ومع تلاقي المصالح الأمريكية والإيرانية حينذاك في العراق، تفوّق الطموح الإيراني على الحلم التركي لأسباب تتعلق ببنية المجتمع العراقي وبطبيعة الحكم الثيوقراطي في طهران. وفي الوقت الذي ركزت فيه تركيا اهتمامها على تحجيم المشروع الكردي، لاسيما فيما يتعلق بتواجد حزب العمال الكردستاني في مناطق شمالي العراق، كانت إيران تتغلغل في مفاصل الحكم العراقي سياسيا وأمنيا وعسكريا. وقامت طهران بتنفيذ ذلك عبر قيادات وتشكيلات حزبية عراقية نشأت أساسا في إيران كحزب الدعوة وفيلق بدر وغيرها.

في المقابل، اعتمدت تركيا في تحالفاتها على الأحزاب السنية. ويظهر الدور التركي واضحاً فيما قامت به من مساعٍ ترمي إلى توحيد القوى السنية في الانتخابات التشريعية الأخيرة. وفي هذا الصدد، قال عضو البرلمان العراقي مشعان الجبوري إن عقد التحالفات كان بالتنسيق مع تركيا وتحديدا مع الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان.

بيد أنّ الطبيعة العقائدية للأحزاب الشيعية في العراق أتاح لإيران أن تحظى بأفضلية على تركيا، سيّما وأن الأحزاب الشيعية تأتمر بأمر الولي الفقيه.

على الأرض، تشكل محافظة نينوى ساحة الاشتباك المباشر بين الجانبين. وتنظر أنقرة إلى نينوى باعتبارها المحافظة الأقرب جغرافيا وديموغرافيا لها. كما أن غالبية سكان هذه المحافظة من السنة، فضلاً عن وجود عدد كبير من التركمان فيها. وتزداد أهمية هذه المحافظة بسبب مجاوراتها لإقليم كردستان العراق الذي يشكل عامل قلق للجانبين. وتتخذ الأحزاب الكردية المعارضة لأنقرة وطهران من الإقليم مقراً لها. ومن أبرز هذه الأحزاب حزب العمال الكردستاني المناوئ لتركيا وحزب كوملة المناوئ لإيران. في المقابل، تحاذي محافظة نينوى سوريا، والأخيرة تشكل واسطة العقد في المشروع الإيراني في المشرق العربي.

تركيا أطلقت عملية “قفل المخلب” في محافظة نينوى ضد حزب العمال الكردستاني في إبريل 2022. وجاء ذلك بالتزامن مع محاولة عراقية لفرض السيطرة على منطقة سنجار الموجودة في المحافظة. وهنا، لابد من الإشارة إلى أن المحاولة العراقية شهدت حضور قوى الحشد الشعبي المدعوم إيرانياً. وبحسب تقرير موقع رووداو، فإن تركيا أقامت خلال السنوات الماضية 40 نقطة عسكرية داخل إقليم كردستان، في الوقت لا يستطيع فيه الجيش العراقي دخول المناطق الكردية بسبب طبيعة التكوين الفيدرالي للعراق.

الدخان يتصاعد من عقب هجوم تم شنه على مقر منطقة كويسنجق في أربيل العراق
الدخان يتصاعد من عقب هجوم تم شنه على مقر منطقة كويسنجق في أربيل العراق يوم ٢٨ سبتمبر ٢٠٢٢. وأطلقت قوات الحرس الثوري الإسلامي الإيراني هجمات على كردستان العراق لاستهداف مناطق المتمردين المسلحين. المصدر: Fariq Faraj/ Anadolu Agency via AFP.

وكرد على عملية “قفل المخلب”، صعّدت كتائب حزب الله العراقي وعصائب أهل الحق وعدد من الساسة المناصرين لإيران من الخطابات المعادية لتركيا. وترافق ذلك مع إطلاق صواريخ على قاعدة بعشيقة التركية مرات عديدة.

“قفل المخلب” تزامنت كذلك مع تجدد جهود تركيا والحزب الديمقراطي الكردستاني لإقامة خط أنابيب غاز يؤمّن تصدير الغاز الطبيعي من كردستان العراق إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا. ولعلّ هذا الأمر أصبح أكثر إلحاحا في ظل البحث عن بدائل الغاز الروسي على مستوى عالمي.

الاهتمام التركي وإن ازداد بعد الغزو الروسي لأوكرانيا إلا أنه بدأ في وقت سابق. وسبق لشركة كار الكردية توقيع اتفاقية في ديسمبر 2021 لتأمين وصول خط أنابيب الغاز الطبيعي إلى مدينة دهوك الواقعة على بعد 35 كم من الحدود التركية. كما أعلنت السلطات الكردية والتركية في فبراير 2022 نيتها مد خط الأنابيب هذا إلى تركيا.

تصدير الغاز إلى أوروبا عبر تركيا جعل التخلص من حزب العمال الكردستاني أكثر أهمية بالنسبة لأنقرة. وتتخوف أنقرة من أن يقوم الحزب باستهداف خطوط الأنابيب، سيّما وأنه سبق للحزب استهداف خط نفط كركوك-جيهان الذي يصدر النفط العراقي إلى تركيا.

إنجاز مشروع تصدير الغاز من كردستان العراق، ليس مشروعا عابرا بالنسبة لإيران. ويعني تنفيذ هذا المشروع تقليص اعتماد تركيا على الغاز الإيراني، علماً بأن واردات تركيا من هذا الغاز تصل إلى 28.5 مليون متر مكعب سنوياً.

ويرى جلال السلمي، الباحث المختص في العلاقات الدولية، أنّ توقف ضخ الغاز الإيراني المفاجئ أثناء تعرّض تركيا لعاصفة ثلجية مطلع عام 2022 قد لا يكون ناجماً عن عطل فنّي غير مقصود كما أعلنت إيران. وبحسب السلمي، فإن هذا العطل يمكن قراءته كرسالة إيرانية لتذكير تركيا بأن هذه الأخيرة ما تزال بحاجة إلى الغاز الإيراني وبأن أنقرة لا تستطيع أن تستغل موقعها الجغرافي لنقل الغاز إلى أوروبا دون التوافق مع طهران.

توجيه الرسائل الإيرانية لم يقتصر على الجانب التركي بل شمل إقليم كردستان العراق. وأعلن الحرس الثوري الإيراني في مارس 2022 عن قصف مناطق في مدينة أربيل بذريعة وجود مقرات لجهاز الموساد الإسرائيلي. وبطبيعة الحال، فإن هذا القصف يحمل أكثر من رسالة. وترتبط الرسالة الأولى باعتراض إيران على الطريقة التي انتهجها الحزب الديمقراطي الكردستاني لعقد التحالفات الكفيلة بتشكيل حكومة كردستان العراق. أما الرسالة الثانية، فترتبط بمشروع الغاز. كلّ هذا كان قبل أن يصبح القصف متواصلاً مع التحول الجديد في المشهد الإيراني المتعلق بالاحتجاجات التي تشهدها البلاد.

سوريا

وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان (يمين) أثناء استقباله لنظيره السوري فيصل مقداد
وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان (يمين) أثناء استقباله لنظيره السوري فيصل مقداد في العاصمة الإيرانية طهران يوم ٢٠ يوليو ٢٠٢٢. المصدر: ATTA KENARE / AFP.

لا يقتصر التنافس الذي قد يصل إلى مرحلة الصراع بين إيران وتركيا على العراق، إذ تعد سوريا واحدة من الساحات التي تتضارب فيها مصالح البلدين، لاسيما بعد العام 2011. وقبل ذلك، كان كلا البلدين حاضراً في الساحة السورية بطريقة مختلفة. ففي الوقت الذي تفوّق فيه الأتراك على المستوى الاقتصادي، عزّز الإيرانيون علاقاتهم الأمنية وحضورهم الديني في هذا البلد.

ومع بدء الحراك الشعبي في سوريا، وقفت إيران إلى جانب النظام السوري سياسيا ومن ثم عسكريا عبر حضور مستشاريها العسكريين وقتال الميليشيات التابعة لها في ذلك البلد. وباتباعها لهذه السياسة، وجدت إيران نفسها على طرفي نقيض مع تركيا التي أعلنت مساندتها للمعارضة السورية.

الحضور الإيراني في سوريا فاق نظيره التركي لارتباط النزاع الدائر في تلك الدولة بإدارة ملفات إيران على المستوى الإقليمي. ويمكن أن تستخدم إيران وجودها في سوريا كورقة تفاوضية في ملفات كبرى. ويشمل ذلك الملف النووي وإدارة العلاقات مع القوى الكبرى كروسيا والولايات المتحدة الأمريكية ومع الدول الإقليمية كتركيا وإسرائيل.

ويشكل شمال شرق سوريا المتاخم لتركيا خاصرة رخوة بالنسبة لأنقرة، لاسيما مع وجود قوى كردية فاعلة تعتبرها أنقرة امتدادا لحزب العمال الكردستاني. أما شمال سوريا الغربي، فيشكل مساحة للنفوذ التركي عبر فصائل المعارضة السورية الموالية لأنقرة. ويمتد هذا النفوذ ليصل إلى أرياف حلب، باستثناء منطقتي نبل والزهراء الشيعيتين اللتين تشكلان جيبا إيرانيا.

ولا يبدو أن إيران في وارد التنازل عن حضورها في هذا الجيب، لاسيما بعد أن ثبتت وجودها داخل مدينة حلب. وقد يفسر الحضور الإيراني هناك موقف طهران الرافض للعملية التركية المحتملة في الشمال السوري والتي أعلن أكثر من مسؤول تركي أنها قد تبدأ في أي لحظة.
يأتي ذلك في الوقت الذي لا تبدي فيه إيران انفتاحاً على تطبيع العلاقات بين تركيا والنظام السوري إذا كانت هذه العودة ستؤدي إلى انخراط النظام السوري في الاتفاقات الإبراهيمية المتعلقة بتطبيع العلاقات مع إسرائيل.

الموقف الإيراني يستند إلى ظهور بعض التسريبات الصحفية التي أشارت إلى وجود قنوات سرية بين تل أبيب ودمشق، وهو أمر لم ينفه رئيس الوزراء الاسرائيلي يائير لابيد.

العلاقات مع إسرائيل

وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد مصافحاً وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو
وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد مصافحاً وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو في مؤتمرٍ صحفي عُقد في العاصمة التركية أنقرة يوم ٢٣ يونيو ٢٠٢٢. المصدر: Adem ALTAN / AFP.

الساحة الثالثة من ساحات المواجهة بين أنقرة وطهران هي ساحة علاقات دول المنطقة مع إسرائيل. وشهدت العلاقات بين أنقرة وتل أبيب انقلابا حقيقيا وتعاونا استخباريا كانت أول ثماره القبض على خلايا إيرانية بصدد اغتيال إسرائيليين في تركيا، وفق ما أعلنت عنه أنقرة.

تسوية العلاقات مع تل أبيب سبقه تسوية خلافات أنقرة الحادة مع السعودية والإمارات وإلى حدٍّ ما مع مصر، ما يشير إلى تشكل محور جديد في المنطقة.

ويرى المجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجية الإيراني أن هذا التحول في العلاقات من تبعاته زيادة الضغط على حكومة الأسد، وتمهيد الطريق للتغيير في وسط وجنوب سوريا حيث الوجود الضارب لإيران. وتصرّح إسرائيل علانية بأنها لن تسمح باستمرار هذا الوجود، ويمكن الإشارة في هذا الشأن إلى ما كشف عنه مؤخرا المبعوث البريطاني إلى سوريا من أن الغرب، ومعه إسرائيل، أيقن أنه لا يمكن إسقاط النظام بالضغط الخارجي، وأن الأفضل هو تغيير سلوك النظام وأفضل ما يمكن القيام به في هذا الشأن هو الضربات التي توجهها إسرائيل لإيران في سوريا.

user placeholder
written by
Kawthar Metwalli
المزيد Kawthar Metwalli articles