سيتطلّب الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا استكمال مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي، قبل المضي بتوقيع الاتفاقيّات المباشرة بين الطرفين.
علي نور الدين
خلال شهر أيلول/سبتمبر 2022، وعلى هامش قمّة مجموعة العشرين، رعت الولايات المتحدة الأميركيّة توقيع اتفاقيّة الممر الاقتصادي، الذي يفترض أن يربط الهند بدول الاتحاد الأوروبي، مرورًا بالإمارات العربيّة المتحدة والمملكة العربيّة السعوديّة والأردن وإسرائيل.
وخلال توقيع اتفاقيّة المشروع، كان من اللافت حضور الرئيس الأميركي جو بايدن وولي العهد السعودي محمّد بن سلمان شخصيًا، بالإضافة إلى الرئيس الإماراتي محمد بن زايد آل نهيان ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي ورئيسة المفوضيّة الأوروبيّة أورسولا فون دير لاين. وكان حضور كل هؤلاء، إلى جانب مجموعة من الزعماء الأوروبيين، دلالة على جديّة الاتفاقيّة، وتعويل أطرافها على المشروع اقتصاديًا وسياسيًا.
في واقع الأمر، ثمّة الكثير من التحليلات التي تعتبر أن مشروع الممر الاقتصادي من شأنه أن يعيد رسم خطوط التجارة الإقليميّة، على أساس مصالح الأطراف التي أطلقت المشروع. ومن الواضح أنّ جميع الأطراف التي وقّعت الاتفاقيّة، بما فيها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تملك بالفعل اعتبارات جيوسياسيّة واقتصاديّة، تدفعها إلى دعم مشروع من هذا النوع. وهذا يفتح باب السؤال عن التحوّلات التي ستطرأ على المشهد الإقليمي، في حال نجاح المشروع على المدى البعيد.
لكن في المقابل، يبدو أنّ هناك العديد من الأطراف الإقليميّة التي تتوجّس من نتائج المشروع في المستقبل، مثل مصر والعراق وإيران وتركيا. وجميع هذه الأطراف، تملك مصالح ومشاريع إقليميّة منافسة لتلك التي يحققها مشروع الممر الاقتصادي. أمّا الصين بالذات، فتبرز في الصورة بوصفها الطرف الأكثر تضررًا من هذا المشروع، لأسباب تتصل بطموحاتها الاقتصاديّة في منطقة الشرق الأوسط.
تفاصيل مشروع الممر الاقتصادي
قبل الدخول في مصالح ومواقف جميع الأطراق الإقليميّة، من المهم الإشارة إلى أنّ المشروع لا يقتصر على تشييد البنية التحتيّة المتعلّقة بنقل البضائع التجاريّة. بل يشمل المشروع كذلك تشييد البنى التحتيّة المطلوبة لنقل مصادر الطاقة والكهرباء والبيانات الرقميّة، وهذا ما يعطي الممر الاقتصادي أبعادًا استراتيجيّة، ترتبط بالصراع على إمدادات الطاقة وخطوط نقل المعلومات. بالنتيجة، يفترض أن يخفّض الممر كلفة التجارة بين دول الأطراف في المشروع بنسبة 40%، ما يجعل هذا الممر منافسًا جديًا لممرات التجارة الأخرى القائمة بالفعل.
على مستوى نقل البضائع التجاريّة، سيقوم المشروع على ربط موانئ الهند بموانئ الإمارات، ومن ثم ربط الإمارات بإسرائيل بالسكك الحديديّة عبر أراضي السعوديّة والأردن، على أن يتم شحن السلع بحرًا من الموانئ الإسرائيليّة إلى أوروبا. وعلى امتداد هذا الطريق التجاري، سيستفيد المشروع من تسهيلات مراكز ضخمة للتخزين وإعادة الشحن، في الإمارات والسعوديّة. كما سيستفيد من اتفاقيّات تجاريّة مخصصة لفتح الأسواق بين هذه الدول، وتيسير حركة الترانزيت عبرها.
أمّا على مستوى نقل مصادر الطاقة والكهرباء والبيانات الرقميّة، فسيستهدف المشروع ربط الدول الأطراف في الاتفاقيّة بأنابيب الهيدروجين، التي يمكن استخدامها في مرحلة أوليّة لنقل الغاز الطبيعي. كما سيتم مد كابلات الكهرباء والاتصال الرقمي على طول مسار سكك الحديد بين الإمارات وإسرائيل، وتحت المياه في باقي أجزاء الممر.
مصالح الأطراف الموقّعة على اتفاقيّة المشروع
يمتلك كل طرف من الأطراف الموقعة على اتفاقيّة المشروع مصالح معيّنة يمكن تحقيقها من خلال هذا الممر الاقتصادي. فبالنسبة لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، التي قامت بتسويق المشروع في المرحلة الأولى، سيسمح الممر بتطويق مشروع طريق الحرير الصيني في منطقة الشرق الأوسط، الذي يقوم على ربط الصين تجاريًا بأوروبا عبر ممرّات بديلة. ومن الأكيد أن الولايات المتحدة وجدت في هذا المشروع وسيلة لتقليص أثر الاستثمارات الصينيّة في المنطقة، التي تركّزت على مشاريع البنية التحتيّة المتكاملة مع “طريق الحرير”.
وبالنسبة لإدارة بايدن أيضًا، سيسمح المشروع بتعزيز وضعيّة الهند كقطب صناعي مُصدّر وصاعد في منطقة جنوب آسيا، ما يضع الهند في مواجهة المصالح الصينيّة عينها. وفي هذا الوقت، سيسرّع المشروع من مسار التطبيع بين المملكة العربيّة السعوديّة وإسرائيل، الذي تعمل عليه الولايات المتحدة منذ فترة، من خلال استثمارات ومصالح اقتصاديّة تجمع الدولتين معًا على المدى البعيد.
دول الاتحاد الأوروبي، التي تمثّل المحطّة الأخيرة في الممر الاقتصادي، وجدت في هذا الممر وسيلة لتحقيق طموحها بتأمين واردات مستقرّة ومنخفضة الكلفة لمصادر الطاقة، بعدما جهدت طوال الأشهر الماضية للتعويض عن انقطاع إمدادات الغاز الروسي. وفي الوقت عينه، سيزيد الممر الجديد من اعتماد الدول الأوروبية على صادرات السلع الهنديّة، المنافسة للسلع الصينيّة، وهذا ما يحقق هدف الاتحاد الأوروبي بتخفيف ارتهانه لواردات البضائع الصينيّة على المدى البعيد.
في المقابل، حقق نتنياهو من خلال الإعلان عن المشروع إنجازًا سياسيًا داخليًا أمام الجمهور الإسرائيلي، خصوصًا أن الممر سيزيد من اندماج إسرائيل الاقتصادي في محيطها العربي، ومن دون تقديم أي تنازلات على مستوى الصراع الفلسيطيني الإسرائيلي. بل وأكثر من ذلك، أكّد المشروع نظريّات اليمين الإسرائيلي المتطرّف الذي يتزعّمه نتينياهو اليوم، والتي لطالما شدّدت على عدم ضرورة تقديم أي مكتسبات للفلسطينيين في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، للتمكّن من التقدّم في عمليّة السلام مع جيران إسرائيل العرب.
على مستوى دول الخليج العربيّة، احتفى النظامان السعودي والإمارتي بتلك الخطوة، التي وضعت الدولتين على ممر اقتصادي بالغ الأهميّة، بين دول جنوب آسيا وأوروبا. مع الإشارة إلى أنّ توقيع اتفاقيّة الممر الاقتصادي جاء بعد دعوة الإمارات والسعوديّة للانضمام إلى مجموعة “بريكس” قبل أيّام قليلة، ما وضع مشروع الممر الاقتصادي في إطار حرص السعودية والإمارات على علاقات متوازنة وبراغماتيّة جدًا بين الغرب من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى.
أخيرًا، مثّل التوقيع على اتفاقيّة المشروع خطوة تاريخيّة بالنسبة لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، قبيل الانتخابات العامّة الهنديّة المقرّرة خلال العام 2024. فهذا المشروع سيسمح للهند بالاستفادة من شبكة واسعة من الاستثمارات في البنية التحتيّة، لتصدير السلع الهنديّة باتجاه أوروبا. كما ستسفيد الهند من هذه الشبكة بالاتجاه المعاكس، لاستيراد مصادر الطاقة من دول الخليج العربيّة.
في هذا الوقت ، ستصبح الهند محطّة أساسيّة، بالنسبة إلى سائر دول جنوب آسيا، التي ترغب بتصدير سلعها إلى السوق الأوروبيّة، وهذا ما يغني دول جنوب آسيا عن ممرّات طريق الحرير الصيني. وكل هذه التطوّرات، ستزيد من قدرة الهند التنافسيّة في وجه الصين، التي تحاول أداء هذه الأدوار .
هواجس الأطراف الإقليميّة
لكل الأسباب التي ذكرناها، من الأكيد أن الصين تمثّل الجهة الأكثر تضرّرًا من هذا المشروع، على المستوى الدولي. لكن في الوقت عينه، أثار المشروع هواجس بعض الأطراف الإقليميّة، التي توجّست من تأثير الممر على أدوارها الاقتصاديّة والسياسيّة.
فعلى سبيل المثال، وفور الإعلان عن المشروع، ثارت عاصفة من التساؤلات في مصر، حول أثر الممر على الحركة التجاريّة في قناة السويس، التي تمر عبرها حاليًا حركة التجارة ما بين جنوب آسيا وأوروبا. إدارة القناة ردّت بشكل حازم ونفت التوقّعات التي بالغت من أثر الممر الاقتصادي على الدور الذي تلعبه قناة السويس، لكن ذلك لم يستبعد إمكانيّة تأثير الممر على حجم الحركة التجاريّة عبر القناة، وعلى عائدات الدولة المصريّة من القناة.
أمّا على مستوى تركيا، فسيمثّل المشروع الجديد تحديًا لطموحات الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، الذي يحمل حلم تحويل تركيا إلى مركز إقليمي لإعادة تصدير غاز شرق المتوسّط إلى أوروبا. فالممر الاقتصادي، سيربط إمدادات الطاقة في إسرائيل مباشرة بالسوق الأوروبيّة، من دون المرور بتركيا ما أثار تحفّظات أردوغان العلنيّة.
من جهة إيران، يمثّل الممر الجديد تحديًا على جميع المستويات. فهو من جهة، يزيد التقارب الاقتصادي ما بين إسرائيل وجيرانها العرب، وهذا ما يمكن أن يُترجم لاحقًا بتقارب سياسي يقضم من النفوذ الإيراني في المنطقة. ومن جهة أخرى، يتخطى الممر الجديد الدور الإيراني، كوسيط جغرافي ما بين الهند ومنطقتي الشرق الأوسط وأوروبا. مع الإشارة إلى أنّ إيران استثمرت خلال السنوات الماضية بمشاريع البنية التحتيّة، الهادفة إلى استثمار هذا الموقع الجغرافي اقتصاديًا، عبر تحويل إيران إلى ممر تجاري أساسي في المنطقة.
وأخيرًا، تبرز العراق بوصفها طرفًا إقليميًا متضرّرًا من هذا المشروع، ولو بدرجة أقل. إذ تمتلك العراق حاليًا مشروعًا خاصًا بإسم “طريق التنمية”، الذي تستهدف من خلاله حكومة محمّد شيّاع السوداني تحويل البلاد إلى مركز إقليمي للنقل، ما بين دول الخليج العربي من جهة، وتركيا وأوروبا من جهة أخرى. أمّا مشروع الممر الاقتصادي الجديد، فسيربط دول الخليج العربيّة بأوروبا عبر إسرائيل، من دون المرور بالأراضي العراقيّة، كما خطط السوداني.
في كلّ الحالات، من المبكر اليوم الجزم باحتمالات نجاح المشروع، الذي يتطلّب ضخ استثمارات ضخمة في البنية التحتيّة المطلوبة لنقل السلع ومصادر الطاقة. كما سيتطلّب المشروع استكمال مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي، قبل المضي بتوقيع الاتفاقيّات المباشرة بين الطرفين.
وأخيرًا، سيتوقّف نجاح المشروع على مدى استعداد شركات القطاع الخاص للدخول في استثمارات ضخمة، على امتداد الممر الاقتصادي، الأمر الذي لم يتضح بعد.