صوفيا أكرم
بعد مضي أكثر من ثلاث سنواتٍ على معركة الموصل، لا تزال المدينة الواقعة في شمال العراق تكافح للتعافي من مصيرها المدمر. فقد باتت البُنية التحتية والاقتصاد في حالٍ يرثى لها، مع تدخل الجهات الفاعلة غير التقليدية لملء الفراغ الأمني الذي خلفه داعش. ومنذ ذلك الحين، أصبحت المدينة أرضاً خصبة لأنشطة البحث عن الريع، بما في ذلك تجارة المعادن الخردة في الموصل.
خلّفت حالة ما بعد الصراع في الموصل الكثير من الأنقاض، إذ كان ينبغي استخدام هذه المواد لإعادة إعمار المدينة، ولكن بدلاً من ذلك احتكرتها الميليشيات مستغلةً علاقاتها السياسية لبيعها بأقل من قيمتها السوقية. أدى هذا النشاط إلى تشويه الاقتصاد المحلي، مما تسبب في آثار مضاعفة يمكن أن تؤثر على الاستقرار الدائم في العراق، وذلك كما وصفتها إيزادورا جوتس في تقرير مكتوب مع برنامج دراسات الصراع ومركز الشرق الأوسط في كلية لندن للاقتصاد – تجارة إعادة تدوير خردة الحرب: دور الحشد الشعبي في اقتصاد الموصل ما بعد الصراع:
“إن تورط الجهات الفاعلة غير التقليدية في التجارة، فضلاً عن التواطؤ الواضح للدولة، يروي قصةً أكبر، قصة الفساد ضارب الجذور وثقافة سياسية اقتصادية سامة”.
ووفقاً لمصادر التقرير، بعد التحرير، دُمر 41% من المناطق الحضرية في الموصل، بينما بات 91% من المدينة القديمة أنقاضاً.
قُدرت تكلفة إعادة إعمار المدينة بحوالي ملياري دولار، لكن الإجراءات المحدودة التي اتخذتها الحكومة المحلية والإتحادية على حد سواء أحبطت السكان المحليين. نتيجةً لذلك، شكل المواطنون أنفسهم، بمساعدة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، جزءاً محورياً من جهود إعادة الإعمار هذه.
ومع ذلك، يتمثل أحد أكبر التحديات التي يواجهها السكان المحليون بنقص الموارد الاقتصادية في البلاد.
وبحسب التقرير “الغائب عن مداولات إعادة الإعمار هو التركيز على الديناميكيات الأقل وضوحاً والملموسة التي ستؤثر على استدامة التعافي الاقتصادي المحلي،” كما عرض التقرير دور الحشد الشعبي – ميليشيا شيعية تُعرف أيضاً باسم وحدات الحشد الشعبي التي تعمل الآن كقوات أمنٍ للدولة – ونفوذها في المدينة وسيطرتها على تجارة الخردة.
وكتبت جوتس “يمثل هذا الثقافة السياسية والاقتصادية الأوسع في الموصل،” كما أوضحت كيف تحاول الجماعات المختلفة “ترسيخ مكاسبها داخل المدينة وتأمين موقعها في عراق ما بعد الصراع.”
ففي حين يمكن اعتبارها نفايات، إلا أنه يمكن إعادة تحويل المعادن الخردة إلى الفولاذ وهي صناعة تُقدّر قيمتها بمليارات الدولارات في جميع أنحاء العالم، إذ تعتمد مصانع الصلب في إقليم كردستان في شمال العراق بشكلٍ شبه حصري على الخردة لإنتاج حديد التسليح، الذي يعدّ أساسياً لجميع مشاريع البناء تقريباً.
وعليه، سهّل عدم اهتمام السلطات بإعادة إعمار الموصل على الحشد الشعبي السيطرة على هذا القطاع.
وبالتالي، للمعادن الخردة إمكانات كبيرة في إعادة إعمار الموصل والاقتصاد بالمجمل، غير أن الاختلاس في ظل هذه التجارة شهد إخراج مئات الآلاف من الأطنان من الخردة من المدينة في غضون شهري ديسمبر 2018 وأبريل 2019 فحسب.
وعلاوةً على ذلك، تعتبر الطبيعة غير المشروعة لطريقة تداول الخردة فضيحةً قيد التحقيق في الموصل، إلى جانب تورط السياسيين المحليين المؤثرين والميليشيات.
ومن الجدير بالذكر أن السوق الرئيسي للمعادن الخردة داخل العراق هو سوق أربيل، على الرغم من أن بعضها يذهب إلى السليمانية وبغداد، إذ تعدّ مصانع الحديد الثمانية في كردستان العراق وقربها من الموصل مكاناً مناسباً لذلك. في الواقع، ينتهي المطاف بالكثير من الخردة في شركة أربيل للصلب، وهي مصنع مملوك لمجموعة دارين وله صلات بعائلة البارزاني – وهي عائلة بارزة تمتلك مصالح في جميع أنحاء كردستان العراق.
كما تشير بعض التقارير إلى تصدير الخردة أيضاً إلى إيران، مستغلين الرقابة الحدودية الضعيفة في العراق حيث تم حظر التصدير الخارجي للمعادن الخردة في عام 2016.
تبدو الفكرة أكثر واقعية آخذين بعين الاعتبار العلاقات الإيرانية التي تربط الحشد الشعبي وعصائب أهل الحق ومنظمة بدر، المتورطين أيضاً بهذه التجارة بالرغم من نفيهم ذلك. علاوةً على ذلك، تدعم التكلفة المنخفضة للخردة وحقيقة أن الحكومة الإيرانية تدعم تكلفة الطاقة لصناعاتها، في حين أن الدعم العراقي لا يشجع الصناعة، فرضية تهريب الخردة عبر الحدود.
ففي حين استخدم الحشد الشعبي نقاط التفتيش الخاصة به لمراقبة التجارة وتوجيهها، إلا أنه اعتمد أيضاً على شبكة فسادٍ أوسع من التجار المعروفين الذين يجبرون أصحاب ساحات الخردة على البيع لهم، إلى جانب السياسيين المحليين الذين يحمون اللاعبين من أي رد فعلٍ عنيف أو تداعياتٍ قانونية.
فعلى سبيل المثال، ترتبط العديد من الأطراف بمن فيهم منظمة بدر وعصائب أهل الحق بتحالف الفتح، الذي يشكل كتلةً ضخمة في البرلمان العراقي. وفي مثالٍ آخر، سمح نوفل العاكوب، محافظ نينوى السابق سيء السمعة، للحشد الشعبي برفع التعريفات الجمركية على نقاط التفتيش بنسبة تصل إلى 10% من قيمة البضائع المنقولة، بما في ذلك الخردة، مقابل اقتطاع الأرباح.
أدت التعريفات إلى ارتفاع الأسعار بنسبة تتراوح بين 30% و35%، كما استغلت نقاط التفتيش لجمع الرشاوى وإصدار تصريحٍ لنقل الخردة، الذي ينبغي إصداره من شخصٍ على صلة بالجماعة. وبحسب التقارير، في بعض الأحيان، يدعي الحشد الشعبي عند نقاط التفتيش أن التصريح مزور ويصادر البضائع. وفي حالةٍ أخرى، يُمنح التصريح بشرط كشف المالك عن مكان تخزين الخردة، ليتم نهبها لاحقاً.
علاوةً على ذلك، حاصر الحشد الشعبي أسواق الخردة الأخرى في العراق، وبخلاف الحظر المفروض على التجارة الخارجية، لا يخضع للإشراف القانوني.
وعلى صعيدٍ متصل، يهدد الافتقار إلى التنظيم أيضاً السلامة حيث يتم إلقاء المخلفات العسكرية مثل المتفجرات والمواد الملوثة بين الخردة.
ومن الجدير بالذكر أن الخردة محمية بموجب حقوق الملكية، فإذا كانت الخردة تأتي من منزل شخص مدمر، فهي ملك لصاحب المنزل، في حين أن الممتلكات العامة ملك السلطات الحكومية المحلية. وبالتالي، يعدّ جمع الخردة دون موافقة المالك عمل غير قانوني وبالنظر لكونها تحمل إمكاناتٍ كبيرة لنمو البلاد، فهي ضارة أيضاً بمستقبل العراق.
أحد الأمثلة المذكورة في التقرير هو اقتراحٌ قدمته شركة معمارية فرنسية لإعادة تدوير الأنقاض والخردة لإعادة إعمار 55 ألف وحدة سكنية من خلال الطباعة ثلاثية الأبعاد، إلا أن المشروع ذهب أدراج الرياح ذلك أن تجارة الخردة غير المشروعة أزالت ملايين الأطنان من الخردة تاركة المدينة خالية الوفاض.
بل إن فرضية تمكّن السكان المحليين من بيع الخردة بأنفسهم من شأنه أن يخفف جزئياً من بعض مشاكلهم الاقتصادية، إلا أن هذه الفرصة يبددها احتكار الحشد الشعبي للتجارة وإزالة الخردة من المدينة.
لا يتم نهب الخردة من تحت الأنقاض فحسب؛ بل يتم أيضاً نهبها من المنشآت العاملة، مثل مصافي تكرير النفط- الهياكل الأساسية لاحتياجات الطاقة ومستقبل البلاد. فعلى سبيل المثال، قامت عصائب أهل الحق بتفكيك مصفاة بيجي بعد أن استعادت المدينة الشمالية من قبضة داعش.
تعدّ مصفاة بيجي المصفاة الأكبر في العراق وتزود البلاد بما قيمته 5,5 مليون دولار إلى 6,5 مليون دولار من الطاقة كل شهر، حيث أدى تدميرها إلى تعطيل صناعة النفط، التي كانت تُبقي اقتصاد البلاد على قيد الحياة.
وإلى جانب ما تم ذكره، تعتبر تجارة الخردة فرصة مُهدرة للتنويع الاقتصادي للعراق في المناطق الصناعية بالنظر إلى أن البلاد لا تمتلك إنتاجاً محلياً وفيراً بعيداً عن الطاقة، كما لا تؤدي أنشطة البحث عن الريع، كما هو موصوف هنا، سوى إلى زيادة التفاوتات في الثروة، وزيادة التعرض للعنف وعدم الاستقرار، وتقليل القدرة على مواجهة الصراعات.
وبحسب ما قالته مؤلفة التقرير، إيزادورا جوتس، لنا في فَنَك، “يسعى البحث إلى فهم كيف أعاد الصراع تشكيل الموصل بعد الحرب على عدة مستويات، من خلال تجارة المعادن الخردة.”
وأضافت، “من خلال تتبع احتكار الحشد الشعبي لسوق المعادن الخردة في الموصل، تُظهر هذه الورقة البحثية كيف تحولت الجهات الأمنية إلى جهاتٍ فاعلة اقتصادية، وعواقب هذا التحول. إن تأثير دورهم الاقتصادي المتنامي وثيق الصلة بالسياسات، وتحديداً الخطاب حول إعادة الإعمار والاستقرار والفساد.”
وتابعت القول، “سيزيد توسع السوق السياسية، بالإضافة إلى السلوكيات والأنماط الاقتصادية والسياسية السامة التي تنطوي عليها، من تعقيد أي تغييراتٍ هيكلية داخل النظام العراقي.”
لا تسلط الحجج حول الموصل دائماً الضوء على الهياكل والجهات الفاعلة الكامنة التي يمكن أن تسبب الصراع، بل يمكن أن يكون فهم هذه العوامل المباشرة وغير المباشرة المزعزعة للاستقرار أمراً حيوياً لكسر دوائر العنف.