أهميّة التكامل الاقتصادي العربي اليوم تكمن في تمكين الدول العربيّة من وضع السياسات المشتركة، لإيجاد الحلول للأزمات التي تتطلّب تعاونًا دوليًا مشتركًا، كأزمات التصحّر والبيئة.
علي نور الدين
يواجه العالم بأسره اليوم مجموعة من التحديات الاقتصاديّة، ومنها تنامي الحروب والنزاعات التجاريّة بين التكتّلات الاقتصاديّة الكبرى، ما يزيد من القيود التي تعرقل التجارة الدوليّة الحرّة.
كما ترتفع في الوقت الراهن مخاطر الأمن الغذائي وتغيّر المناخ وتضخّم الأسعار العالمي، ناهيك عن التهديدات التي تطال سلاسل توريد مصادر الطاقة، بفعل التوترات الجيوسياسيّة.
وخلال هذا العام، استجدّت الضغوط الناتجة عن ارتفاع الفوائد في جميع أنحاء العالم، وما نتج عن ذلك من ضغوط على الأنظمة المصرفيّة، وتداعيات على مستوى الأسواق الناشئة والدول النامية.
ضرورة التكامل الاقتصادي العربي
في النتيجة، لم يعد العالم يتجّه بثبات نحو المزيد من العولمة التجاريّة، كما كان الحال خلال العقود الماضية. كما لم تعد التكتلات الاقتصاديّة الكبرى تتجه نحو فتح أسواقها، بما يسمح بتخصّص كلٍّ منها في الصناعات وسلاسل الإنتاج التي تتناسب مع ميزاتها التنافسيّة. وفوق كل ذلك، تقلّصت مساحات التعاون الدوليّة، التي تهدف الى التعامل مع التحديّات العالميّة المشتركة، كمسألة الاحتباس الحراري والتلوّث.
بالمقابل، بات البحث عن ضمان أمن الطاقة والسياسات الحمائيّة هو الشائع في كل أنحاء العالم عند وضع الإستراتيجيّات والخطط الاقتصاديّة. وحتّى العلاقة بين القوى الاقتصاديّة الليبراليّة كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، أصبحت محكومة بهذا التنافس العالمي القاسي. وهذا الاتجاه بات مأزقًا تتحدّث عنه الدراسات الاقتصاديّة الحديثة.
كل هذه التطوّرات، فتحت باب السؤال عن دور الاتحادات والتكتلات الاقتصاديّة في الدول الناشئة والنامية، نظرًا لأهميّة هذا النوع من الكيانات، لتمكين هذه الدول من الاستجابة لكل تلك التحديات. وفي المنطقة العربيّة، يُطرح اليوم السؤال البديهي عن التكامل الاقتصادي العربي، الذي لطالما تحدّثت عنه جامعة الدول العربيّة والحكومات العربيّة كهدف بديهي.
أهميّة التكامل الاقتصادي العربي اليوم، لا تتمثّل طبعًا في تحوّل العرب إلى قطب اقتصادي يخوض الحروب التجاريّة في وجه الآخرين. بل وعلى العكس تمامًا، تكمن أهميّة هذا التكامل في تمكين الدول العربيّة من وضع السياسات المشتركة، لإيجاد الحلول للأزمات التي تتطلّب تعاونًا دوليًا مشتركًا، كأزمات التصحّر والبيئة.
كما يسمح هذا التكامل بفتح الأسواق أكثر بين الدول العربيّة، لتعزيز التجارة والاستثمارات والنمو الاقتصادي، وضمان إمدادات الغذاء والطاقة بشكل مستدام، ومواجهة التحديات النقديّة والماليّة المستجدة. وبذلك، يصبح التكامل الاقتصادي العربي أداة أساسيّة للتعامل مع التحديات القائمة في الأسواق الدوليّة حاليًا، بل ومعالجة بعضها أيضًا.
ورغم إنجاز الدول العربيّة بعض الخطوات المتواضعة لتحقيق التكامل الاقتصادي بينها، على مدى العقود الماضية، إلا أنها مازالت عاجزة عن تطوير هذا التكامل والاستفادة من إمكاناته بالشكل الصحيح. وهذا ما يحمّل الدول العربيّة عبء مواجهة التحديات الاقتصاديّة العالميّة بغياب خطّة أو رؤية مشتركة.
تاريخ التكامل الاقتصادي العربي
تطرّقت الدول العربيّة لمسألة التعاون الاقتصادي للمرّة الأولى عام 1945، في ميثاق تأسيس جامعة الدول العربيّة. يومها، نص الميثاق في مادّته الثانية على تحقيق التعاون العربي المشترك في الشؤون الاقتصاديّة والماليّة، بما يشمل التبادل التجاري والسياسات الجمركيّة والمسائل المتصلة بالعملة (أي السياسات النقديّة)، بالإضافة إلى الشؤون المرتبطة بقطاعي الزراعة والصناعة. كما نصّ الميثاق على تعاون الدول العربيّة في شؤون المواصلات، بما يشمل السكك الحديديّة والطرق والطيران والملاحة والبرق والبريد.
تحقيقًا لهذا الهدف، تأسس عام 1957 مجلس الوحدة الاقتصاديّة العربيّة، تحت مظلّة الجامعة، ليكون الجهاز المسؤول عن وضع خطّة عمليّة لتحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول العربيّة. كما تولّى المجلس وضع المراحل والتشريعات المطلوبة لتحقيق هذا التكامل، بالتنسيق مع وزارات الاقتصاد والمال في كل دولة عربيّة. ومنذ ذلك الوقت، تميّز المجلس بإلزاميّة تنفيذ قراراته من قبل الدول الأعضاء في المجلس، فيما بدأ المجلس بعقد اجتماعاته بعد سبع سنوات من تأسيسه، أي عام 1964.
في تلك المرحلة، وضع المجلس لنفسه أهدافًا كبرى، تشمل الوصول إلى مرحلة تحرير انتقال رؤوس الأموال والأشخاص بين الدول العربيّة دون أي عوائق، وفتح الأسواق أمام تبادل السلع والخدمات بين الدول العربيّة بشكل تام. كما استهدف المجلس الوصول إلى مرحلة حريّة النقل والترانزيت والإقامة والعمل وممارسة النشاط الاقتصادي، لجميع مواطني الدول العربيّة، في جميع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربيّة.
بمعنى أوضح، أراد المجلس تحقيق الهدف الذي نصّ عليه إسمه: الوحدة الاقتصاديّة الكاملة بين دول المنطقة العربيّة. وأشار المجلس صراحة في ذلك الوقت إلى أن أهدافه تشمل بشكل واضح خلق منطقة جمركيّة موحّدة، وسوق عربيّة مشتركة، ومنطقة تبادل حرّ.
ورغم كل هذه الأهداف الطامحة، ظلّت إنجازات هذا المجلس محدودة خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، لتقتصر على تأسيس بعض منظّمات التعاون العربي كالمنظّمة العربيّة للتنمية الإداريّة، والأكاديميّة العربيّة للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، والمنظمة العربيّة للتنمية الزراعيّة، والمنظمة العربيّة للاتصالات الفضائيّة وغيرها. وفي العديد من الحالات، ظلّت إمكانات وإنجازات بعض هذه المنظمات محدودة، نتيجة عدم توفّر الإمكانات الماليّة في معظم الدول العربيّة في ذلك الوقت، ومحدوديّة الخبرات العربيّة الكفيلة بتفعيل هذه المنظمات.
أمّا على صعيد التبادل التجاري بين الدول العربيّة، فقد اقتصرت إنجازات المجلس قبل مرحلة التسعينات على توقيع بعض اتفاقيّات التعامل التجاري التفضيلي، حيث نصّت بعضها على جدولة رسوم جمركيّة تعطي بموجبها الدول العربيّة أفضليّة معيّنة أكثر من دول عربيّة أخرى. لكن مشكلة هذه الاتفاقيّات تمثّلت في خضوعها للتعديل والتفاوض المستمرّين، ما جعلها غير قادرة على تحقيق التكامل الاقتصادي العربي الكامل.
بعد كل هذه الإخفاقات، جاءت القفزة الأهم والأبرز في تاريخ التكامل الاقتصادي العربي عام 1997، حين تمّ توقيع اتفاقيّة التجارة الحرّة العربيّة، التي نصّت على تحرير السلع المتبادلة بين الدول العربيّة من أي قيود أو رسوم جمركيّة.
كما نصّت الاتفاقيّة على جداول زمنيّة لإزالة هذه القيود والرسوم الجمركيّة بشكل متدرّج، وعلى مدى سنوات عدّة، لتتمكّن القطاعات الاقتصاديّة والسياسات العامّة في كل دولة من التأقلم مع هذا الواقع الجديد. وفي السنوات اللاحقة، التزمت الدول العربيّة بتخفيض الرسوم الجمركية والقيود تخفيضًا تدريجيًّا ، مع جعل هذه الاتفاقيّة التجربة الأنجح في مسار التكامل الاقتصادي العربي.
فرص ضائعة
بمعزل عن هذه الإنجازات الصغيرة والمحدودة، مازالت الدول العربيّة قاصرة عن تحقيق التكامل الاقتصادي بينها بالشكل الأمثل. فرغم إزالة الحواجز الجمركيّة بين الدول العربيّة، لتحفيز التجارة البينيّة في ما بينها، لم يتم بعد الوصول إلى مرحلة الاتحاد الجمركي الكامل بين الدول الأعضاء.
مع الإشارة إلى أنّ الاتحاد الجمركي يفرض أن تضع الدول العربيّة تعريفات وقيودًا جمركيّة موحّدة، تجاه العالم الخارجي. ورغم أن قمّة الجامعة العربيّة التي انعقدت عام 2009 استهدفت الوصول إلى مرحلة الاتحاد الجمركي الكامل عام 2020، لم يتم تحقيق هذا الهدف بعد.
وتكمن أهميّة الاتحاد الجمركي العربي في أنّه يسمح للدول العربيّة بعقد اتفاقيّات جماعيّة لشراء السلع بالجملة من الدول الأخرى غير العربيّة، وبأسعار وشروط أفضل، ليتم توزيعها على الدول العربيّة بحسب حاجاتها. كما يسمح هذا الاتحاد للدول العربيّة بالتفاوض بشكل جماعي، مع التكتلات الاقتصاديّة الأخرى، لتسهيل التجارة الدوليّة معها بشروط جيّدة. وأخيرًا، يضمن هذا الاتحاد حريّة انتقال السلع المستوردة بين الدول العربيّة، بعد أن يتم توحيد شروط ورسوم استيراد السلع من الخارج.
في الوقت نفسه، لم تصل الدول العربيّة إلى مرحلة التكامل والتعاون للتعامل مع التحديات الماليّة المرتبطة بأزمات السيولة وارتفاع الفوائد ومديونيّات الحكومات، ولم يتم العمل على أية حلول مشتركة لهذه المشاكل. كما لم تنجح الدول العربيّة في إطلاق مسارات مؤثّرة للعمل المشترك على أزمة تغيّر المناخ، وتداعياتها على الدول العربيّة.
وخلال أزمات الأمن الغذائي وسلاسل توريد مصادر الطاقة مؤخّرًا، لم تلعب الجامعة العربيّة أي دور يذكر في تنسيق استجابة الدول العربيّة لهذه التحديات. ومن المعلوم أن جميع هذه التحديات تحتاج إلى تعاون إقليمي واسع النطاق، نظرًا لثقل تداعياتها التي تتجاوز إمكانات كل حكومة على حدة.
وبينما تمتلك دول الخليج اليوم فوائض ضخمة من السيولة، نتيجة ارتفاع أسعار النفط والغاز، لم تعمل الدول العربيّة مجتمعة على عقد اتفاقيّات مشتركة لتنظيم حركة الاستثمارات العابرة الحدود، كما لم تعمل على تطوير تشريعاتها المحليّة وفق معايير موحّدة تسهّل تدفّق هذه الرساميل. وهذا تحديدًا ما جعل تدفّق هذه الرساميل رهينة الاتفاقات الثنائيّة والمحدودة الأثر بين الدول العربيّة، كما يحصل بين العديد من الدول الخليجيّة ومصر اليوم.
عوائق سياسيّة وتنمويّة
يقف العديد من العوائق السياسيّة والتنمويّة خلف محدوديّة تعاون الدول العربيّة، في مجال التكامل الاقتصادي. فالنزاعات السياسيّة والجيوسياسيّة بين الدول الأعضاء في جامعة الدول العربيّة، حوّلت التعاون الاقتصادي إلى إحدى أدوات الضغط المتبادل بين هذه الدول. كما ساهم التفاوت في مستوى التنمية بين الدول العربيّة، وخصوصًا بين الدول المصدّرة والمستوردة النفط، إلى تفاوت مصالح هذه الدول وحاجاتها. وهذا ما ساهم بتركيز دول الخليج على بعض خطط التكامل الاقتصادي البديلة، من خلال مجلس التعاون الخليجي.
خلاصة الأمر، تحتاج الدول العربيّة اليوم إلى إطلاق حوار شفّاف وصريح من خلال جامعة الدول العربيّة، لطرح الأسئلة المتعلّقة بالتحديات المشتركة، التي تفرضها الأزمات الاقتصاديّة العالميّة. وعلى هذا الأساس، يمكن للدول العربية البحث عن المصالح الإقليميّة التي تجمها اليوم، والتي يمكن أن يتمّ تطوير التكامل الاقتصادي العربي بناءً عليها، ووضع سياسات ملموسة تذهب بهذا الاتجاه.
وهذه السياسات، يمكن أن تأخذ بعين الاعتبار اختلاف الأولويّات في بعض المجالات، بين الدول المصدّرة والمستوردة النفط، كما يمكن أن تأخذ بعين الاعتبار الفرص التي يمكن أن يخلقها اختلاف نوعيّة الموارد التي تملكها هذه الدول.
فبينما تمتلك دول الخليج فوائض الرساميل، تمتلك الدول المستوردة النفط الفرص الاستثماريّة واليد العاملة والإمكانات التنافسيّة في القطاعين الزراعي والصناعي. أما الأكيد، فهو أنّ التغاضي عن إطلاق هذا الحوار، كما هو الحال اليوم، سيفوّت على الدول العربيّة المزيد من الفرص التي يمكن أن يقدّمها التكامل الاقتصادي في ما بينها.