مرّ ما يزيد عن قرنٍ من الزمان على قضية فلسطين. ومع ذلك، ما زال الفلسطينيون يعانون من سياسات إسرائيل التمييزية ومن عدم قدرتهم على تحقيق أبسط حقوقهم.
ماجد كيالي
تعد القضية الفلسطينية واحدة من أعقد وأصعب القضايا السياسية التي عرفها العالم، وربما أكثرها استحالة على الحل. وباستثناء قضيتي الأكراد وكشمير، قد تكون هذه القضية الوحيدة التي غطّت كامل القرن العشرين وانتقلت إلى القرن الحادي والعشرين.
القضية الفلسطينية بقيت عند نقطة الصفر. ولا شيء يدعو إلى المكابرة والإنكار، أو إلى التورية وترويج الأوهام. ورغم إقامة كيان السلطة في الضفة وغزة، فإن إسرائيل تسيطر على كامل أرض فلسطين التاريخية. وما زال الفلسطينيون إما لاجئين في عديدٍ من الدول، أو في الضفة وغزة تحت سيطرة الاحتلال والحصار الإسرائيلي.
الفلسطينيون يخضعون لسياسات إسرائيل التمييزية. وتقوم هذه الدولة بمصادرة أراضيهم وتقييد حركتهم. كما أنها تهدم بيوتهم وتغتال أو تعتقل ناشطيهم. وفوق كلّ ذلك، فإنها تهيمن على حياتهم من كلّ النواحي السياسية والاقتصادية والإدارية والأمنية.
إسرائيل وصلت بها الصلف حدّ الطلب من الفلسطينيين، أي من ضحيّتها، أن يعترفوا بها حصراً كدولة يهودية، وليس كدولة عادية. ويعني ذلك الاعتراف بروايتها التاريخية، وبحقّها في الوجود على حسابهم.
وبطبيعة الحال، فإن هذا الوجود يعني إزاحة الفلسطينيين من المكان والزمان، وحرمانهم من الوطن والهوية وامتهانهم. وربّما هي تريد منهم أيضاً، حتى الاعتذار عن تعكير عيشها ببقاء بعضهم فيها، ومقاومتهم المديدة والعنيدة لها!
لم يشفع للفلسطينيين عند إسرائيل أن قيادتهم أخذتهم نحو تسويةٍ فرّطت بموجبها بحقوق ملايين اللاجئين الفلسطينيين، وعن ثلثي أرض فلسطين. لم يكن كافياً في عيون إسرائيل أن تدفع القيادة الفلسطينية شعبها لحصر حلمه بإقامة دولة فلسطينية في 22 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية.
كما لم ترض إسرائيل بسعي الفلسطينيين لعدلٍ نسبي توخّوه في حلّ تفاوضي لمختلف جوانب قضيتهم. وباختصار، ما تطلبه إسرائيل ليس أقلّ من استسلام الفلسطينيين الكامل والمشهّر والمكتوب. وهذا هو مغزى شرطها اعتبار قيام دولة لهم، بمرتبة حكم ذاتي، وتحت هيمنتها، بمثابة إقرار منهم بانتهاء حقوقهم!
منذ بدايتها في اتفاق أوسلو، لم تكن عملية التسوية واقعية ولا جدّية بالنسبة إلى إسرائيل. ليس بسبب اختلال موازين القوى لصالحها فقط، ولا لأنها لم تنضج إلى الثقافة التي تمكّنها نبذ طابعها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية فحسب، وإنما لأنها لم تذهب إلى التسوية لحلّ مشكلة الفلسطينيين.
وعلى نفس الخط، فإنها لم تمضِ في هذا المسار لتسوية وضعها مع دول المنطقة. وبكلماتٍ أخرى، فإن إسرائيل ذهبت نحو التسوية لمجرّد التكيّف مع التحوّلات الدولية وتحسين صورتها في العالم وللتحرّر من عبء الفلسطينيين. كما أرادت الحفاظ على نقاوتها كدولة أغلبية يهودية.
هذا التوجّه يفسّر الغطرسة والعنت الإسرائيليين اللذين فوّتا حتى فرصة السلام والتطبيع مع الدول العربية، بتجاهل إسرائيل مبادرة السلام العربية منذ قرابة عقدين.
باختصار، تريد إسرائيل من التسوية التخلّص من الفلسطينيين. فهم عبءٌ اقتصادي وأمني يثقل على موازنتها وعلى جيشها. كما أنّها تريد التحرّر منهم، كأنهم طارئون على المكان والزمان.
وبتعبيرٍ أدق، إسرائيل تعتبر الوجود الفلسطيني خطراً ديموغرافياً يهدّد مشروعها لإقامة الدولة اليهودية الخالصة. كما أنها تعد هذا الوجود تشويهاً لسلامة “الديمقراطية الإسرائيلية”.
السلطة الفلسطينية داعبت أحلام الفلسطينيين بقيام وطن ودولة لهم. بيد أنّ قيام هذا الكيان تكشّف عن عبءٍ يثقل على كاهل الفلسطينيين. فهذه السلطة كبحت مختلف أشكال كفاح الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي. كما أنها قسّمتهم وأحطّت بأهليّتهم النضالية، وأصابتهم بلوثة الفساد.
وفوق ذلك، فقد شوّشت السلطة الفلسطينية على قضية الفلسطينيين أمام الرأي العام العالمي، بإظهار الصراع وكأنه بين حقّين متكافئين وطرفين متفاوضين!
قيام السلطة الفلسطينية أدى إلى حصول تغيّرين مؤثرين وخطيرين. الأول يتمثّل في تحوّل جزء كبير من الفلسطينيين إلى العمل في أجهزة السلطة الخدمية والأمنية. وبات قسمٌ كبير من الفلسطينيين يشتغل خارج دائرة القطاعات الإنتاجية، أو القطاعات الاقتصادية المرتبطة بها. وقاد هذا التغيير إلى تأثيراتٍ سلبية على طريقة عيش الفلسطينيين وعلى مفاهيمهم السياسية.
ومعلومٌ أن السلطة تعيل اليوم حوالي 160 ألف موظفاً. كما أن السلطة باتت مرتهنةً في مواردها لعطاءات الدول المانحة وللعوائد الضريبية التي تجبيها إسرائيل لصالحها. وعلى ذلك، فإنّ السلطة لا تستطيع الاستمرار في البقاء من دون هذه الموارد.
التغيير الثاني يتمثّل في الحالة الإشكالية التي يعيشها الفلسطينيون من الناحيتين السياسية والمعيشية. ففي حال أراد الفلسطينيون تغيير خياراتهم، أو مقاومة إملاءات إسرائيل المرتبطة بالاستيطان والجدار الفاصل والحصار والاعتقال وتهويد القدس، فإنهم غير قادرين على القيام في ظل أوضاعهم الحالية.
وببساطة، إذا غيّر الفلسطينيون من خياراتهم، فإنهم قد يثيروا ردود فعلٍ إسرائيلية وغربية ليس بإمكانهم تحمّل نتائجها.
وبكلماتٍ أخرى، فإن الارتهان المادي يجلب الارتهان أو الخضوع أو المهادنة السياسية. وهذه كلها تؤدي إلى تبديد الإرادة ووهن الروح الوطنية وشيوع علاقات اللامبالاة والفساد.
هذا يعني أن الطبقة السياسية الفلسطينية السائدة – بما في ذلك سلطة حماس – باتت في مواجهة طريقين. فإما الحفاظ على وضعها كسلطة وضمان استمرار مواردها المالية، أو الخروج من هذه المعادلة وبالتالي تحمّل النتائج. ويترتب على الخيار الأول استحقاقاتٌ سياسية متعددة، ضمنها التنسيق السياسي والأمني.
أما الخيار الثاني، فيترتب عليه احتمال خسارة الطبقة السياسية الفلسطينية مكانتها كسلطة وفقدان مواردها المالية التي تعزز شرعيتها وهيمنتها في المجتمع الفلسطيني.
مع ذلك، وكي نكون منصفين، ينبغي أن ننبّه إلى أن هذا الضعف الفلسطيني المزمن، على صعيد الفكرة والبنية والأداء، إنما هو نتاج عوامل أساسية عدة.
ومن هذه العوامل: احتساب إسرائيل في هيكل النظام الدولي على القوى العظمى المتحكّمة في العالم. ورغم طبيعتها الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والدينية، فإنّ هذا النظام يحسب إسرائيل في إطار قوى الحداثة والتحديث والديمقراطية فيه.
ومن عوامل الضعف الفلسطيني المزمن افتقار الفلسطينيين، على تشتّتهم، إلى حاضنةٍ عربيةٍ مناسبة. يضاف إلى ذلك تفوّق الإسرائيليين عليهم في موازين القوى والإدارة والتنظيم. لذا، ما لم يتغيّر هيكل النظام الدولي، وما لم تتغيّر الأحوال العربية، وما لم تنضج إسرائيل للتسوية، فإن الوضع سيبقى على حاله.
وعلى ذلك، فإن الفلسطينيين مطالبون بإعادة تنظيم أنفسهم بصورةٍ جدّية. كما على الفلسطينيين البحث عن معادلة سياسية أخرى، أو عن بديل آخر، يعزّزون فيه مكانتهم وحقوقهم في صراعٍ معقّد ومستمر منذ قرنٍ من الزمن.
ملاحظة
الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء الكاتب الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.