نشر موقع “The Conversation” مقالةً قارنت منهجية الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب تجاه منطقة الشرق الأوسط بالمنهجية التي طبقها سلفه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. ويشير جيمس غيلفن، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط المعاصر بجامعة كاليفورنيا، في مقالته إلى الاختلاف الجذري بين المنهجيتين، مسلطاً في الوقت نفسه الضوء على ما يعتري دوافع هاتين المنهجيتين من اختلاف. ويقوم غيلفن بمقارنة تلك الدوافع، حيث يتخذ من أفغانستان والشرق الأوسط بصفةٍ عامة نموذجاً على طرحه، في الوقت الذي يحلل فيه تبعات قرار ترامب الأخير بسحب القوات الأمريكية من سوريا على المنطقة.
ويبدأ غيلفن مقالته بالإشارة إلى مسارعة مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون في السادس من يناير الجاري إلى استدراك ما أعلنه الرئيس ترامب بشأن تعجيل الولايات المتحدة لسحب قواتها من سوريا، حيث لفت بولتون النظر إلى أن مثل هذا الانسحاب قد يستغرق شهوراً أو سنوات.
وكان ترامب قد أدلى بتصريحاته في هذا الشأن قبل ذلك بأسبوعين من الزمن. ووجه الرئيس الأمريكي أوامره بعد ذلك للبنتاغون بخفض عدد القوات الأمريكية في أفغانستان إلى النصف.
وبصرف النظر عن مصير أي من القرارين، فقد اعتبر النقاد والسياسيون هذين القرارين بمثابة فرصة مواتية للمقارنة بين سياسة ترامب وأوباما تجاه منطقة الشرق الأوسط.
وبحسب ما لفت إليه رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ريتشارد هاس النظر في الحديث الذي أجرته معه صحيفة “نيويورك تايمز” بعنوان “استراتيجية الانسحاب في سوريا، على خطا أوباما” فإن هناك “استمرارية أكبر بين منهجيتي ترامب وأوباما على مستوى التعامل مع هذه القضية، وبطريقةٍ لن تعجب أيّ من الإدارتين”.
وفي اليوم التالي، كرّرت صحفية “ذا هيل” الرأي ذاته في مقالٍ بعنوانٍ رئيسي صريح لا لبس فيه وهو: “سياسة ترامب في الشرق الأوسط تشبه كثيراً سياسة أوباما – وهذا أمر غير جيّد”.
حتى السيناتور الجمهوري ليندساي غراهام، التي تدعم ترامب فقط حين يتعلق ذلك بازدرائه لسياسة أوباما في الشرق الأوسط، ترى أن خطة ترامب “خطأ مشابه لأخطاء أوباما”.
وبصفته من الأشخاص الذين درسوا وكتبوا عن منطقة الشرق الأوسط لما يزيد عن ٣٠ عاماً، فقد لفت انتباه غيلفن على الغور مدى خطأ هذه المقارنة.
ففي الوقت الذي دعا فيه كلا الرئيسين إلى تقليص الوجود الأمريكي في المنطقة، إلا أن صاحب المقالة يرى أن سياستيهما قابلة للمقارنة فقط على مستوى سطحي للغاية. وإذا فهمنا الدافع وراء هذا الرأي، فإنه سيكون في مقدورنا رؤية الخلل الأساسي في السياسة الحالية.
ترامب في مواجهة أوباما: أفغانستان
تبنى أوباما وترامب مقاربتين متباينتين تجاه الحرب الأمريكية الأطول في أفغانستان. إذ فضل كلاهما انسحاب القوات، ولكن بنيات مختلفة.
وكان أوباما قد أعلن في يونيو من عام ٢٠١١ عن جدول زمني للانسحاب على مدى عدة سنوات، وذلك بعد زيادة أولية. ويرى غيلفن أن هدف أوباما تمثل في إعلام الحكومة الأفغانية بعدم أبدية التزام الولايات المتحدة تجاه أفغانستان. وعلى هذا النحو، فقد تعيّن على الأفغان إعادة ترتيب بيتهم الداخلي، ليتولوا بعد ذلك زمام المعركة قبل مغادرة الولايات المتحدة للأبد.
وكان هذا الأمر في حقيقة الأمر بمثابة إعلان عن “أفغنة” الحرب، وبنيّةٍ مشابهة لسياسة “الفتنمة” التي اتبعها الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون. ففي عام ١٩٦٩، اقترح نيكسون استبدال القوات القتالية الأمريكية بقوات فيتنامية جنوبية لتخليص الولايات المتحدة من حربٍ بدت بلا نهاية. وكان ذلك هدف أوباما في أفغانستان أيضاً، إلا أن الظروف التي تعيشها هذه الدولة دفعت أوباما في نهاية ولايته الثانية إلى إبطاء الانسحاب.
وكان ترامب قد سخر من خطة أوباما عندما أعلن سياسته تجاه أفغانستان خلال السنة الأولى من رئاسته. وقال ترامب في هذا الخصوص إن “الظروف على الأرض هي ما سيوجه استراتيجيتنا من الآن فصاعداً، لا الجداول الزمنية الاعتباطية”.
وفي بداية المطاف، قام ترامب بدعم زيادة استخدام القوة بدلاً من “الأفغنة” لإجبار حركة طالبان، التي تحاربها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أفغانستان، على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
إلا أن حركة طالبان كانت لها أفكار أخرى حيال هذا الأمر. وعوضاً عن حصرها في الزاوية، فقد استطاعت حركة طالبان أن تحقق مؤخراً مكاسب ميدانية ورفضت الجهود الأمريكية للتفاوض من أجل التوصل إلى تسوية. وفي هذا السياق، قرر ترامب أن “الظروف على الأرض” تسمح بانسحاب جزئي.
ترامب في مواجهة أوباما: الشرق الأوسط الكبير
كانت سياسة أوباما في أفغانستان جزءاً من منهجية أوسع اتخذتها إدارته تجاه منطقة الشرق الأوسط. وبصورةٍ مماثلة لما ذكره في مواضع أخرى، فقد لفت غيلفن إلى أن أوباما كان على قناعة بأن الولايات المتحدة قد بذلت الكثير من الدماء والأموال ضمن منطقة الشرق الأوسط في عهد سلفه جورج دبليو بوش. ورأى أوباما أن مشكلات المنطقة المتجذرة لا تستحق بذل كل هذا العناء.
وكان أوباما على قناعة بأن آسيا الصاعدة اقتصادياً، لا الشرق الأوسط، ستكون مركز التنافس العالمي في القرن الحادي والعشرين. وبالتالي، فقد تمثل هدفه في إخراج الولايات المتحدة الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط و”التركيز على آسيا”.
وأراد أوباما تهدئة الأوضاع في الشرق الأوسط، ثم تحويل عبء الأمن على شركاء الولايات المتحدة هناك، مثل إسرائيل والسعودية، وبصورةٍ مماثلة لما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب الباردة. وعلى هذا النحو، فقد كانت سياسات الرئيس الأمريكي السابق تهدف إلى سحب القوات الأمريكية من المنطقة، وإبرام الاتفاق النووي الإيراني، واستئناف المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين. وقد كان بإمكان هذه الاستراتيجية تسهيل تحول الولايات المتحدة نحو آسيا.
ولكن لسوء حظ أوباما، فقد أعاقت الفوضى التي أحدثتها الانتفاضات العربية في ٢٠١٠-٢٠١١ تطبيق استراتيجيته الكبرى، علاوة على رفض شركاء الولايات المتحدة في المنطقة ما اعتبروه قطيعةً أمريكية، علماً بان سوء تنفيذ الاستراتيجية نفسها جعلها تتواجد في موقفٍ محرج.
وبصورةٍ مغايرة لما عليه الحال مع أوباما، فإن ترامب لم يعتمد أية استراتيجية تجاه منطقة الشرق الأوسط، سواءً أكانت هذه الاستراتيجية كبيرة أم صغيرة. ويرى صاحب المقالة أن كل ما قام به ترامب لا يتجاوز حاجز الانفعالات.
وكان قرار ترامب بسحب القوات من سوريا ارتجالاً عفوياً خلال مكالمة هاتفية مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان. فعندما سأل هذا الأخير ترامب عن سبب بقاء القوات الأمريكية في المنطقة، فإن رد الرئيس الأمريكي كان مفاجئاً وعلى النحو التالي: “أتعرف؟ سأترك المنطقة لك. سأترك المنطقة”.
وأثار هذا القرار حفيظة فريق الأمن القومي الأمريكي الذي افترض أن الولايات المتحدة ما تزال ملتزمة بمحاربة مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا إلى جانب دعم قوات سوريا الديمقراطية ذات الأغلبية الكردية، والتي ستتخلى عنها الولايات المتحدة الآن.
وهنا، يطرح غيلفن التساؤلات التالية في مقالته: “هل هذا يعني أن ترامب مستعدٌ للتخلي عن الحرب العالمية على الإرهاب، ناهيك عن التحالف الذي تقوده السعودية لوقف انتشار النفوذ الإيراني في المنطقة؟”. ويجيب على هذا التساؤلات بالقول: “في وقت ما بدا أن هذين الأمرين مركزيين في سياسة إدارة ترامب والآن يبدو أن هذا الأمر تغيّر”.
وبخروج القوات الأمريكية من سوريا، سيكون المجال متاحاً أمام الطموح الإيراني لتوسيع وجودها العسكري ونفوذها السياسي هناك – وهو أمرٌ لا يخيف المسؤولين في الولايات المتحدة فحسب، بل في السعودية وإسرائيل أيضاً. وقد زاد ترامب الطين بلة عندما أتبع عبارة “سأتركها لك” بتصريحٍ ارتجالي آخر، فقد قال في حوار مع الصحفيين: “تقوم إيران بسحب أتباعها من سوريا، إلا أنها تستطيع بصراحة فعل كل ما تريده هناك”.
ولا يعني أي من ذلك أن الالتزامات المفتوحة للولايات المتحدة في أفغانستان وسوريا والحرب العالمية على الإرهاب لا تستحق إعادة التفكير، وهوٌ أمر دعا له صاحب المقالة وعددٌ كبير من مراقبي هذا الشأن منذ سنوات.
ويختم غيلفن مقالته بالتالي: “في الوقت الذي نعيد فيه التفكير بهذا الشأن، من المهم أن نتذكر قولاً مأثوراً غالباً ما يتم ترديده في الأوساط العسكرية وهو: (استراتيجية بلا تكتيكات هي أبطأ طريق إلى النصر، لكن الاعتماد على تكتيكات دون وجود استراتيجية يعد بمثابة صخب ما قبل الهزيمة). وبوسع هذه العبارة أن تكون دليلاً مفيداً للتمييز بين منهجية أوباما وترامب تجاه الشرق الأوسط”.