لا تزال العدواة المعهودة المستمرة بين إيران والمملكة العربية السعودية سمة من السمات الجغرافية السياسية لمنطقة الشرق الأوسط. تمتلك كلا الدولتين سمعة على المستوى الإقليمي، إذ أنّ إيران الأكبر من ناحية الكثافة السكانية فضلاً عن باعها الطويل فيما يتعلق بالسيادة القومية، بينما تمتلك المملكة العربية السعودية احتياطات نفط ضخمة إلى جانب وصايتها على أقدس المواقع الإسلامية.
وقبل الثورة الإيرانية عام 1979، كانت العلاقات الإيرانية السعودية تسير على خير ما يرام دون أي حوادثٍ تُذكر. تحسنت فصول هذه العلاقة في ستينيات القرن الماضي، حيث صمد هذا التعاون في وجه التهديدات التي تعرض لها كلا الطرفان في ظل الوحدة العربية التي نادى بها جمال عبدالناصر، والتوغل المحتمل للاتحاد السوفياتي في إيران.
وسرعان ما أُعقب رحيل الوجود العسكري البريطاني من الخليج العربي عام 1971، مُباشرة سياسة خارجية أمريكية جديدة في المنطقة. حيث أعلن ريتشارد نيكسون سياسة عدم التدخل المباشر (سياسة العمودين)، والتي تقتضي إيجاد تقارب بين إيران والسعودية ليعملا معاً على حراسة المصالح الأمريكية في المنطقة. لعبت إيران الدور المزعوم بصفتها “الشرطة الإقليمية” في حين لعبت السعودية دوراً هاماً، لكن ليس مهيمناً، كحليف للولايات المتحدة في العالم العربي.
وفي ظل “سياسة العمودين” توسع التعاون بين إيران والسعودية ليشمل عمليات مشتركة لدحر العناصر الشيوعية في شمال اليمن، وزائير، والصومال، وعُمان، ولكن في أعقاب اغتيال الملك فيصل عام 1975، بدأت المملكة اتباع نهج جديد فيما يتعلق بالنفط، موردها الرئيسي. وجه شاه إيران آنذاك، رسالة شديدة اللهجة إلى منظّمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) منتقداً بخس سعر النفط لسنواتٍ عديدة، داعياً أعضاء (أوبك) الموافقة على رفع الأسعار.
توقع الشاه تعاون السعودية، ولكن بصفتها الرئيس الفعليّ لمنظمة الأوبك، أعلنت المملكة العربية السعودية في ديسمبر 1976 عدم رفع أسعار النفط. وبالتالي، كانت المملكة العربية السعودية قادرة على زيادة حصتها في السوق إلى جانب مراعاة المصالح الاقتصادية الغربية. في الوقت نفسه، كان الشاه يعتمد اعتماداً كبيراً على رفع أسعار النفط للحدّ من العجز المتزايد في ميزانية بلاده والحفاظ على الإنفاق العسكري المرتفع. تعاظم الشعور الداخلي في إيران بفشل برنامج الشاه الإقتصادي الإصلاحي في تلبية التوقعات بالكسب غير المرتقب من عائدات النفط.
وما أن تفجرت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، أصبح الدين واجهة هوية الدولة الإيرانية، فقد ادعى آية الله الخميني إحاطة الثورة بدعم إسلامي واسع النطاق كما سارع إلى انتقاد “انحطاط” النظام الملكي الوهابي السعودي. إندلعت أولى شرارات الخلاف بادعاء إيران أنّ الحكم الديني الشيعي سيُمسي صوت الإسلام الرسمي، ضاربةً عرض الحائط الشرعية الدينية للمملكة العربية السعودية بصفتها راعية الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة. فضلاً عن ذلك، أثارت المساعي الإيرانية استغلال وسائل الإعلام لتجيش الأقلية الشيعية في المملكة، المزيد من المخاوف في الرياض بشأن النوايا الإيرانية.
لذلك، عندما زار صدام حسين أول مرةً المملكة العربية السعودية في أغسطس 1980، حصل على مباركة الملك خالد لخططه غزو إيران في مخاض هذا التحول السياسي. قدمت المملكة مليارات الدولارات على شكل مساعداتٍ مالية لحملة صدام وضغطت على دول خليج أخرى لتحذو حذوها. وفي منتصف هذه الحرب التي استمرت ثماني سنوات، هاجمت إيران ناقلات نفطٍ سعودية، وكرد فعل سعودي أسقطت المملكة مقاتلتين إيرانيتيين بعد أن اخترقت الأجواء السعودية. وفي يوليو1987 قام بعض الحجاج الإيرانيين بمظاهرات عارمة وأعمال شغب أثناء موسم الحج عُرفت بأحداث مكة 1987، رافعين شعارات الثورة الإسلامية في إيران وصور مرشدها العام آية الله الخميني في المسجد الحرام، مما دفع قوات الأمن السعودية لإنهاء تلك التظاهرات، التي أسفرت عن مقتل 275 إيراني. ومع نهاية فصول هذه الحرب طويلة الأمد، لقي ما يُقدر بـ750,000 إيراني و500,000 عراقي حتفه
صراع وتعاون
بعد الحرب، سعت المملكة العربية السعودية إلى تحسين العلاقات مع إيران، حيث شرّعت وفاة الخميني عام 1989، إلى جانب الغزو العراقي للكويت عام 1990، أبواب تقارب متواضع بين البلدين. وكان الرئيس الإيراني أكبر هاشمي رفسنجاني حريصاً على استكشاف ما يمكن أن يُقدمه التعاون الإقليمي. حققت المفاوضات في منظمة أوبك مع المملكة العربية السعودية زيادة وصلت إلى 300,000 برميل يومياً في حصص الانتاج الايراني. ومع ذلك، ألقى في نهاية المطاف، النزاع المستمر مع دولة الإمارات العربية المتحدة وتفجير أبراج الخبر عام 1996 في المملكة العربية السعودية، بظلاله على جهود رفسنجاني، حيث انتشترت الأخبار بأنّ إيران لها اليدُ الطولّى بتلك التفجيرات.
تزامن انتخاب محمد خاتمي رئيساً للبلاد في عام 1997 مع هبوط أسعار النفط ونقل المزيد من السلطة إلى ولي العهد السعودي الأمير عبد الله، الذي كان أكثر دعماً للتعاون مع إيران. تطورت العلاقات بشكل سريع، مع زيارات غير مسبوقة من قبل خاتمي إلى الرياض وسلسلة من المبادلات الدبلوماسية. انعكس هذا التحسن الذي بلغ ذروته في اتفاقين، تم التوصل إليهما في عامي 1998 و 2001 على التوالي، الأول يتعلق باتفاق شامل واسع النطاق، والثاني يتمحور حول اتفاق أمني منقطع النظير. ولكن، تبيّن أنّ هذا التقارب الذي طال انتظاره، قصير الأجل.
عندما تمت الإطاحة بصدام حسين عام 2003 إبان الغزو الأمريكي البريطاني للعراق، اهتزت الدينامية الإقليمية بأكملها. كان السعوديون إلى جانب صدام حسين قادرين على تقديم أنفسهم آنذاك بوصفهم عنصر موازنة فعّال في وجه الطموح الإقليمي الإيراني، ولكن لم يعد بإمكان السعودية الاعتماد على هذه الدينامية. وما زاد الوضع سوءاً، الدعم الإيراني للحكومة الجديدة التي يُهيمن عليها الشيعة في العراق، مثل جيش المهدي وفيلق بدر، مما غرس الخوف لدى السعوديين من التدخل الايراني في المسرح العربي ونواياها التوسع في المنطقة.
عندما ظفر أحمدي نجاد بكرسي الرئاسة الإيرانية عام 2005، وعد بإعادة إحياء القوة الإيديولوجية لسنوات “ثورة الخميني” الأولى. لم يتجلى هذا فقط في تعزيز دور إيران في العراق، بل أيضاً في تعزيز علاقة طهران مع الحكومة السورية، وحزب الله في لبنان وحركة حماس الفلسطينية في قطاع غزة. كما سلط دعم أحمدي نجاد للقضية الفلسطينية الضوء على تراخي الدور السعودي في قضية تعدّ ذات أهمية في الشارع العربي.
لأكثر من ثمانين عاماً، تراوحت العلاقات الثنائية بين طهران والرياض بين شدٍ وجذب في خضم عداءٍ وتعاون، حيث امتازت بانعدام الثقة الراسخ بين الطرفين والتسرع في صنع القرار. ومن العوامل التي ساهمت في تأجيج توتر العلاقات بين البلدين، تسيس الحج والخلاف حول أسعار النفط وبخاصة قبل الثورة الإيرانية، إلا أن معركة الزعامة الإقليمية برزت وتجلت، إلى حدٍ كبير إبانّ ثورة 1979. في حين تم إصلاح تبعات الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنواتٍ عجاف داخلياً.
كانت محاولات التقارب بعد الحرب، في بعض الأحيان، واعدة ولكنها لم تستمر طويلاً، وباتت شبه مستحيلة تقريباً منذ عام 2003، مع تنامي الاستراتيجيات الطائفية. وجدت كل من إيران والمملكة العربية السعودية شركاء من دعاة الطائفية ليكونوا أكثر الأدوات فعاليّة في ترسيم حدود السلطة في جميع أنحاء المنطقة. ومن المعروف على نطاق واسع أنّ الصراعات المسلحة بالوكالة في كلٍ من العراق وسوريا واليمن ولبنان والانتفاضات السياسية في مصر والبحرين تحظى بدعم على المستويين السياسي والمادي من إيران والسعودية على حد سواء. وعلاوة على ذلك، ومنذ الكشف عن الأنشطة النووية الإيرانية السرية عام 2002، يخشى السعوديون المتغيرات الإيرانية طويلة الأمد، إلى جانب قدرة إيران الفذة على جذب دول المنطقة تحت مظلتها الأمنية.
تم استغلال الدعم الأمريكي من كلا الدولتين لسحب بساط السلطة من الطرف الآخر. وفي حين، يفضل السعوديون عدم تذكر سبعينات القرن الماضي، عندما كانت إيران الحليف الرئيسي للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، تتم تغذية الشكوك السعودية في ضوء الاتفاق النووي المحتمل، الذي دُشن عام 2014، بين إيران ومجموعة (5+1) التي تضم الدول الخمس دائمة العضوية في الأمم المتحدة بالإضافة إلى ألمانيا. وبالرغم من ذلك، تأمل المملكة العربية السعودية، أن تحالفها الاقتصادي والاستراتيجي طويل الأمد مع الولايات المتحدة سوف يحدّ من احتمالية العودة إلى مثل هذا الوضع سالف الذكر.