كان السؤال الأهم المطروح في البلديات ذات الغالبية الكردية في جنوب شرق تركيا هو ما إذا كان سيتم الاعتراف بمرشحي حزب الشعوب الديمقراطي اليساري، الذي فاز بأكبر عددٍ من الأصوات في الانتخابات المحلية في 13 مارس 2019، باعتبارهم فائزين بالإنتخابات. الآن، وبعد أن تلقى معظمهم المضبطة (الشهادة الرسمية) وتولوا مناصبهم كرؤساءٍ للبلديات، ظهرت قصة أخرى: الديون العامة المعطلة التي اكتشفها العُمد في مدنهم. خلف الكواليس، هناك قضيةٌ أخرى لا تزال قائمة: هل سيحصل العُمد الأكراد بالفعل على فرصةٍ للبقاء في مناصبهم لولايةٍ كاملة مدتها خمس سنوات؟
مع التركيز خلال الفترة التي تلت الانتخابات في الغالب على النتائج في إسطنبول، حيث يتنافس على الفوز بفارقٍ ضئيل مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض أكرم إمام أوغلو مع حزب العدالة والتنمية الحاكم التابع لرجب طيب أردوغان، إلا أن الوضع في الجنوب – الشرقي الكردي خارج نطاق تغطية معظم وسائل الإعلام. فقد فاز حزب الشعوب الديمقراطي في معظم المحافظات والبلديات الكبرى، ومع ذلك، فقد استغرق الأمر أياماً، وفي بعض الحالات أسابيعاً قبل أن يحصل الفائزون على المضبطة. فقد شكك حزب العدالة والتنمية بالانتصارات الكردية لأسباب متنوعة.
تمثلت إستراتيجية حزب العدالة والتنمية الأكثر نجاحاً بتوجيه الإستئناف أمام مجلس الانتخابات على أساس أن المرشح الفائز من حزب الشعوب الديمقراطي قد طرد من وظيفةٍ سابقة بموجب مرسوم حكومي. يرتبط هذا بمحاولة الانقلاب في صيف عام 2016، وذلك بعد أن أعلنت الحكومة حالة الطوارىء وأقالت عشرات الآلاف من الموظفين العموميين الذين لهم صلاتٍ مزعومة بـ “متآمري الانقلاب” و “الإرهابيين.” وعلى وجه الخصوص، استهدف حزب العدالة والتنمية من لهم صلاتٍ مزعومة بحركة غولين التي كانت، وفقاً لحزب العدالة والتنمية، وراء محاولة الانقلاب، وكذلك الأكراد. بعض أولئك من فقدوا وظائفهم ترشحوا لمنصب رئيس البلدية في البلدات الكردية وفازوا.
فقد قَبِل مجلس الإنتخابات، الذي كحال غالبية المؤسسات في تركيا يخضع لسيطرة حزب العدالة والتنمية ويتعرض لضغوطه، باستئناف حزب العدالة والتنمية. إن حقيقة أن نفس هذا المجلس من وافق على هؤلاء الأشخاص كمرشحين وعدم وجود قانونٍ يدعم إدعاء حزب العدالة والتنمية أمرٌ ليس ذو أهمية. ونتيجةً لذلك، في ست بلديات، تم تسليم المضبطة إلى المنافسين الذين حلوا في المرتبة الثانية، وجميعهم مرشحين عن حزب العدالة والتنمية.
أبرز هذه البلديات الست كانت باغلار، وهي مقاطعة تتبع مدينة ديار بكر، حيث حصل مرشح حزب الشعوب الديمقراطي زياد جيلان – الذي كان يعمل مدرساً قبل إقالته في عام 2016 – على 70% من الأصوات. وفي نهاية المطاف، تقلّد خصمه من حزب العدالة والتنمية، المنصب، بعد حصوله على ما نسبته 25% من الأصوات.
والبلديات الأخرى التي حدث فيها ذلك هي تشبه وإدرميت وكالديران (جميعها في محافظة وان) وتيكمان (أرضروم) وداغبينار (كارس).
في حين جرّب حزب العدالة والتنمية استراتيجيةً مختلفة في ماردين، حيث تغلب السياسي الكردي المخضرم أحمد ترك على خصمه من حزب العدالة والتنمية. اعترض حزب العدالة والتنمية على تعيينه على أساس أنه “كبيرٌ في السن ومريض” و”غير قادرٍ” على أداء مهامه. في هذه الحالة، رفض مجلس الانتخابات مطالب حزب العدالة والتنمية. أجاب ترك (76 عاماً): “ربما كبرت بالسن، ولكني أشعر أني شاب. أنظر إلى المستقبل بأمل، وسأؤمن دائماً بالسلام والديمقراطية وما زال لديّ ما أقوله.”
تجدر الإشارة إلى أن حزب الشعوب الديمقراطي لديه نظامٌ بمشاركة منصب رئيس البلدية، مع كل منصبٍ لرئاسة البلدية تشغله امرأة واحدة ورجلٌ واحد. ونظراً لأن هذا ليس له أي أساسٍ في القانون التركي، يتم تعيين واحد فقط من رؤساء البلدية رسمياً.
قلب الموازين
على الرغم من النجاح الذي حققه حزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات، خاصة بالنظر إلى أن الآلاف من أعضائه في السجن وكانت حملته، أكثر من حملاتٍ أخرى لأي أحزاب معارضة، مهملة من قبل وسائل الإعلام التركية، إلا أن الخريطة الإنتخابية تغيرت بشكلٍ كبير. فقد تحولت إحدى معاقل الحركة السياسية الكردية، وهي محافظة شرناق على الحدود العراقية، من حزب الشعوب الديمقراطي (الأرجواني) إلى حزب العدالة والتنمية (البرتقالي). كيف يمكن حصول هذا؟
إن نظرةً على وثيقة تسيجل الناخبين تخبرنا بالحقيقة. ففي جميع البلديات التقليدية لحزب الشعوب الديمقراطي، حيث فاز حزب العدالة والتنمية – بما في ذلك مقاطعة هكاري المجاورة لشرناق- ارتفع عدد الناخبين المسجلين منذ الانتخابات المحلية السابقة في عام 2014 بشكلٍ كبير. كان هذا ملحوظاً بشكلٍ خاص في المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة، حيث كان تسجيل بضع مئاتٍ من الناخبين الإضافيين كافياً لقلب الموازين.
فعلى سبيل المثال في أولوديري التابعة لشرناق، زاد عدد الناخبين بنسبة 80%، من 3,851 في عام 2014 إلى 6922 في هذا العام. ففي عام 2014، فاز حزب المناطق الديمقراطية، سلف حزب الشعوب الديمقراطي، بنسبة 79% من الأصوات، وحصل حزب العدالة والتنمية على المركز الثاني بنسبة 16%. وفي عام 2019، فاز حزب العدالة والتنمية بنسبة 59% من الأصوات وحصد حزب الشعوب الديمقراطي المركز الثاني بنسبة 33%.
شوهد نفس النمط في كوجلوكوناك (حيث فاز حزب العدالة والتنمية بفارقٍ ضئيل في عام 2014 وبفارقٍ كبير عام 2019) وفي بيت الشباب (2014 و2019). أما في المناطق الأكثر كثافةً سكانية (سيلوبي وإيدل وجزيرة ابن عمر)، حيث كان يتعين إضافة عددٍ كبير جداً من الناخبين لتغيير النتيجة، بقيت تحت قبضة حزب الشعوب الديمقراطي بشكلٍ كبير.
عاصمة المحافظة، وتسمى أيضاً شرناق، قصةٌ أخرى، فقد زاد عدد الناخبين بنسبة 20%. فاز حزب المناطق الديمقراطية هنا في عام 2014 بحصوله على 60% من الأصوات. وهذا العام ، فاز حزب العدالة والتنمية بنسبة 60%. من غير المرجح أن تكون هذه النتيجة نتيجةً لتسجيل الناخبين الجدد وحدهم. ومع ذلك، فإن هذه الصورة تتغير عندما يعلم المرء أنه في أواخر عام 2015 وأوائل عام 2016، غادر الآلاف من السكان المدينة بسبب حربٍ بين الحكومة التركية ومجموعة شباب وحدات حماية المرأة التابعة لحزب العمال الكردستاني المحظور. اندلعت هذه الحرب أساساً في الأحياء حيث كان دعم حزب الشعوب الديمقراطي قوياً وحيث لم يتمكن السكان الذين نزحوا من العودة إلى ديارهم بعد الحرب لأن أحياءهم أصبحت ركاماً.
لذا، من هم هؤلاء الناخبون الجدد؟ الجنود. في يوم الانتخابات، كانت وسائل التواصل الاجتماعي تزخر بالصور ومقاطع الفيديو للمركبات العسكرية التي تنقل الناخبين المسجلين حديثًا إلى مراكز الاقتراع والأفراد العسكريين الذين يرتدون الزي الرسمي ويدلون بأصواتهم.
الديون الطاحنة
يعتبر حزب الشعوب الديمقراطي نتيجة الانتخابات فوزاً. فبعد محاولة الانقلاب في عام 2016، استبدل حزب العدالة والتنمية رؤساء البلديات الأكراد في معظم البلديات في الجنوب الشرقي بـ “أمناء” تم تعينهم واعتقل وسجن رؤساء البلديات المنتخبين بتهم الإرهاب المتنوعة (عادةً بسبب الخطب التي قدموها). استعاد حزب الشعوب الديمقراطي جميع هذه البلديات، كما تعهد، باستثناء شرناق.
حصل هذا ليكتشفوا في النهاية، أنه في كثيرٍ من الحالات، كانت خزائن البلدية فارغة. شريط فيديو سُجل في مبنى بلدية ديار بكر ونشر على وسائل التواصل الاجتماعي ينقل هذا الواقع، حيث يظهر عمدة ديار بكر الجديد، سلجوق مِزراكلي، وهو يسير داخل المبنى. ظل صامتاً في البداية إلى أن اتجه إلى إحدى الغرف الرئيسية ولا يرى شيئاً سوى البهرجة: طاولة خشبية ضخمة لامعة مع كراسي فاخرة ومصابيح إنارة باهظة الثمن وتفاصيل من الذهب. كانت إحدى الغرف المجاورة هي “الحمام الخاص” بسلفه، الذي كان في السابق مستودعاً وبات الآن مغطى بجدرانٍ رخامية. وبحسب ما يُقوله مِزراكلي، “لم يسبق لهم [حزب العدالة والتنمية] أن وصلوا إلى المناطق الفقيرة في ديار بكر،” وأضاف “لا يمكنهم فهم وضع الفقراء.”
ومن الأمثلة الملموسة محافظة وان، التي سيطر عليها “الأمناء” الذين عينتهم الحكومة في عام 2016. فخلال ثلاث سنوات، انفجرت ديون وان من 380 مليون ليرة تركية (62,6 مليون دولار) إلى 1240 مليار ليرة تركية (208 ملايين دولار). كما تبلغ ديون بلدية ديريك في مقاطعة ماردين 15 مليون ليرة تركية (2,5 مليون دولار) بعد ثلاث سنواتٍ من حكم حزب العدالة والتنمية، مما يجعل إدارة حزب الشعوب الديمقراطية الجديدة غير قادرةٍ على استخدام الـ200,000 ليرة تركية المتبقية في ميزانيتها.
يبقى أن نرى ما إذا كان حزب العدالة والتنمية سيستبدل رؤساء بلديات حزب الشعوب الديمقراطي من جديد برجاله (وليس النساء). انتهت حالة الطوارىء وما يرتبط بها من صلاحياتٍ استثنائية للحزب الحاكم، لكن إذا ما احتاج حزب العدالة والتنمية إلى قانونٍ للتخلص من معارضيه، خاصة إذا ما كانوا أكراداً، فلن يتردد في تمرير القانون عبر البرلمان. أو يمكنه ببساطة، كما فعل في كثيرٍ من الأحيان من قبل، استخدام قانون مكافحة الإرهاب رحب الأفق لإزالة مسؤولي حزب الشعوب الديمقراطي المنتخبين من مقاعدهم وإرسالهم إلى السجن. الزمن وحده كفيلٌ بالإجابة عن ذلك.