طوال مسيرته التي تجاوزت الأربعة عقود على المسرح السياسي السوداني، ظل السيد علي عثمان محمد طه (1944) شخصيةً فعالة ونشطة ومثيرةً للجدل في الوقت نفسه. وبالرغم من إقالته من آخر منصبٍ رسمي كنائبٍ أول لرئيس الجمهورية في ديسمبر 2013، إلا انه ظل شخصيةً مهمة حتى الآن. فقد نقلت صحف الخرطوم في أواخر سبتمبر 2016، أنه يعكف على كتابة تقييمٍ لـ”المشروع الحضاري الإسلامي” في السودان عقب حكم الإسلاميين فيها منذ عام 1989. وقد تساءل الكثيرون عن مغزى الشروع في تقييم مثل هذا في الوقت الذي يستعد فيه الرئيس عمر البشير للإعلان عن مقررات حوارٍ وطني استمر أكثر من عامين.
وكانت ضجة مماثلة قد تعالت بعد لقاء عقده السيد علي عثمان مع عددٍ كبيرٍ من شباب حزب المؤتمر الوطني الحاكم في يونيو 2016، تناول فيه تجربة حكم الإسلاميين في السودان من موقفٍ نقدي، حيث دعا الحركة الإسلامية إلى عدم احتكار السلطة مقارناً بين مناهج حركة النهضة التونسية التي اعادت قراءة الواقع بشكل جيدٍ ونظيرتها السودانية التي لا تفعل ذلك. وقد اثارت دعوته حفيظة بعض خصومه من الإسلاميين.
وكان قبلها موضع اهتمامٍ واسع بعد أن أذاع شيخه الترابي في لقاءٍ تلفزيوني مع قناة الجزيرة في مايو 2016، بُث بعد وفاة الترابي، أن طه كان وراء المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا في 26 يونيو 1995؛ المزاعم التي نفاها طه جملةً وتفصيلاً.
نجمٌ سياسيٌ صاعد
علي عثمان طه الذي ولد لأسرةٍ بسيطة الحال في المحافظة الشمالية، ينحدر من قبيلة الشايقية، وهو متزوج ولديه ثلاثة بناتٍ وولدين.
سطع نجمه السياسي في العام 1970 حين انتخب رئيساً لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم ممثلاً لحركة الاخوان المسلمين التي كان قد انضم اليها أثناء دراسته الثانوية. كانت حركة الاخوان المسلمين بقيادة الدكتور حسن الترابي تخوض وقتها مقاومة عنيدة لنظام الرئيس الأسبق نميري المتحالف مع الشيوعيين والقوميين العرب. ومنذ ذلك الوقت لفت الطالب طه تقدير واهتمام شيخه واستاذه الترابي، وأصبح تاريخه الشخصي سجلاً آخر للتاريخ المعاصر للحركة الإسلامية في السودان.
انتخب طه نائباً في مجلس الشعب القومي (البرلمان) عام 1977، بعد المصالحة الوطنية التي أنجزها الاخوان المسلمون مع خصمهم جعفر النميري قبل عامٍ واحد. ودفع به شيخه الترابي للصفوف الاولى واختاره رائداً لمجلس الشعب (رئيس الكتلة البرلمانية للاتحاد الاشتراكي الحاكم). اعتبر العديدون هذه الخطوة جزءاً من محاولة الترابي الحد من نفوذ القيادات التاريخية لحركة الاخوان المسلمين بتصعيد تلاميذه الجدد، وكان طه من انجبهم، وبقي عضواً في البرلمان لثلاث دورات، وصار منذ ذلك الوقت اليد اليمنى لشيخه حتى فرّق الصراع على السلطة بينهما عام 1999.
عندما انقلب النميري، قبل سقوطه بشهرٍ واحد، على الإسلاميين وزج بقادتهم ومن ضمنهم الترابي في السجون في أبريل 1985، كان طه من القلائل الذين تمكنوا من الهرب والاختفاء، وأصدر من مخبئه في الخرطوم بياناً يُحذر فيه النميري من المساس بقيادات الاسلاميين.
ومرةً أخرى، انتخب طه نائباً في البرلمان عام 1986، وأصبح هذه المرة زعيماً للمعارضة لحكومة الصادق المهدي الائتلافية بعد ان أعيد تسمية حركة الاخوان (جناح الترابي) بالجبهة الإسلامية القومية.
الصعود الثاني
بدأت مرحلة الصعود الثانية لعلي عثمان محمد طه باستيلاء الجيش على السلطة بالتعاون مع الإسلاميين (الجبهة القومية الإسلامية) في 30 يونيو 1989. وفي عام 1993، صممت له وزارة خاصة لم يسبق لها مثيل، سُميت وزارة التخطيط الاجتماعي، لتتولى إعادة صياغة الانسان السوداني وفقاً للرؤى الأيديولوجية للإسلاميين الحاكمين. وتتمثل أهداف الوزارة في “أن يكون السودان خير مجتمعات العالم النامي ديناً وخلقاً وثقافةً ومعاشاً وبيئةً،” وتتولى المسئولية عن التربية الدينية للمجتمع، وإدارة قوات الدفاع الشعبي (مليشيا إسلامية حكومية) ومحو الأمية، وتدعيم الأسرة والمرأة والرياضة للجميع. وبالطبع، لم تتمكن مؤسسة تنفيذية حكومية من إنجاز مهمة دينية طوباوية كتلك التي أوكلت للشيخ علي.
ومن عام 1988 حتى العام 1995، أصبح طه وزيراً لخارجية السودان في فترةٍ مضطربة من تاريخه، تحالفت فيها الحكومة مع الحركات الراديكالية الإسلامية وانعزلت عن المحيط الإقليمي والدولي. وفي نفس الوقت، انتقل أسامة بن لادن للسودان وانطلق منفذو محاولة اغتيال حسني مبارك من الخرطوم بمعرفةٍ من سلطاتها، سواء تورط فيها طه شخصياً أو لم يفعل.
كوزيرٍ للخارجية، كان طه متحدثاً معتدلاً، وحاول جاهداً تخفيف العزلة الدولية للسودان، وبدا على أتم الاستعداد للتعامل مع الغرب، الأمر الذي لم يكن بالمهمة السهلة في ظل نظامٍ يهيمن عليه الترابي، الذي لم يكن يلقى قبولاً من قِبل المجتمع الدولي.
بدأت الشقة تتوسع بين علي عثمان وشيخه الترابي عرّاب النظام، قبل تعيين الأول نائباً أول لرئيس الجمهورية في فبراير 1998. وتفاقمت بالحلف الذي انعقد بين الرئيس البشير ونائبه طه للحد من نفوذ الترابي، إلى أن وصلت إلى عزل الترابي من منصبه كرئيسٍ للبرلمان في 12 ديسمبر 1999، وإيداعه السجن لاحقاً فيما عرف وقتها بالمفاصلة بين الإسلاميين.
صانع سلامٍ أم مفتاح الإنفصال؟
ومن المفارقات أن أهم انجاز لعلي عثمان كسياسي قد انتهت بإنزال رتبته من نائبٍ أول للرئيس لنائبٍ ثانٍ، وذلك عقب توقيع اتفاقية السلام الشامل مع العقيد جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، الذي فاوض عليها طه لسنوات، في التاسع من يناير 2005. وضعت الاتفاقية حداً للحرب الاهلية في السودان التي دامت 22 عاماً وجعلت من جون قرنق نائباً أول لرئيس الجمهورية. لكن اتفاقية السلام انتهت بإجراء استفتاءٍ قضى بفصل جنوب السودان عن شماله في يوليو 2011، وألقت بالبلاد إلى أزمةٍ لم يتعافى منها بعد، إثر ذهاب أكثر من 70% من موارد النفط الذي كان يعتمد عليه الاقتصاد للجنوب. لكن الكثيرون يحملون نائب الرئيس والمفاوض طه مسئولية انفصال جنوب البلاد، بل وطالب أحد خصومه الإسلاميين بمحاكمته بتهمة الخيانة العظمى لتوقيع ذلك الاتفاق.
تولى طه أيضاً ملف أزمة دارفور عامي 2003 و2004، وهي الأعوام التي شهدت اندلاع التمرد وبعض المعارك الأسخن وبداية استخدام مليشيات القبائل العربية المحلية ضد المتمردين في درافور. وذكر تقريرٌ لمنظمة العفو الدولية أن نائب الرئيس طه كان على صلةٍ شخصية بالزعيم القبلي المحلي موسى هلال، الذي اتهم بارتكاب فظائع ضد قبائل دارفور الافريقية وان طه هو الذي اطلق سراحه من السجن الذي كان يقبع فيه.
بعد انفصال الجنوب، عاد طه لمنصبه السابق كنائبٍ أول لرئيس الجمهورية ولمواصلة صراعه السابق مع الشيخ الترابي الذي تزعم حزباً إسلامياً معارضاً أسماه حزب المؤتمر الشعبي وخاض به خصومة مريرة ضد الرئيس البشير ونائبه وتلميذه العاق على عثمان. إضافة لشيخه الترابي، صنع طه لنفسه خصوماً جدد وسط حزبه الحاكم وحركته الإسلامية بسبب خلافاتٍ كبيرة وصغيرة تراكمت طوال بقائه نائباً للرئيس لثلاثة عشر عاماً.
كان الدكتور نافع علي نافع، القيادي النافذ في الحزب الحاكم الذي تولى مناصب هامة منها رئيس جهاز الأمن لسنوات، أحد أهم خصوم على عثمان وأقواهم وقد تنافسا على كسب ود الرئيس البشير. وقد أدى هذا الخلاف لإضعاف كليهما، بل وأضعف تمثيل الإسلاميين المدنيين في السلطة عندما نحى الرئيس البشير نائبه علي عثمان محمد طه وعيّن بدلاً عنه الفريق بكري حسن صالح نائباً أول لرئيس الجمهورية، وصديقه الفريق عبد الرحيم حسين والياً للخرطوم والدفع بمزيد من العسكريين للجهاز التنفيذي على حساب الإسلاميين الذين لا يزالون يشكلون العمود الفقري السياسي للنظام.
وخلال أربعة عقود من الصراعات السياسية والصعود من أسفل السلم إلى قمته، اثبت طه إلى حدٍ كبير أنه لم يكن صنيعة الترابي. فقد مكنته قدراته السياسية والقيادية من البقاء على الخطوط الأمامية للحركة الإسلامية وتجاوز أجواء السياسة السودانية العاصفة. هذا وتعتبر الحكومة في الخرطوم واحدةً من الأكثر فساداً في تاريخ البلاد، ولكن تمكن طه من الحفاظ عليها دون أن تشوبها شائبة.
بل إن تنحيته من المواقع التنفيذية حالياً لا يعني نهاية حياته السياسية، فلا يزال عضواً مؤثراً في قيادة حزب المؤتمر الوطني، كما أن التحالفات السياسية المتغيرة قد تدفع به من جديد للمقدمة.