إن سياسة الباب المفتوح التي كانت تتبعها تركيا ذات يوم تجاه اللاجئين السوريين تتعرض لخطرٍ بالغ وسط مشاعر كراهية الأجانب المتزايدة في البلاد.
ففي منتصف يوليو 2019، أعلنت السلطات في إسطنبول عن خطةٍ لتقييد عدد السوريين غير المسجلين والعمال غير الرسميين في المدينة، كجزءٍ من حملة ضد “الهجرة غير الشرعية.”
وفي بيانٍ لها، أكدت السلطات أنه سيتم إعادة السوريين غير المسجلين على نحوٍ ملائم، بعد 20 أغسطس، إلى المدن حيث تم تسجيلهم لأول مرة عند وصولهم إلى تركيا، أو سيتعرضون لخطر الترحيل.
ومنذ ذلك الحين، تم تمديد الموعد النهائي إلى 30 أكتوبر، إلا أن وزير الداخلية سليمان صويلو كرر التأكيد على أن العدد الكبير من اللاجئين غير المسجلين في اسطنبول يفرض عبئاً كبيراً على الخدمات العامة.
فتركيا تستضيف حوالي 3,6 مليون لاجىء سوري تحت الحماية المؤقتة. ووفقاً للأرقام الرسمية، تم تسجيل أكثر من 540 ألف شخص بشكلٍ قانوني في إسطنبول. وتزعم السلطات أن المدينة وصلت إلى طاقتها الاستيعابية القصوى ولا يمكنها قبول المزيد من اللاجئين.
من جهتها، بررت الحكومة خطتها باعتبارها وسيلةً لنشر اللاجئين على نحوٍ أكثر إنصافاً في جميع أنحاء البلاد. كما يتم تنفيذ مبادرة مماثلة في العاصمة أنقرة وبورصة، حيث يُعتقد أنهما تؤويان أعداداً أكبر من اللاجئين بشكلٍ يفوق قدراتهم.
ففي العام الماضي فحسب، دحض صويلو المزاعم حول التأثير السلبي للاجئين السوريين على اقتصاد تركيا وأمنها، مضيفاً أنهم ارتكبوا جرائم أقل من أي مجتمعٍ آخر.
وبالنسبة للعديد من المراقبين، ينبغي النظر إلى تغير موقف الحكومة في سياق الانتخابات البلدية التي أجريت في مارس 2019 في إسطنبول، حيث خسر الحزب الحاكم بزعامة رجب طيب أردوغان، حزب العدالة والتنمية، عمادة المدينة أمام منافسه من حزب الشعب الجمهوري. وعليه، ألقى حزب العدالة والتنمية باللائمة على المعارضة الشعبية لسياساته السابقة تجاه اللاجئين.
فقد وصف أكرم إمام أوغلو من حزب الشعب الجمهوري المعارض والذي فاز بالسباق الإنتخابي لبلدية اسطنبول، وضع اللاجئين بـ”الصدمة الخطيرة،” حيث رددت كلماته صدى المخاوف المتنامية بشأن المنافسة الحاصلة بين السكان واللاجئين على الوظائف التي لا تتطلب مهاراتٍ كبيرة. كما صرح إمام أوغلو لإحدى القنوات الإخبارية أن اللاجئين يغيرون التركيبة السكانية للمدينة.
ووفقاً لإحدى الدراسات الاستقصائية، يصنف الأتراك قضية اللاجئين السوريين على أنها ثاني أكبر مشكلة في البلاد، بعد الوضع الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما ينظر إلى هذين الموضوعين على أنهما مرتبطان ببعضهما البعض، إذ أنه عندما أعلن أردوغان أن تركيا أنفقت ما يقرب من 40 مليار دولار على اللاجئين، تعرض لانتقادات واسعة لعدم إنفاقه هذه الأموال على المواطنين الأتراك المحتاجين.
كما تأججت العداوات تجاه اللاجئين بسبب المخاوف الاجتماعية والاقتصادية، والأنشطة الإجرامية المزعومة من قبل العصابات أو الأفراد السوريين والاتهامات بالتحرش الجنسي بالنساء والأطفال الأتراك – إذ أشعل السبب الأخير فتيل الاشتباكات بين المجتمعات المضيفة واللاجئين.
وبحسب دراسةٍ أخرى أجرتها مجموعة كوندا للأبحاث، في الفترة ما بين فبراير 2016 ويوليو 2019، ارتفع عدد الأشخاص الذين قالوا إنهم لن يعيشوا في نفس المدينة مع ارتفاع معدلات السوريين من 28% إلى 60%.
دفع هذا العداء واسع النطاق أردوغان، الذي كان يطلق على اللاجئين سابقاً وصف “الإخوة” و”الضيوف،” إلى إجراء تحولٍ جذري في السياسة. فقد وصفت جونول تول، المديرة المؤسسة لمركز الدراسات التركية التابع لمعهد الشرق الأوسط، التحول بأنه انتقال من “الإسلام المتعاطف” إلى نهج “تركيا أولاً.”
تهدف بعض الإجراءات إلى تقليل وضوح وجود اللاجئين السوريين، بما في ذلك إزالة لافتات المتاجر باللغة العربية في جميع أنحاء البلاد في محاولةٍ لتخفيف المرارة الشعبية بسبب وجودهم. ومنذ عام 2011، أدى تدفق اللاجئين إلى انتشار واجهات المتاجر العربية، التي تذكرنا ببعض المخاوف التاريخية المتعلقة بالهوية التركية، والتي لا علاقة لها بأزمة اللاجئين. ففي عام 1928، فرض مؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، استخدام الأحرف اللاتينية بدلاً من الأحرف العربية.
ووفقاً للأرقام التي ذكرها وزير التجارة روحار بيكان، فإن أكثر من 15 ألف شركة توظف حوالي 100 ألف شخص قد أنشأها سوريون، أو لديهم شريك سوري، غالبيتهم في إسطنبول ومرسين وبورصة ومحافظات هاتاي وغازي عنتاب. كما يدير اللاجئون السوريون شركاتٍ صغيرة غير مسجلة، مما أثار انتقاداتٍ من الأتراك الذين يتهمونهم بعدم دفع الضرائب، مما أسفر عن منافسة غير عادلة.
كما اكتسبت قضية اللاجئين أهميةً أكبر مع تقدم قوات النظام السوري إلى آخر معقلٍ رئيسي للمتمردين في محافظة إدلب الشمالية الشرقية، مما أجبر عشرات الآلاف من الناس على الفرار عبر الحدود التركية.
ومن الجدير بالذكر أن محافظة إدلب تقع في الغالب تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، الفرع السابق لتنظيم القاعدة في سوريا، ويسكنها اليوم حوالي 3 ملايين سوري، غالبيتهم العظمى من المدنيين.
كما ظهرت شكاوى بشأن عمليات الترحيل القسري. فخلال مؤتمرٍ صحفي عُقد في 28 يوليو، قال صويلو: “هذه المسألة تتعلق فقط بالهجرة غير النظامية وغير القانونية،” مضيفاً “إنه أمر غير وارد وغير مقبول بالنسبة للشعب السوري الذي يخضع للحماية المؤقتة، والأجانب الذين مُنحوا وضع الحماية الدولية أو الأشخاص الذين لديهم تصاريح إقامة في بلدنا أن يتم ترحيلهم.”
وقبل أربعة أيام، رفض الوزير مزاعم الترحيل، بيد أنه أصر على أن السوريين الذين عادوا طوعاً إلى سوريا يمكنهم الاستفادة من الإجراءات التي تسمح لهم بالعودة إلى “المناطق الآمنة.”
وقالت الحكومة إنه منذ عام 2016، عاد أكثر من 330 ألف لاجىء إلى المناطق الخاضعة للسيطرة العسكرية التركية في شمال سوريا، بعد توقيع وثيقة باللغة العربية تفيد بأنهم عادوا طوعاً إلى هذه المناطق فقط. كما رصدت وكالة الأمم المتحدة للاجئين 62 ألف حالة فحسب حتى الآن.
ووفقاً لموقع المونيتور الإخباري، فإن أرقام معبر باب الهوى الحدودي تروي قصة مختلفة، حيث تم ترحيل 4370 سوري في يونيو و6160 في يوليو عبر هذا المعبر وحده.
تم إطلاق مبادرة “نريد أن نعيش معاً” كرد فعلٍ على العدد المتزايد لعمليات الترحيل الواردة. وبحسب المجموعة التي تتخذ من اسطنبول مقراً لها، والتي تضم أعضاء من المجتمع المدني والبرلمانيين والعاملين في المنظمات غير الحكومية والدعاة للتعايش ورفض عمليات الترحيل، فإن العديد من عمليات الترحيل تستهدف السوريين الذين يتمتعون بوضع حماية مؤقت، على عكس بيان الحكومة.
ودعت هيومن رايتس ووتش تركيا إلى حماية الحقوق الأساسية لجميع السوريين، قائلة: “السلطات التركية تحتجز وتكره السوريين على توقيع نماذج تذكر رغبتهم بالعودة إلى سوريا ومن ثم تقوم بإعادتهم قسراً.”
وبحسب بعض المحامين، تستغل السلطات ثغرةً قانونية لإجبار اللاجئين على توقيع هذه النماذج وترحيلهم على وجه السرعة.
وفي مقابلةٍ مع صحيفة الجارديان، قالت محامية حقوق الإنسان ياسمين أوزتكركان إنه لا يتم احترام أي من فترات الانتظار القانونية، “عادة ما يستغرق الأمر شهوراً، لكننا نرى الآن أن عمليات الترحيل تنفذ خلال أقل من 48 ساعة. تقول [السلطات] إنهم يأخذون [اللاجئين] إلى محافظةٍ أخرى، لكن عملائنا يتصلون بنا من سوريا.”
ومنذ عام 2016، استخدمت تركيا قضية اللاجئين كورقة مساومة في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي. فقد وعد الاتفاق الذي تم بين الاتحاد الأوروبي وتركيا في ذلك الوقت تركيا بنحو 7 مليارات دولار بين عامي 2016 و2019. تمثل الهدف آنذاك بوقف الهجرة عبر بحر إيجه وإعادة جميع المهاجرين الذين يصلون بشكل غير قانوني إلى الشواطىء الأوروبية إلى تركيا، بالإضافة إلى تحسين الظروف المعيشية للاجئين السوريين في تركيا.
في المقابل، وافق الاتحاد الأوروبي على منح المواطنين الأتراك حرية دخول أوروبا بدون تأشيرة. ومن الجدير بالذكر أن القوانين الدولية والتركية تحظر إعادة أي شخص إلى مكانٍ يواجه فيه خطراً حقيقي بسبب الاضطهاد أو التعذيب أو غيره من ضروب سوء المعاملة. وعليه، فإن الصفقة قائمة، على حد تعبير منظمة العفو الدولية، على إفتراضٍ “غير صحيح ولكن تم تجاهله عن قصد، وهي أن تركيا بلد آمن للاجئين وطالبي اللجوء.”